أعربت الولايات المتحدة الأمريكية على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، يوم الأربعاء 10 نوفمبر/تشرين الثاني، عن قلقها بشأن "نشاطٍ عسكريٍّ روسي غير عادي" بالقرب من الحدود الروسية مع أوكرانيا، في ظلِّ حشدٍ عسكريٍّ "غير مُبرَّر".
وفي الأسبوع الماضي، أكَّدَت وزارة الدفاع الأوكرانية أن 90 ألف جندي روسي أصبحوا يتمركزون عبر حدودها، رغم أنه ليس من الواضح عدد القوات التي تمركزت هناك مؤخَّراً على وجه التحديد. ويأتي القلق الأمريكي في سياق تقارير تحصَّلَت عليها الأقمار الصناعية بأن الدبابات والمدفعية الروسية قد تحرَّكَت بالقرب من الحدود الشمالية لأوكرانيا في الشهر الماضي، أكتوبر/تشرين الأول.
وتكرِّر المخاوف بشأن التعزيزات العسكرية أصداءً مماثلة في أبريل/نيسان، عندما أثارت زيادة القوات الروسية بالقرب من أوكرانيا قلق كييف والقوى الغربية. في ذلك الوقت، بدَّدَت روسيا هذه المخاوف من خلال سحب بعض القوات في نهاية المطاف. إذاً ما الذي تغيَّر هذه المرة؟
روسيا تهدد أوكرانيا وحلفاءها الغربيين
على عكس ما حدث في أبريل/نيسان، لا يمكن تفسير تحرُّكات الجيش من خلال التدريبات كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، وقد تسبَّبَت في قلقٍ كافٍ في إدارة بايدن، حيث أُرسِلَ مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ويليام بيرنز، إلى موسكو الأسبوع الماضي لتحذير المسؤولين الروس من أيِّ تصعيدٍ آخر.
تسبَّبَت أنشطة روسيا أيضاً في زعزعة استقرار حلفاء الولايات المتحدة. وكان المدير السياسي لمكتب الشؤون الخارجية والكومنوِلث والتنمية في المملكة المتحدة، في واشنطن هذا الأسبوع في زيارةٍ كانت مُقرَّرة من قبل. وكانت التحرُّكات العسكرية الروسية من بين البنود التي نوقِشَت.
وقال مسؤولٌ بريطاني، متحدِّثاً إلى مجلة Foreign Policy إن التحرُّكات العسكرية الروسية "مُقلِقة"، و"غير مفيدة"، وإن بريطانيا والولايات المتحدة تشاركان وجهات نظر مماثلة بشأن الوضع. وأشار المسؤول إلى أن بريطانيا لم تكن الأكثر شعوراً بالقلق في ما يتعلَّق بالتحرُّكات غير المُبرَّرة.
لكن في الوقت الحالي، الكرملين فقط هو من يعرف تفسير هذه التحرُّكات العسكرية. لكن معظم المراقبين، بحسب ما ذكر موقع محطة ABC الأمريكية، خلصوا في الوقت الحالي إلى أن هذه التعزيزات الواضحة للغاية هي على الأرجح من أجل التهديد، على الرغم من أن التصعيد لا يزال مُحتَمَلاً.
استخدام أوكرانيا للطائرات المسيَّرة التركية سبب آخر للتصعيد
يقول المستشار السابق لأمين مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني، أوليكسي سيميني، في مقابلةٍ اليوم الجمعة 12 نوفمبر/تشرين الثاني إن "الوضع الآن بشكلٍ عام أفضل مِمَّا كان عليه قبل أسبوع".
وأضاف: "أودُّ أن أقول إن احتمالية الحرب الحقيقية أو حتى الصراع العسكري متوسط الحجم منخفضةٌ. لكن هذا لا يعني أن الوضع لا يمكن أن يتغيَّر".
وحذَّر المحلِّل العسكري الروسي وطالب الدكتوراه في كلية كينغز في لندن، روب لي، من أن التعزيزات العسكرية، رغم كونها إشارةً غير مُرجَّحة على غزوٍ وشيك، قد تشير لدولٍ قويةٍ أخرى في المنطقة (تركيا على وجه الخصوص)، إلى أن روسيا لا تزال قوةً يجب أن يُحسَب لها حساب.
وخلال العام الماضي، أحدثت الطائرات التركية المسيَّرة تغييراً في قواعد اللعبة في كلٍّ من ناغورنو قره باغ وليبيا. وأثار استخدام أوكرانيا للطائرات المسيَّرة التركية ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا، في منطقة دونباس الشرقية، إدانةً من الكرملين، الذي وصف دخول هذه الطائرات المسيَّرة إلى الصراع بأنه مُزعزِعٌ للاستقرار.
وتهدِّد عملية التعزيز العسكري الروسي بإضفاء التوتُّر على فترةٍ من الودِّ النسبي في العلاقات الأمريكية الروسية، حيث يسعى المسؤولون من كلا البلدين إلى التعاون بشأن الاتفاق النووي الإيراني والمخزونات النووية الإيرانية. وبالنسبة إلى روب لي، فإن أيَّ إجراءٍ روسي في أوكرانيا يمكن أن يخل بهذا التوازن ويقود إلى ردِّ فعلٍ أمريكي قوي لا يستحق المخاطرة. وقال: "يدور السؤال الآن حول ماهية تحليل التكلفة والعائد. لا أعتقد أن هناك أيَّ قطعة أرض في أوكرانيا مهمة بما يكفي لتبرير التكلفة والعواقب جراء ذلك".
هل تكون مبيعات الناتو من الأسلحة إلى أوكرانيا الشرارةَ التي تشعل حرباً جديدة مع روسيا؟
وحول تسليح أوكرانيا، تقول مجلة The National Interest الأمريكية إن الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو باتوا منهمكين في عملهم على تسليح لكييف والانكباب على غير ذلك من الإجراءات التي تحث قادتها على الاعتقاد بأن لديهم دعماً غربياً قوياً مع مواجهتهم مع روسيا والانفصاليين المدعومين منها.
ومع أن الصراع بين الحكومة الأوكرانية والقوات الانفصالية ظلت ناره خافتة في السنوات الأخيرة بفضل اتفاقيات مينسك الهشة، فإنه بدأ يكشف مؤخراً عن علامات لا لبس فيها على الاحتدام. وتؤدي هذه التطورات إلى تفاقم التوترات الخطيرة بالفعل بين كييف وموسكو، وهو ما أفضى إلى شيوع متزايد للتكهنات بأن روسيا ربما تُقدم على غزو أوكرانيا.
وتعتقد المجلة الأمريكية أن القادة الغربيين ينتهجون استراتيجية متهورة تزايدت على أثرها التحذيرات الصريحة من مسؤولي الكرملين. ففي مناسبتين منذ أوائل فبراير/شباط، قامت روسيا بتحركات عسكرية منذرة بالسوء بالقرب من حدودها مع أوكرانيا. وكانت إدارة بايدن أعلنت قبلها بفترة وجيزة عن صفقة جديدة لبيع أسلحة بقيمة 125 مليون دولار إلى أوكرانيا. وعلى الرغم من تعليق الصفقة مؤقتاً في يونيو/حزيران، فقد تسلمت أوكرانيا أسلحة بقيمة 60 مليون دولار من الصفقة خلال زيارة وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، إلى كييف في أواخر أكتوبر/تشرين الأول.
وإلى جانب أمريكا، فقد شرعت تركيا العضو بارز في الناتو، في تسليح الجيش الأوكراني بطائراتها المسيرة كما ذكرنا، وهو ما دفع موسكو لتوجيه احتجاجات قوية لكل من أوكرانيا وتركيا. ومع ذلك، فإن صفقات الأسلحة ليست سوى عنصر واحد من الدعم المتزايد لأوكرانيا من جانب الولايات المتحدة وبعض حلفائها في الناتو.
فقد أعرب الرئيس الأمريكي جو بايدن مراراً وتكراراً عن تمسُّك واشنطن بدعم سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها ضد ما سماه "العدوان الروسي". وأجرت القوات الأمريكية والأوكرانية مناورات عسكرية مشتركة في عدة مناسبات، وانضمت القوات الأوكرانية إلى التدريبات العسكرية لحلف شمال الأطلسي. بل إن أوكرانيا استضافت أحدث نسخة من تلك المناورات في سبتمبر/أيلول 2021. وبضغط من واشنطن، يجري التعامل مع أوكرانيا في كل شيء كما لو أنها عضو في الناتو لا ينقصه سوى الصفة الرسمية، كما تقول "ناشيونال إنترست".
تصاعد إطلاق النار بين أوكرانيا والانفصاليين
كان الصراع في شرق أوكرانيا منخفضاً في حِدَّته منذ عام 2015، عندما أنهى اتفاق سلام القتال الرئيسي الذي دار قبل ذلك. وقد وصلت عملية السلام إلى طريقٍ مسدود إلى حدٍّ ما منذ ذلك الحين، ما تَرَكَ أجزاءً من شرق أوكرانيا تحت حكم الانفصاليين الذين تدعمهم روسيا، والذين يقفون في خطِّ المواجهة مع قوات الحكومة الأوكرانية. أما هذه المناطق الانفصالية فهي جمهورياتٌ أعلنت نفسها من الناحية الاسمية، لكنها في الواقع تخضع لسيطرة موسكو، التي لم تعترف بها حتى الآن.
ومنذ أواخر مارس/آذار، امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي الروسية بمقاطع فيديو تُظهِر قطاراتٍ مُحمَّلة بالمركبات والمدرعات والمدفعية الثقيلة تتحرَّك إلى شبه جزيرة القرم بالقرب من شرق أوكرانيا. وترافَقَ ذلك مع تدفُّقٍ في الخطاب الحربي في وسائل الإعلام الحكومية الروسية. وفي الوقت نفسه، انهار وقف إطلاق النار في شرق أوكرانيا بين المتمرِّدين المتصلين بروسيا وحكومة كييف، مع تصاعد في إطلاق النار.
وتتراوح تقديرات عدد القوات الروسية المنتشرة بالقرب من أوكرانيا الآن من حوالي 60 ألفاً إلى أكثر من 100 ألف، رغم أن العديد منهم يتمركزون بشكلٍ دائم هناك. وقال وزير الدفاع الروسي إنه نقل جيشين وثلاث وحدات محمولة جواً إلى الحدود الجنوبية الغربية، مضيفاً أن التعزيزات جزءٌ من "التيقُّن من الجاهزية" رداً على النشاط المتزايد المزعوم لقوات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
وأنشأت روسيا قاعدةً ميدانيةً جديدة كبيرة تتسع لمئات المركبات، يمكن رؤيتها على صور الأقمار الصناعية. ويقول معظم المراقبين إنهم يعتقدون أن وضوح الحشد الروسي يعني أنه من المقصود به أن يُشهَد بالفعل، ما يشير إلى أنها رسالةٌ وليس مقدمةً لغزو.
وقال ديمتري ترينين، مدير مركز كارنيغي في موسكو، في مقابلةٍ مع موقع 47 News الروسي: "كنَّا ولا نزال متفرِّجين على عرض، بينما يأخذه كثيرون على أنه حقيقةٌ واقعة".
ويعتقد العديد من المراقبين أن الهدف من هذا الاستعراض العسكري هو إرسال إشاراتٍ إلى كلٍّ من أوكرانيا وإدارة بايدن.
بالنسبة لأوكرانيا، قال ترينين إن هذا تحذيرٌ من أيِّ محاولةٍ لاستخدام القوة العسكرية لاستعادة الأراضي المُحتلَّة، وأيضاً للتعبير عن عدم الرضا بشأن التحوُّل الأخير من جانب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نحو موقفٍ أكثر حزماً ضد الجماعات الموالية لروسيا في البلاد.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقال ترينين إن الرسالة أيضاً كانت تحذيراً لإحكام السيطرة على كييف، التي يرى الكرملين أن الولايات المتحدة تهيمن عليها.
"موسكو تستطيع إشعال الصراع متى شاءت"
في السياق، يقول مُحلِّلون آخرون إنهم يعتقدون أن ذلك كان بمثابة اختبار مبكِّر لإدارة بايدن ورسالة من الكرملين مفادها أنه يمكن إعادة إشعال الصراع متى شاء إذا تم تجاهل مصالحها.
ولقد نجحت التحرُّكات في جذب انتباه الغرب، إذ اتصل الرئيس الأمريكي جو بايدن بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعَرَضَ عليه لقاءَ قمةٍ في الأشهر المقبلة، وهو أمرٌ يقول مُحلِّلون إن بوتين يسعى إليه بشغف.
وقال بعض المحلِّلين إنهم يعتقدون أن الكرملين استغلَّ التحرُّكات الأكثر حزماً من قِبَلِ كييف مؤخَّراً من أجل توضيح ما يرنو إليه. بدأ التصعيد عندما حظر زيلينسكي ثلاث قنوات إعلامية موالية لروسيا وفَرَضَ عقوباتٍ على الأوليغارشية القوية التي كثيراً ما توصَف بأنها نقطة ارتكاز لبوتين في أوكرانيا. وأجرى زيلينسكي كذلك تدريباتٍ عسكرية بالقرب من الجبهة.