نشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تقريراً جديداً عن الأزمة في تونس تحت عنوان "زواج الصالونات الآثم بين قيس سعيد والشرطة التونسية"، تحدثت فيه عن الاعتماد المتزايد للرئيس التونسي على الأجهزة الأمنية في فرض سياساته بالبلاد، في الوقت الذي يتنامى فيه القلق من إفلات الشرطة من العقاب بعد تكرار اعتداءاتها على المدنيين الغاضبين.
"زواج آثم بين قيس سعيد والأجهزة الأمنية"
تقول المجلة، إنه في يناير/كانون الثاني 2021، خرج مئات التونسيين من أبناء الطبقة العاملة في البلاد إلى الشوارع؛ للتعبير عن غضبهم الناجم عن فشل النخب السياسية في علاج الوضع الاقتصادي المزري وتدهور أوضاع المعيشة. واستجابت الشرطة بالقمع الوحشي واعتقلت مئات المتظاهرين، الذين تعرَّض بعضهم للضرب على يد الضباط، حسب التقارير.
وقد أثار ذلك موجةً أخرى من الاحتجاجات، ليحتل عنف الشرطة رأس قائمة المظالم مرةً أخرى في عهد قيس سعيد. ولكن كان لهذه الاحتجاجات دورها البارز في المساعدة على زيادة شعبية قرار الرئيس التونسي سعيد أواخر يوليو/تموز الماضي، حين استغل سلطات قانون الطوارئ وأقال رئيس الوزراء ثم علّق عمل البرلمان، وقد قابل بعض المتظاهرين قرارات سعيّد التي عطلت الحياة الديمقراطية، ببهجة عارمة، فيما خرج ضدها الآلاف.
والآن، نتيجة وعوده بإصلاحٍ سياسي شامل؛ وجد سعيد نفسه عالقاً في زواج صالونات مع قوات الأمن نفسها التي جلبت على البلاد وبال الأزمة مطلع العام الجاري. فمنذ يوليو/تموز، اعتمد الرئيس على الشرطة بشكلٍ مكثّف لتطبيق إجراءاته الشاملة، لـ"مكافحة الفساد" كما يقول، بفرض الإقامة الجبرية وقيود السفر، إلى جانب اعتقال الساسة وكبار رجال الأعمال والسياسيين المتهمين بارتكاب مخالفات، وهو الوعد الذي كان له بالغ الأثر على تأمين فوزه بالانتخابات عام 2019.
إذ قال الأمين بنغازي، من منظمة محامون بلا حدود، لمجلة فورين بوليسي: "صار قيس سعيّد الآن معتمداً بشكلٍ شبه كامل، على القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. لم تكُن للبرلمان فائدة كبيرة، لكن بعض أعضاء البرلمان كانوا أحياناً يتطرقون إلى انتهاكات الشرطة".
إفلات الشرطة من العقاب في عهد قيس سعيد مصدر قلق حقيقي بتونس
وفي مقابل دعمهم لسعيد، يعتقد كثيرون أن الشرطة سترى نفسها في موقعٍ أفضل للمطالبة أخيراً بالحماية القانونية التي تُروّجها نقاباتهم منذ وقتٍ طويل، لكن البرلمان كان يتجاهل تلك المطالب. وهناك بالطبع أدلةٌ متزايدة على أن النقابات الأمنية التونسية تسعى إلى توجيه الزخم، الناتج عن تدخُّل الرئيس في يوليو/تموز، لخدمة أهدافها الشخصية. وأردف بنغازي: "إذا نظرت إلى مجموعات فيسبوك، فستجد الرسالة واضحة، حيث تدعو النقابات الأمنية إلى وقف التمويل الأجنبي لجماعات الإصلاح وحقوق الإنسان، ومحاكمة أعضاء تلك الجماعات".
إذ نمت نقابات الأمن التونسية، التي تشكّلت في أعقاب ثورة عام 2011، على مدار 10 سنوات من عدم الاستقرار السياسي والحكومات المتغيرة. واستمر نموها لدرجة أنها باتت تُوفّر حمايةً شبه مطلقة لضباطها في الخدمة. ولم تجرِ محاكمة سوى عدد ضئيل من الضباط رغم العديد من حالات الوفيات غير المبررة، والتعذيب، والضرب التعسفي.
ويُعد إفلات الشرطة من العقاب مصدر قلقٍ حقيقي في تونس وفقاً لإريك غولدستين، القائم بأعمال المدير التنفيذي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة هيومن رايتس ووتش. حيث قال: "نحن على دراية بعددٍ لا يُحصى من الاتهامات الموجهة إلى ضباط الشرطة، لكن لا يبدو أن شيئاً سيحدث. وهناك حديثٌ بالطبع عن فتح التحقيقات، لكنها لا تتمخّض عن نتيجةٍ فعلية. وليست هناك أي مساءلة، على حد علمنا".
وتقول المجلة الأمريكية، إن ثقافة عنف الشرطة في تونس لا تُعتبر خبراً جديداً بالنسبة للمراسلة غاية بن مبارك (26 عاماً). إذ لعبت دوراً محورياً في تغطية التظاهرات ضد عنف الشرطة في العاصمة إبان الاضطرابات الاجتماعية التي ضربت تونس مطلع العام الجاري، حيث كانت تنقل الأخبار ومقاطع الفيديو من الصفوف الأمامية للاحتجاجات إلى المنافذ الإعلامية التونسية مثل موقعي "مشكال" و"نواة".
لا محاسبة للضباط المعتدين
وكانت أصداء قرارات سعيد، في يوليو/تموز، ما تزال تتردّد في سبتمبر/أيلول، حين حضرت "غاية" احتجاجاً صغيراً بعد قرارات الرئيس "الاستثنائية" التي عطَّلت الوضع الديمقراطي في البلاد، لكنها تعرضت للاعتداء أثناء محاولة توثيق عنف الشرطة. وتعرَّض تسع صحفيين للاعتداء في ذلك اليوم. وليس معروفاً عدد المحتجين الذين أُصيبوا، ورغم ذلك لم تجرِ محاسبة أي ضابط.
ويُمكن القول -رغم كل ذلك- إن تونس ماتزال بعيدةً بعض الشيء عن العودة إلى الدولة البوليسية التي كانت عليها خلال السنوات التي سبقت الثورة. إذ لم يعد التعذيب سياسةً مُتَّبعة، كما كانت الاحتجاجات تستمر في أعقاب مواجهات سبتمبر/أيلول.
لكن هجمات الشرطة على الأفراد تواصلت. ففي منتصف سبتمبر/أيلول، أوقف رجال الشرطة سيارةً تُقل الصحفية أروي بركات وأصدقاءها؛ لخرقهم حظر التجوّل المفروض بسبب كوفيد-19 في البلاد. وتعرّضت الصحفية للضرب حين حاولت تصوير الضباط. وحينما ذهبت للإبلاغ عن الواقعة، وجدت أن أحد الضباط أبلغ عنها بالفعل. وبالتالي وُجّهت إليها تُهمة الاعتداء، وتنتظر محاكمتها في يناير/كانون الثاني.
انتهاك حقوق المدنيين ومحاكمتهم عسكرياً
وفي أحدث أشكال الانتهاكات، نددت منظمة العفو الدولية، الأربعاء 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، بـ"استهداف المدنيين بشكل متزايد" من قِبل القضاء العسكري التونسي، "وفي بعض الحالات، بسبب انتقادهم العلني للرئيس" قيس سعيد.
ووفق ما ذكرته وكالة الأنباء الفرنسية، فقد كشفت المنظمة الحقوقية في بيان، أنه "خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة وحدها، حقق القضاء العسكري مع ما لا يقل عن عشرة مدنيين أو حاكَمهم، بشأن مجموعة من الجرائم". وأوضحت المنظمة أن أربعة أشخاص مثلوا أمام القضاء العسكري التونسي "لمجرد انتقاد الرئيس"، وهم: الإعلامي ومقدم البرامج السياسية في قناة "الزيتونة" الخاصة عامر عيّاد، والنائبان في البرلمان المجمدة أعماله عبد اللطيف العلوي وياسين العياري، والناشط على مواقع التواصل الاجتماعي سليم الجبالي.
كما قالت مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة العفو الدولية، هبة مرايف: "يبدو أن عدد المدنيين الذين يمثلون أمام نظام القضاء العسكري التونسي يتزايد بمعدل مقلق للغاية. ففي الأشهر الثلاثة الماضية وحدها، فاق عدد المدنيين الذين مثلوا أمام المحاكم العسكرية عددهم في السنوات العشر السابقة مجتمعة".
تابعت المسؤولة: "بينما يناقش التونسيون المستقبل الغامض لبلدهم، من المهم أكثر من أي وقت مضى، أن تحمي السلطات حقهم في القيام بذلك بِحرية.. دون خوف من الاضطهاد".
ومع إفلات رجال الشرطة من العقاب دون رادع، ومحاكمة الناشطين المدنيين أمام المحاكم العسكرية، تزيد احتمالات انفجار الأوضاع في البلاد، وكذلك اندلاع مواجهة بين الشرطة ومن يعيشون في مناطق تونس المهمشة، مع كل ذكرٍ لمستقبل البلاد الاقتصادي غير المُبشّر.
وتواجه آمال تونس بمستقبلٍ جديد خطر الاصطدام مع العناصر التي لم تتم إعادة بنائها بوضوح بعد الثورة، ويُمكن أن تكون النتيجة كارثية في ظل تحذيرات البنك المركزي من قرب فرض إجراءات التقشف.
حيث قال بنغازي: "الدولة هي العدو بالنسبة لكثير ممن يعيشون على الهامش. إذ لم يروا منها سوى عصي الشرطة. وهؤلاء الناس سيكونون الضحايا الأساسيين للتقشف، كما هو الحال معهم دائماً".
احتجاجات مستمرة وانتهاكات متكررة للشرطة التونسية
ومنذ الثلاثاء 9 أكتوبر/تشرين الثاني، تدور مواجهات عنيفة في شوارع بلدة عقارب بجنوب تونس، بين الشبان والشرطة التي أطلقت الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين الذين يحاولون قطع الطرق ورشق القوات الأمنية بالحجارة؛ احتجاجاً على إعادة فتح مكبّ نفايات. كما يأتي التصعيد بعد يوم من وفاة شاب، قال شهود عيان وعائلته إنه توفِّي اختناقاً بالغاز الذي أطلقته الشرطة في البلدة، فيما قالت وزارة الداخلية إن الشاب لا علاقة له بالاحتجاجات وتوفِّي في منزله على بُعد ستة كيلومترات من الاحتجاج، بسبب أزمة صحية طارئة، وفق ما ذكرته وكالة رويترز.
الاحتجاجات في "عقارب" أول اختبار جِدّي لحكومة نجلاء بودن التي عيَّنها الرئيس قيس سعيّد، الشهر الماضي، في كيفية الرد على الغضب والإحباط المتناميَين بسبب سوء الخدمات العامة والظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الصعبة.
تم إغلاق مكب نفايات في "عقارب"، الواقعة على بُعد 20 كم من صفاقس، هذا العام؛ بعد أن اشتكى أهالي البلدة من انتشار الأمراض وقالوا إنهم يعانون من كارثة بيئية بعد أن بلغ المكب طاقته القصوى.