مبدأ سيادة الدول هو الركيزة الأساسية في العلاقات الدولية، لكن هذا المبدأ يواجه تحدياً "بيئياً" يتمثل في التغير المناخي وتداعياته الكارثية، فماذا لو وصل الأمر إلى قيام دولة بغزو أخرى بسبب الاحتباس الحراري؟
وربما يبدو للبعض أن السؤال افتراضي ولا يمكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد، إلا أن الخطر المحدق بالكوكب ككل، والذي أصبح واقعاً تعاني منه كثير من دول العالم، وهو التغير المناخي، جعل هذا التساؤل قائما وبقوة وأجريت دراسات كثيرة بشأنه بالفعل.
وفي واقع الأمر وبعيداً حتى عن التغير المناخي، لم يكن احترام مبدأ السيادة الوطنية قائماً بشكل عام في أي زمن من الأزمان، وحتى في العصر الحديث وبعد انتهاء فترة الاستعمار الأوروبي، لا يزال تدخل دولة في شؤون دولة أخرى، بل وحتى احتلال جزء من أراضيها بالقوة قائماً ويحدث. لكن في نهاية المطاف، لا يزال مبدأ احترام سيادة الدول غالباً في العلاقات الدولية.
والآن أصبح الطقس المتطرف والقاتل، من فيضانات وسيول وارتفاعات غير مسبوقة في درجات الحرارة، واقعاً يثير الذعر حول العالم، ويضفي أهمية بالغة على مؤتمر الأطراف السادس والعشرين (كوب 26) الخاص بالمناخ والمنعقد حاليا في غلاسكو، بهدف وضع قواعد جديدة للتعامل مع كارثة التغير المناخي بشكل عاجل.
متى تنتفي السيادة الوطنية؟
المقصود بانتفاء السيادة الوطنية هو أن تفقد حكومة دولة ما أهليتها مما يستدعي تدخلاً دولياً، وكانت الحُجة الأكثر مثالية التي تستخدم للتدخل في شؤون دولة أخرى هي "الإنسانية"، حيث ترى بعض الدول أنه ليس فقط من حقها، بل من واجبها التدخل في شؤون دولة أخرى إذا كانت ترتكب فظائع مثل عمليات الإبادة الجماعية، بحسب رأي كلوته رئيس التحرير السابق لصحيفة هاندلسبلات غلوبال الألمانية ومؤلف كتاب "هانيبال وأنا".
وتم بالفعل الاتفاق دولياً، من خلال ميثاق الأمم المتحدة، على تنظيم مثل هذا التدخل وتقنينه عن طريق إصدار قرارات من مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع، وإن كان التطبيق العملي لذلك المبدأ الإنساني تشوبه الازدواجية وتغليب الدول الكبرى لمصالحها في أحيان كثيرة، بحسب كثير من المفكرين والمحللين.
والآن يرى بعض المفكرين، مثل ستيوارت باتريك من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، أنه أصبحت هناك حجة أقوى تتناقض مع مبدأ السيادة الوطنية وهي ظاهرة الاحتباس الحراري والتغير المناخي الناتج عنها، والتي باتت تهدد الكوكب بأكمله، وبالتالي فإنه لم يعد ممكناً الدفاع عن مبدأ السيادة الوطنية.
ومصطلح التغير المناخي معنى بوصف التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية لكوكب الأرض. وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مسببة فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في نفس الأماكن، مما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة باختصار هي نقص الغذاء.
مؤتمر المناخ في غلاسكو خير دليل
على الرغم من أن قضية التغير المناخي الناجم عن الاحتباس الحراري ترجع إلى أكثر من قرن على الأقل، فإنها ظلت، حتى بضع سنوات، ملفاً ينشغل به نشطاء البيئة وخبراء المناخ دون أن يمثل هاجساً للسياسيين والمسؤولين ولا حتى للرأي العام حول العالم.
وخلال تلك الفترة لم يكن هناك تأثير لقضية الاحتباس الحراري على الأمن والسلم الدوليين ومن ثَم لم تكن قضية المناخ تمثل أي تهديد لمبدأ السيادة الوطنية للدول من الأساس. لكن هذا الوضع بدأ يختلف بصورة تدريجية منذ مطلع القرن الجاري، مع ظهور تداعيات تغير المناخ وانعكاسها على الطقس حول العالم.
وبدأت دول العالم تنتبه إلى الخطر البيئي مع ارتفاع أصوات النشطاء وزيادة معدلات التغييرات الحادة في الظواهر المناخية وارتفاع ضحاياها حول العالم. وفي عام 2015 تمكن قادة العالم أخيراً من أخذ الأمر على محمل الجد ووضعوا هدفاً متعلقاً بالاحتباس الحراري وهو ألا تزيد درجة حرارة الكوكب عن 1.5 درجة مئوية بنهاية القرن الجاري، ووقعت دول العالم على اتفاقية باريس للمناخ.
والتزمت الدول المسؤولة عن المعدلات الأعلى عالمياً من الانبعاثات الكربونية، المتسببة في الاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الأرض ومن ثَم التغير المناخي، بخفض تلك الانبعاثات، وصولاً إلى الصفر بحلول منتصف القرن. تلك الدول بالطبع على رأسها الولايات المتحدة والصين وأستراليا وروسيا وكثير من دول أوروبا الغربية، ثم باقي دول العالم بنسب أقل كثيراً من تلك الانبعاثات.
لكن أغلب تلك الدول لم تلتزم بما تعهدت به، بل وانسحب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من اتفاقية باريس، مما أدى إلى استمرار معدلات الانبعاثات الكربونية على ارتفاعها وتسارعت التداعيات الكارثية للاحتباس الحراري، ليفيق العالم على كوابيس بيئية متلاحقة من حرائق غابات وفيضانات وسيول وارتفاعات مميتة في درجات الحرارة، لتتحول قضية التغير المناخي إلى أهم القضايا على الإطلاق كونها تتعلق باستمرار الحياة على الكوكب من عدمه.
وتسبب سيل الكوارث المناخية في أنحاء العالم، من الفيضانات في ألمانيا والصين إلى الحرائق الهائلة في أوروبا وأمريكا الشمالية مروراً بموجات القيظ في كندا، في تسريع قيام العلماء بالكشف عن التقييمات الجديدة والتوقعات المرتبطة بارتفاع درجات الحرارة العالمية وارتفاع مستويات المحيطات وحتى اشتداد الظواهر المناخية القصوى.
وهكذا تجمع قادة العالم في غلاسكو باسكتلندا منذ مطلع الشهر الجاري، في قمة المناخ، التي تهدف بالأساس إلى إنقاذ الكوكب قبل فوات الأوان. وفي تحليل نشرته وكالة بلومبرغ، أشار الخبير الألماني في شؤون التغير المناخي أندرياس كلوته إلى أن الرؤية الخاصة بإنقاذ الكوكب، والتي تهيمن على العديد من الوفود المشاركة في قمة الأمم المتحدة للمناخ لا تتعلق بمصلحة "وطنية" لأي دولة بقدر ما تتعلق بمصلحة جماعية على المشاع للعالم كله، وهو الغلاف الجوي والمحيط الحيوي للأرض.
وهكذا تحولت قضية التغير المناخي من قضية بيئية بحتة لا علاقة لها بقضايا الأمن والسلام إلى القضية الأمنية الأبرز بالنسبة لجميع الدول، بحسب دراسة عنوانها "أمن المناخ" أعدها مركز المناخ والأمن البحثي.
ماذا يعني ذلك إذن للسيادة الوطنية؟
رغم احتمال اعتراض سلطات المراقبة الجوية، فإن الحدود والولاية القضائية لأي دولة لا تمتد لغلافها الجوي. فالانبعاثات الكربونية التي تصدر في الصين أو الولايات المتحدة أو الهند، تتسبب في تسريع وتيرة تغيّر المناخ في كل مكان من العالم وليس فقط داخل حدود تلك الدول، بحسب تحليل لموقع دويتش فيله الألماني.
فالتغير المناخي الناجم عن الانبعاثات الكربونية تسبب في الفيضانات التي ضربت ألمانيا وحرائق الغابات في أستراليا والمجاعات في إفريقيا، وغرق جزر في المحيط الهادئ. لذلك فإنه لكل شعوب العالم مصلحة شرعية في التعامل مع الغازات المسببة للاحتباس الحراري في أي مكان تنبعث منه مهما كانت الولاية القضائية.
وظهر هذا التحول المبكر والمأساوي في العلاقات الدولية عام 2019 عندما انفجر خلاف بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره البرازيلي جاير بولسونارو. ففي ذلك الوقت كان بولسونارو يسمح فيه بإشعال الحرائق وإزالة مساحات واسعة من غابات الأمازون في بلاده والتي تعتبر "رئة العالم" التي تساعد في التخلص من غازات ثاني أوكسيد الكربون وإنتاج الأوكسجين.
وفي حديثه نيابة عن الكثيرين اتهم ماكرون نظيره البرازيلي بالتحريض على "إبادة بيئية" على وزن "الإبادة الجماعية"، ورد بولسونارو بالقول إن ماكرون "استعماري جديد" ووجه اتهامات جنسية إلى زوجة الرئيس الفرنسي.
ويرى كثير من المفكرين أن قضية السيادة كانت محور الخلاف بين ماكرون وبولسونارو. فهل الغابات المطيرة الموجودة في البرازيل شأن برازيلي أم شأن عالمي؟ وفي حال سيناريو مستقبلي افتراضي، هل سيكون في مقدور تحالف دولي تقوده فرنسا إعلان الحرب على البرازيل لمنع عمليات "الإبادة البيئية" وبالتالي انتحار البشرية؟
ومؤخراً تعهدت 100 دولة بينها البرازيل بالتعاون لحماية الغابات. فتح هذا الاتفاق خطاً جديداً للتفكير في الشؤون العالمية. وبالفعل فإن صناع السياسة منكبون على تحليل أنواع جديدة من الصراع سيسببها الاحتباس الحراري داخل الدول أو بين الدول وبعضها البعض، بما في ذلك حروب المياه واختفاء الأراضي الصالحة للزراعة والهجرات الجماعية.
ويفكر مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي حالياً فيما يمكن أن يحدث إذا قامت دولة ما بضخ كميات هائلة من الغبار الجوي في طبقة الستراتوسفير من الغلاف الجوي. هذه العملية يمكن أن تؤدي إلى حجب أشعة الشمس ومنع وصولها إلى الأرض، وبالتالي انخفاض درجة حرارة الكوكب كما يحدث في أعقاب ثورات البراكين الكبرى. كما أن هذا يمكن أن يؤدي إلى تغيير أنماط الطقس في دول أخرى وحرمانها من مصادر عيشها الطبيعية.