رغم صرامة العقوبات السعودية على لبنان الذي يعاني من شلل اقتصادي أصلاً، فإن الرياض ما زال في جعبتها عقوبات أشد قوة، يمكن أن تقضي على آخر شرايين الاقتصاد في لبنان.
حظرت السعودية الواردات من لبنان هي وثلاث دول خليجية أخرى، وطردت سفيره بعد تصريحات وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي عن الحرب في اليمن.
وتمحورت تصريحات جورج قرداحي التي أدلى بها في أغسطس/آب، قبل تعيينه وزيراً للإعلام، حول التدخل بقيادة السعودية في اليمن ضد المعارضة الحوثية المدعومة من إيران، إذ قال إن "الحوثيين يدافعون عن أنفسهم في مواجهة عدوان خارجي".
وقد تعرَّضت المملكة للانتقادات في الغرب بسبب حرب اليمن من قبل، لكن تصريحات قرداحي التي انتشرت على الإنترنت الأسبوع الماضي أثارت الغضب من جديد في الرياض وعواصم الخليج، وخاصة أنها تأتي في وقت ينتظر فيه لبنان دعماً خليجياً وغربياً لإنقاذه من أزمته غير المسبوقة.
وتقول الرياض إنّ هذه التصريحات دليلٌ على هيمنة إيران المتزايدة داخل لبنان.
وتمثل هذه الأزمة نموذجاً واضحاً للتهديد بالتدمير الذي تسببه التوترات المتزايدة بشأن النفوذ الإيراني في لبنان على اقتصاد البلاد الذي يعيش حالةً كارثية بالفعل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
العقوبات السعودية على لبنان جاءت بعد عقود من الدعم
وتاريخياً كانت السعودية داعماً كبيراً للبنان، وكان تيار المستقبل يمثل تابعاً لها في السياسة الداخلية اللبنانية، ولكن الرياض نأت بنفسها عن هذا التيار الذي يتزعم الطائفة السنية.
وتشعر دول الخليج- وخاصة السعودية- بالاستياء من فشل الفصائل السياسية اللبنانية في موازنة النفوذ الإيراني داخل لبنان، الذي منح طهران وصولاً إلى المتوسط ونفوذاً إقليمياً من خلال حزب الله؛ الحركة السياسية والعسكرية التي لها عمليات على الأرض في سوريا واليمن أيضاً.
وقال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إنّ فك ارتباط بلاده مع لبنان سببه "استمرار هيمنة حزب الله على المشهد السياسي" وما يعتبره السعوديون تقاعساً من جانب القادة السياسيين في لبنان عن تطبيق أي إصلاحات حقيقية.
وصرّح الوزير في مقابلة تلفزيونية بالولايات المتحدة، عقب مطالبة المملكة لسفير لبنان بالرحيل: "لقد خلصنا إلى أنّ التعامل مع لبنان وحكومته الحالية لم يعُد مثمراً أو مفيداً".
وقال علي الشهابي، المقرب من الحكومة السعودية، عن رؤية الرياض: "لقد سقط لبنان. ولم يعُد أمامنا ما نفعله سوى أن نُحاصر لبنان حتى يرى شعبه ثمن الهيمنة الإيرانية"، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
وكانت أقوى ضربة حينما قررت السعودية في يوم الجمعة 29 أكتوبر/تشرين الأول، تعليق وارداتها من لبنان. وهي الخطوة التي يقول السعوديون إنّ سببها هو فشل بيروت في منع تهريب المخدرات عبر الموانئ الخاضعة لسيطرة حزب الله، ولكن من الواضح أنها مرتبطة أكثر بتصريحات قرداحي الحليف لبشار الأسد، وكذلك معاقبة لبنان كله على تصرفات حزب الله الذي يناصب المملكة العداء.
الرياض الزبون الرئيسي لصادرات لبنان، ولكن لديها أداة أخطر للتأثير
وتُعتبر السعودية شريكاً تجارياً مهماً، وعميلاً رئيسياً للمجوهرات والمنتجات الزراعية، ومصدراً قيماً للحوالات الخارجية من مئات آلاف اللبنانيين الذين يعملون في السعودية- لكن الحوالات لم تتأثّر حتى الآن بالنزاع.
ويعيش لبنان حالياً واحداً من أسوأ الانهيارات الاقتصادية في التاريخ الحديث بحسب البنك الدولي. حيث فقدت العملة المحلية أكثر من 90% من قيمتها، مما يعني أن البلاد تعتمد بالكامل تقريباً على الحوالات الخارجية والمساعدات أو الاستثمارات الأجنبية من أجل النجاة.
ولا شك أن الأزمة تأتي في أسوأ وقتٍ ممكن بالنسبة للبنان، حيث تعاني البلاد من انهيار اقتصادي حاد عقب سنوات من الفساد وسوء إدارة الحكومة، مما تسبب في أزمةٍ مالية عام 2019. كما أدّت تداعيات انفجار مرفأ بيروت العام الماضي إلى تسريع الركود، بأصداءٍ بلغت جميع طبقات المجتمع اللبناني لتهدد بالمزيد من عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
وقد حاولت الولايات المتحدة وفرنسا الضغط على بيروت لتطبيق إصلاحات اقتصادية وسياسية من أجل تقييد الإنفاق العام ومكافحة الفساد، لكن الطبقة اللبنانية الحاكمة لطالما قاومت تلك الجهود.
وكان من المتوقع أن تتفاوض الحكومة الجديدة، التي تشكّلت في سبتمبر/أيلول، مع المانحين الغربيين وصندوق النقد الدولي للحصول على مساعدات وقروض بمليارات الدولارات من أجل تخفيف الأزمة الاقتصادية، التي تفاقمت في أعقاب جائحة كوفيد-19.
وعلاوةً على الانقطاع المستمر في الكهرباء، تُعاني البلاد الآن من نقصٍ في الغذاء والدواء، وتضخم مفرط، وارتفاع في معدلات الجريمة.
رئيس الوزراءاللبناني يضغط على وزير الإعلام للاستقالة
وفي يوم الإثنين الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، بدا أن رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي يُحاول الضغط على وزير الإعلام للتنحي عن منصبه بعد أن رفض الاستقالة، حسب تقرير.
إذ نقلت قناة الميادين اللبنانية الموالية لإيران التصريح التالي على لسانه: "نحن أمام منزلق كبير، وإذا لم نتداركه فسنقع في ما لا يريده أحد منا". كما ناشد قرداحي بـ"وضع حسه الوطني فوق كل الاعتبارات" من أجل نزع فتيل الأزمة مع المملكة.
وجاءت تصريحات ميقاتي في أعقاب تصريحات البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، الذي بدا أنّه يضغط على قرداحي أيضاً؛ إذ حثّ السلطات اللبنانية على اتخاذ "خطوة حاسمة" لنزع فتيل الأزمة مع الدولة الخليجية في قداس الأحد 31 من أكتوبر/تشرين الأول، دون الخوض في تفاصيل.
لبنان يخاطر بوقف الحوالات من السعودية
وتاريخياً، كانت أكبر مصادر الدعم المالي تأتي من الدول الخليجية الغنية بالنفط، التي لطالما أرسلت الأموال لدعم الاقتصاد اللبناني الهش. لكن تزايد نفوذ حزب الله، المتحالف مع عدوها اللدود إيران، داخل الحكومة جعلها تُفكر مرتين قبل محاولة تخفيف الأزمة المالية هذه المرة.
وقد أفاد محللون سعوديون لصحيفة The Independent البريطانية بأن هذه الأسباب تجعل خطوة إغضاب الخليج بهذه الطريقة "ضرباً من الجنون".
حيث أوضح الشهابي: "يُعتبر الخليج مصدر لبنان الرئيسي للوظائف، والسياحة، والاستثمار على مدار الـ20 أو الـ30 عاماً الماضية. وحجم الحوالات من السعودية هائلٌ للغاية؛ لدرجة أن لبنان لا يزال على قيد الحياة بفضلها. وهم يُخاطرون بكل ذلك، إنّه جنون".
وأردف المحلل السعودي البارز أنّ الغضب يختمر منذ فترةٍ طويلة، وتعليقات وزير الإعلام اللبناني كانت مجرد "القشة التي قصمت ظهر البعير". وتابع قائلاً إنّ دولاً مثل السعودية "دفعت ثمناً كبيراً بسبب مساعدة حزب الله للحوثيين". لا تأتوا في طلب الحلول المالية من الخليج طالما لا يزال لبنان تحت سيطرة حزب الله، الفرع العربي للحرس الثوري الإيراني.
وأضاف: "في الوقت ذاته، فإنّ الساسة اللبنانيين كانوا يأتون إلينا لنهبنا. وقد ظنوا لوقتٍ طويل أن بإمكانهم الحصول على نصيبهم من الكعكة والاستمتاع به، لكن القيادة الخليجية والسعودية تحديداً لن تحتمل هذا بعد الآن".