اتخذ العراقيون في انتخاباتهم العامة في وقتٍ سابق من هذا الشهر، أكتوبر/تشرين الأول، خطوة غير مسبوقة برفض تحالف للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، بينما أظهر نتائج الانتخابات تفضيلاً واضحاً لـ مقتدى الصدر، رجل الدين الشيعي الذي يقال إنه يروِّج لـ"أجندة قومية".
وتراجع تحالف "فتح"، وهو مظلة تضم ميليشيات وقوات مختلفة من قوات الحشد الشعبي بقيادة هادي العامري الموالي لإيران، من 48 مقعداً برلمانياً في عام 2018 إلى 15 مقعداً فقط هذا العام. وفي الوقت نفسه، برز تحالف "سائرون" الصدري باعتباره الفائز الأكبر، فرفع حصيلته من 54 مقعداً إلى 73. وبات الصدر الآن صانع ملوك في تشكيلة البرلمان العراقي المقبل.
لماذا قد يكون مقتدى الصدر هو أفضل خيار لأمريكا بالعراق؟
تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، إن نجاح التجمع الشيعي الذي يزعَم أنَّه "مدني" على حساب آخر "طائفيّ" يُعَد أمراً مثيراً للاهتمام؛ إذ بدأ الحشد الشعبي باعتباره قوةً مناهضة لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، لكنَّه تحول إلى عصابات محلية تدير عمليات ابتزاز وتنفذ عمليات قتل خارج إطار القانون. وعزَّز الصدر، على النقيض من ذلك، الدعم لنفسه على خلفية وعود بإدخال إصلاحات سياسية لإضعاف النخب الطائفية، وبناء مجتمع مدني قومي، وإنهاء التدخل الإيراني وفي نفس الوقت إخراج القوات الأمريكية من البلاد.
ومواقفه المعادية للولايات المتحدة وحربه على جنودها لسنوات ليست محل شك، كما اكتسب الصدر سُمعة سيئة في السنوات التي تلت الغزو الأمريكي لإطلاقه العنان للميليشيات الخاضعة لسيطرته ضد الطوائف الأخرى. مع ذلك، لربما كانت الحكومة الأمريكية هي التي يجب أن تكون الأكثر سعادة بوضعية الصدر الجديدة باعتباره زعيماً وطنياً، كما تقول "فورين بوليسي". رغم أن هناك الكثير من الأسئلة حول مقدار ما يمكن للصدر تحقيقه من أجندته.
وتضيف المجلة الأمريكية: "لكن ما يبدو أنَّه لا جدال فيه هو أنَّ الصدر برز باعتباره القائد السياسي العراقي الوحيد الذي يملك ما يكفي من مقاعد وقوة للدفع بنوعية التغييرات التي تحتاجها البلاد، بما في ذلك تفكيك المحاصصات الطائفية على المناصب، والمعروفة باسم (نظام المحاصصة)، واحتواء الميليشيات المدعومة من إيران. وفي هذا السياق، يتلاءم صعود الصدر مع المصالح الأمريكية".
أين تتلاقى مصالح الصدر مع أمريكا؟
تقول فورين بوليسي إنه سيتعين على الصدر أولاً التفاوض لتكوين أغلبية في البرلمان المؤلف من 329 مقعداً. وقالت مصادر مقربة من الصدر إنَّه يستطيع، إلى جانب مقاعد تحالفه البالغة 73، الاعتماد على دعم 10 مرشحين مستقيلن انضموا إلى دعوات الإصلاح السياسي في الاحتجاجات التي عمَّت البلاد في السنوات الأخيرة. مع ذلك، سيستغرق التفاوض على تشكيل الحكومة أشهراً، وليس واضحاً حتى الآن الصورة التي سيبدو عليها التحالف النهائي، لأسبابٍ ليس أقلها صعوبة تقدير مدى عمق التزام الصدر نفسه بالإصلاح السياسي.
فقالت لهيب هيجل، المحللة الأولى بمجموعة الأزمات الدولية والتي تركز على السياسة والحوكمة والأمن والصراع في العراق: "انقلب الصدريون على الاحتجاجات في مطلع 2020، وهم مسؤولون أيضاً عن جزء من العنف المُرتَكَب ضد النشطاء". وأضافت أنَّه من المستبعد جداً أن يكون باستطاعة الصدر تشكيل حكومة من شأنها استبعاد تحالف فتح أو ميليشيات إيران تماماً.
والتنافس بين الصدريين والميليشيات المدعومة من إيران هو صراع على النفوذ، لكنَّهم تجاوزوا التوترات وتعاونوا مع بعضهم حين كان ذلك مناسباً لهم في الماضي. وأضافت هيجل: "توصَّل الصدر في 2018 إلى اتفاق مع هادي العامري بشأن تشكيل الحكومة".
وقال ضياء الأسدي، وهو مسؤول كبير سابق في الحركة السياسية الصدرية ويُعتَقَد أنَّه مقرب من رجل الدين، إنَّ الصدر بإمكانه تشكيل تحالف فائز من خلال استبعاد كل الفصائل المدعومة من إيران، بما في ذلك تحالف الميليشيات المسلحة "فتح" بقيادة العامري وتجمع الأحزاب السياسية غير المسلحة المدعومة من إيران بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، والذي حقق ثالث أكبر عدد من المقاعد (37 مقعداً) في الاقتراع الأخير.
وقال الأسدي: "مَن يفكر مثل المالكي معارض للصدر، بالتالي لا يمكن أن يكونوا حلفاء". ومن الممكن أن يتحالف الصدر مع الكتلة السُنّيّة، التي تملك 38 مقعداً، إلى جانب الأكراد والمستقلين وربما الأحزاب الشيعية الأخرى الأصغر المنشقة. لكنَّ الأسدي أوضح أنَّ مثل هذا الترتيب سيأتي بثمن أيضاً. فقال: "يشعر السُنّة والأكراد أنَّ نظام المحاصصة يُقوِّيهم ويمنحهم تمثيلاً؛ لذا سيكون من الصعب التخلص من النظام فوراً. يعتزم الصدر إدخال إصلاحات بطيئة".
"الصدر مجرد شعبوي يرتدي عباءة المجتمع المدني"
في السياق، قال محللون لفورين بوليسي إنَّ الصدريين، وعلى الرغم من كونهم جزءاً من عديد الحكومات في الماضي، لم يكونوا فاعلين في الدفع بإصلاحات، بل واتُّهِموا هم أنفسهم بالعنف والفساد. وقالوا إنَّ الصدر ليس صانع سياسة مخضرماً، بل مجرد شعبوي يرتدي عباءة المجتمع المدني.
قال إيلي أبو عون، مدير برنامجي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمعهد السلام الأمريكي، إنَّ الصدر فشل في إثبات نفسه. وأضاف: "كان الصدر جزءاً من السلطتين التشريعية والتنفيذية على التوالي حتى قبل عام 2018، من خلال أعضاء البرلمان والوزراء الذين اختارهم بنفسه. وعلى الرغم من هذا الحضور الصلب نسبياً في كلتا السلطتين، لا يمكن لحركته ادعاء ملكيتها لمبادرات إصلاح جادة. ويندرج معظم ما فعله ضمن إطار الانتقاد والرفض إلخ …".
وكان مرشحوه في بعض الأحيان متورطين في قضايا فساد فاضحة، وشُوهِدوا في حالات أخرى يقبلون بالممارسات السيئة القائمة ويتجاهلون ما قد ينتقدونه لاحقاً في الشوارع. وأضاف أبو عون: "أتوقع أن يواصل العمل باعتباره قائداً معارضاً شعبوياً في حين أنَّه جزء من كل هياكل الحكم في العراق".
لكنَّ آخرين قالوا إنَّه على الرغم من تناقضات الصدر الكثيرة وسجله غير الجيد في الدفع بالإصلاحات، فإنَّه "يمثل نموذجاً سياسياً جديداً يجب أن يكون مصدر إلهام للعراق والمنطقة"؛ إذ يكشف صعود الصدر أنَّ قادة الميليشيات الطائفية يمكن أن يُغيِّروا مسارهم ويستخدموا شعبيتهم من أجل خلق انسجام في المجتمعات شديدة الانقسام دينياً وكذلك التركيز على القضايا المدنية التي تؤثر على حياة الناس اليومية.
"مقتدى الصدر ليس رجل أمريكا، لكنَّه كذلك ليس رجل إيران"
تقول المجلة الأمريكية إنه حتى بالنسبة للولايات المتحدة، يمثل الصدر فرصة لإرساء "الاستقرار المستدام" في بلدٍ ظلَّت واشنطن عالقة فيه لقرابة عقدين من الزمن. يشير الصدر إلى أنَّه ربما يكون مستعداً لقبول وجود القوات الأمريكية في العراق للقيام بدورٍ استشاري، وبالتالي توفير طريقة تحفظ ماء الوجه لإدارة بايدن كي تسحب معظم قواتها من البلاد.
قال الأسدي إنَّ "الإدارة الأمريكية السابقة قالت إنَّها ستراقب إيران من العراق. وإذا ما سحبت الإدارة الجديدة معظم قواتها من العراق وغيَّرت سياساتها تجاه العراق وإيران، فلا إيران ولا أنصارها سيكون لديهم أي عذر لتهديد المصالح الأمريكية في المنطقة أو مهاجمتها".
مقتدى الصدر ليس رجل أمريكا، لكنَّه كذلك ليس رجل إيران. وطموحه لاحتواء إيران يتداخل مع طموح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. وحتى العراقيين يعرفون أنَّ الصدر لا يملك الدواء الشافي لأزمات البلاد الكثيرة، وأنَّ سياسات المحسوبية والفساد لن تختفي بين عشيةٍ وضحاها. لكنَّ صوت الصدر القوي يمثل إضافة إلى جانب جوقة الجماهير اليائسة التي لا حول لها ولا قوة وتسعى لإحداث تحول في بلادها والمشاركة في ثروتها النفطية من خلال الوظائف والإسكان الأفضل وإمدادات الكهرباء الكافية، بحسب وصف المجلة.