تجلس اللبنانية أمونة حيدر على كرسي بلاستيك في شقة متواضعة للغاية مع أطفالها الأربعة ببلدة التليل شمال لبنان، حيث توفى زوجها، إبراهيم أورفلي، في حادث انفجار خزان وقود يوم 15 أغسطس/آب الماضي.
ومثل الغالبية العظمى من سكان لبنان، تضاعفت خسائرها المادية منذ بدء الانهيار المالي في البلاد قبل عامين. تضاءل الدخل المادي المتواضع بالفعل لأسرتها ليصبح لا شيء تقريباً. باتت عاجزة عن توفير الطعام الكافي، بسبب تفاقم مشكلة نقص الإمدادات الغذائية في لبنان.
حتى عندما عرضت قنوات تلفزيونية محلية صوراً لكميات كبيرة من مخزون حليب الأطفال في نهاية أغسطس/آب، تقول أمونة، البالغة من العمر 32 عاماً، إنَّها لم تجد أي عبوة حليب متوافرة في الأسواق لكي تشتريها لتغذية ابنها البالغ من العمر 7 أشهر، موضحةً أنَّها اضطرت إلى إطعامه الماء الساخن الممزوج بالسكر!
وتقول شبكة CNN الأمريكية التي نشرت تقريراً حول أزمة نقص السلع، إن مأساة أمونة ترمز إلى مشكلة يعانيها لبنان بأكملها، حيث تفاقم الانهيار المالي، من جراء جشع النخبة التجارية، والمواطنون العاديون -مثل أمونة حيدر- هم من يدفعون ثمن ذلك.
من الحليب إلى الأدوية.. الآثار الجانبية القاتلة لاكتناز السلع في لبنان
يعاني لبنان كساداً اقتصادياً بسبب الاستنفاد السريع لأرصدة المالية العامة، وقد تفاقم هذا الوضع سوءاً بسبب ما يقول البنك الدولي إنَّه سوء إدارة "متعمّد" للأزمة من جانب النخبة الحاكمة. في الوقت نفسه، أدَّى اكتناز التجار للسلع الأساسية إلى توجيه ضربة مدمرة أيضاً للاقتصاد اللبناني.
قال رئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، الشهر الماضي، إنَّ التجار و"الفاسدين" حجبوا 74% من السلع المدعومة في البلاد -الوقود والأدوية والأغذية وحليب الأطفال- عن المواطنين اللبنانيين خلال العام الماضي، موضحاً أنَّ هذه النسبة تُمثّل نحو 7.4 مليار دولار من أصل 10 مليارات دولار أنفقتها الدولة على الإعانات خلال العام.
تشير بيانات الاستيراد والبيانات الواردة من مصرف لبنان المركزي وعشرات المقابلات التي أجرتها شبكة "CNN" الأمريكية مع صيادلة وأطباء ومرضى وعمال إغاثة، إلى زيادة في بعض السلع المدعومة القادمة إلى لبنان في النصف الأول من عام 2021، في وقت كان يكافح فيه العديد من الآباء لإطعام أطفالهم، ولم يستطع مرضى السرطان الحصول على الأدوية المنقذة للحياة، وأدَّى نفاد مخزون المازوت إلى توقف مئات الأعمال التجارية.
الأثر القاتل لاحتكار السلع في لبنان
تُسلّط حادثة انفجار خزان وقود في بلدة التليل الشمالية والتي أودت بحياة زوج أمونة حيدر، الضوء على الأثر القاتل لاكتناز السلع.
في 14 أغسطس/آب، صادر الجيش اللبناني صهريجاً معبأً بوقود الديزل من أحد المهربين في بلدة التليل، الواقعة على بعد 110 كيلومترات من بيروت.
حاولت القوات اللبنانية، في صباح اليوم التالي، توزيع هذا الوقود على عشرات الرجال المحليين اليائسين؛ حتى يستطيعوا تشغيل مولدات الكهرباء الخاصة التي تمد منازلهم الغارقة في الظلام بالطاقة، في ظل توقف شبكة الكهرباء الحكومية عن العمل.
كان إبراهيم أورفلي، زوج أمونة حيدر، يتدافع للحصول على حصة من هذا الوقود عندما انفجر الصهريج، ما أسفر عن مقتل 31 شخصاً على الأقل وإصابة أكثر من 79 آخرين.
قالت أمونة إنَّ زوجها أصيب بحروق تجاوزت نسبتها 95% من جسده. نُقل أورفلي مع مصابين آخرين إلى المستشفيات القريبة لتلقي العلاج. لكن كان هناك نقص في بعض الأدوية اللازمة لعلاج مثل هذه الحالات.
توفي أورفلي في نهاية المطاف متأثراً بحروقه بعد محاولات فاشلة لنقله لكي يتلقى العلاج خارج لبنان، على غرار ما حدث مع مصابين آخرين.
كشفت وزارة الصحة اللبنانية، بعد أيام من وفاته، عن العثور على أكثر من 6800 أمبول من عقار "الألبومين" -وهو أحد الأدوية الناقصة بالمستشفيات والأسواق المستخدمة في علاج الحروق الشديدة- في مستودع ممتلئ بأطنان من الأدوية المُخزّنة في بيروت.
جاء اكتشاف هذا المستودع خلال حملة مداهمات واسعة النطاق نفذتها وزارة الصحة لأكثر من 10 مستودعات، قالت الوزارة إنَّها مملوكة في الغالب لمستوردين وصيادلة استخدموها لتخزين كميات هائلة من الأدوية وحليب الأطفال.
وقال مسؤول بوزارة الصحة اللبنانية، شارك في مداهمة مستودعات التخزين وطلب عدم نشر اسمه، لشبكة "CNN": "وجدنا كل أنواع الأدوية وحليب الأطفال التي كنّا نبحث عنها".
وأفادت وزارة الصحة بأنَّ الأدوية وعبوات حليب الأطفال المضبوطة وُزّعت منذ ذلك الحين على المستشفيات وغيرها من الأماكن التي تحتاجها.
ووفقاً لوزارة الصحة، أُلقي القبض على العديد من أصحاب هذه المستودعات وأحيلت الأدلة إلى القضاء اللبناني. ومع ذلك، يبدو أنَّ مثل هذه المداهمات قد توقفت منذ تشكيل الحكومة الجديدة في أوائل سبتمبر/أيلول. ولم يرد وزير الصحة الجديد، فراس أبيض، على طلبات "CNN" المتكررة للتعليق على هذا الأمر.
الدعم الحكومي والتهريب نحو سوريا
في عام 2020، في خضم الأزمة المالية المتفاقمة، بدأت الحكومة اللبنانية دعم السلع الأساسية استجابةً للتضخم المفرط ومعدلات البطالة المتزايدة. كان يُنظر إلى هذه الخطوة باعتبارها طوق نجاة في ظل استيراد غالبية السلع، لكن هذه الخطة -التي اعتبرها خبراء غير مستدامة- سرعان ما أدّت إلى نتائج عكسية.
أبرزت تقارير إعلامية محلية عمليات تهريب غير مشروعة للوقود إلى سوريا. كان التجار يشترون الوقود في لبنان بالأسعار المدعومة، ثم ينقلونه عبر الحدود إلى سوريا؛ لبيعه بأسعار السوق العالمية، الأمر الذي حقّق لهم أرباحاً هائلة.
قال زهير برو، رئيس جمعية حماية المستهلك في لبنان، لشبكة "CNN": "لقد موّل مصرف لبنان بصورة أساسية، أرباح التجار، الذين خزّنوا الوقود وانتظروا ارتفاع سعره عالمياً، ثم باعوه بهذا السعر المرتفع. على هذا النحو، لم يستفد المواطنون إلا بقدر ضئيل جداً من هذا الوقود المدعوم".
في ذروة أزمة الوقود بلبنان في يوليو/تموز -عندما امتدت طوابير المواطنين أمام محطات الوقود لأميال وزادت فترات انقطاع التيار الكهربائي- صرَّح رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان المركزي، لوسائل إعلام محلية، في أغسطس/آب، بأنَّ مصرف لبنان المركزي أنفق ما يزيد على 800 مليون دولار على واردات الوقود.
ومع ذلك، كشفت المداهمات الأمنية على محطات الوقود في أغسطس/آب، عن ملايين اللترات من البنزين والمازوت المُخزّن، وفقاً لمقاطع فيديو متعددة نشرتها وسائل إعلام حكومية.
توقف مصرف لبنان المركزي إلى حدٍّ كبير، عن تزويد البنوك بالدولارات لفتح خطوط ائتمان لمستوردي حليب الأطفال والأدوية، قائلاً إنَّه لم يعد بإمكانه تحمّل استنزاف احتياطياته.
وذكر مصرف لبنان في بيان نشره في يوليو/تموز، أنَّ "فاتورة الأدوية ومستلزمات الرعاية الصحية وحليب الأطفال في النصف الأول من عام 2021 تتجاوز إجمالي فاتورة عام 2020 بأكمله".
ومع ذلك، يشكك نقيب مستوردي الأدوية بلبنان، كريم جبارة، في صحة هذه البيانات، قائلاً إنَّ استيراد الأدوية توقف في شهر مايو/أيَّار، عندما أوقف المصرف المركزي اللبناني منح الموافقة المسبقة لمستوردي الأدوية. وفي أغسطس/آب، قال مصرف لبنان إنَّه استأنف إصدار الموافقات المسبقة للأدوية المدعومة. ومع ذلك، أكّد أطباء في 4 مستشفيات كبرى، أنَّ هذا التغيير لم يخفف من حدة أزمة الدواء المستفحلة بالبلاد، وذلك في مقابلات مع شبكة "CNN" الأمريكية بعد شهرٍ لاحق.
شرع مصرف لبنان في خطوة رفع الدعم عن استيراد سلع أساسية، أبرزها الوقود والأدوية. ومع ذلك، يقول عمال إغاثة وصيادلة وأمهات جدد، في مقابلات مع شبكة "CNN"، إنَّ النقص في إمدادات الأدوية وحليب الأطفال قد بدأ قبل عدة أشهر من توقف المصرف المركزي فعلياً عن برنامج الدعم.
ورداً على سؤال حول سبب اتّخاذ مصرف لبنان مثل هذه الخطوة، قال مسؤول مصرفي رفيع المستوى، طلب عدم ذكر اسمه، لشبكة "CNN": "لأنَّنا لا نستطيع الاستمرار.. لم يعد لدينا أي مال".
من داخل المستشفيات الحكومية في لبنان
كانت الأجواء داخل مستشفى رفيق الحريري الجامعي، أكبر مستشفى حكومي في لبنان، كئيبة للغاية. يجلس المرضى وذووهم على الأرض خارج المدخل الرئيسي. لا يوجد ورق مرحاض في أي من الحمّامات. يبدو أنَّ الطاقم الطبي والمرضى يعانون على حدٍّ سواء، ليس من نقص الأدوية والمستلزمات الطبية الأساسية فحسب، بل من الشعور أيضاً بالهلاك الوشيك.
قال رئيس قسم الأورام في المستشفى، الدكتور عصام شحادة، لشبكة "CNN"، إنَّ "أسوأ جزء في عملي على الإطلاق هو وجود مرضى مصابين بحالات سرطانية قابلة للشفاء، لكنني عاجز عن إنقاذ حياتهم؛ لعدم توافر الدواء"، مضيفاً أنَّ "غالبية مرضى السرطان في لبنان لا يستطيعون حالياً تلقي العلاج اللازم".
تتسم أجواء الصيدلية في قبو المستشفى بحالة كآبة مماثلة. تفتح رائدة بيطار، رئيسة قسم الصيدلة بالمستشفى، خزانة تلو أخرى وثلاجة تلو أخرى لتظهر جميعها فارغة تماماً أو شبه فارغة. يعاني المستشفى من عدم توافر مئات الأصناف من الأدوية، مثل أدوية العلاج الكيماوي وأدوية رفع ضغط الدم وعلاجات النساء الحوامل.
تقول رائدة بيطار إنَّ بعض المرضى ماتوا بسبب نفاد دواء رخيص الثمن كان متوافراً عادةً في المستشفى، وهو "النورادرينالين" المستخدم في استعادة ضغط الدم إلى وضعه الطبيعي في حالات الطوارئ عندما يحدث انخفاض حاد خطير في ضغط الدم.
وتضيف: "هذا يدل على أنَّ المشكلة ليست مالية فقط، فالموردون جشعون، والمصرف المركزي لا يدير الأزمة جيداً، والحكومة السابقة لم تتعامل مع الأزمة تعاملاً جيداً، والمرضى هم من يدفعون الثمن".
تدخلت منظمات دولية غير ربحية وجمعيات محلية للتخفيف من حدة الآثار الكارثية لأزمة نقص الأدوية في لبنان. تبرّعت إحدى منظمات المساعدات الدولية مؤخراً بإمدادات من دواء "النورادرينالين" لمستشفى رفيق الحريري الجامعي. تساعد أيضاً "جمعية بربارا نصار" مرضى السرطان اللبنانيين في تأمين احتياجاتهم من الأدوية من خلال شبكاتها الدولية.
يقول هاني نصار، الشريك المؤسس للجمعية مع زوجته- بربارا- التي توقفت بسبب السرطان: "إذا علمت عائلات المرضى ما كان يحدث داخل عنابر السرطان، فستحدث مذبحة. يضطر الأطباء والممرضات إلى الاختيار بين مَن يتلقى العلاج ومن لا يحصل عليه".
"لا أستطيع إخبارك بما أشعر به"
على بعد أقل من كيلومتر من منزل أمونة حيدر في بلدة التليل، تقع فيلا مهجورة واجهتها الخارجية سوداء من آثار الدخان. كانت هذه الفيلا مملوكة للمهرب المزعوم صاحب صهريج الوقود، الذي صادرته القوات اللبنانية وانفجر في أغسطس/آب 2021.
أضرم عدد من المواطنين النار بالمنزل، في واحد من الأعمال الانتقامية المتفرقة في بلد تتعمّق فيه جذور انعدام الثقة وينتشر اليأس على نطاق واسع، ويشعر معظم المواطنين بأنَّه لا جدوى من محاولة إلقاء اللوم على مسؤول معيّن أو جهة بعينها.
تملأ الدموع عيني أمونة حيدر عندما تتذكر سلسلة المآسي التي حلّت بأسرتها وعدم قدرتها على إطعام طفلها البالغ من العمر 7 أشهر بالرضاعة الطبيعية.
تقول أمونة: "لم أكن قادرة على الرضاعة الطبيعية، بسبب الصدمة التي تعرضت لها. أحتاج إلى حليب الأطفال، لكنّه غير متوافر".
وتضيف، وهي تحاول حبس دموعها: "لا أستطيع إخبارك بما أشعر به عندما أجد نفسي مضطرة إلى إطعام طفلي الماء والسكر. إنَّه شعور قاسٍ للغاية!".