بات الحديث عن انقلاب ناعم في السودان يتزايد مع توالي مطالبات العسكريين بحل الحكومة الانتقالية وتحركهم في الشارع للضغط عليها.
فبعد ثلاث سنوات من الإطاحة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير، يُهيمن القلق على المحتجين المؤيدين للديمقراطية في السودان، ومعهم محللون وسياسيون كثيرون، وتنتابهم جميعاً الخشية أن يؤدي التصعيد الأخير في التوترات بين الفصائل العسكرية والمدنية في الحكومة الانتقالية إلى استيلاء الجيش على السلطة في البلاد، وسط تحذيرات من سيناريو مشابه لانقلاب عام 2013 في مصر، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
يأتي ذلك فيما يكثف الجيش السوداني، بدعم من مجموعات شبه عسكرية، ضغوطَه لحل الجناح المدني للحكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، في أكبر أزمة سياسية تشهدها مرحلة انتقال البلاد إلى الحكم المدني.
واشتدت الأوضاع حدة منذ يوم السبت، 16 أكتوبر/تشرين الأول، عندما بدأ آلاف المؤيدين للجيش اعتصاماً قرب القصر الرئاسي، ما أثار مواجهات متفرقة بين أنصار الجيش والسلطات المدنية، وسط نقص حاد في الخبز والوقود في عموم البلاد.
علاوة على ذلك، تأتي الخطة المفترضة لتنظيم مسيرة مؤيدة للمدنيين يوم الخميس، 21 أكتوبر/تشرين الأول 2021، لتثير الاحتمالات بوقوع مزيدٍ من التصعيد في الأيام المقبلة، في حين أن مصادر أخبرت موقع Middle East Eye بأن المفاوضات بدأت بالفعل لحل الحكومة الحالية، أو إجراء تعديل وزاري واسع النطاق فيها على أقل تقدير.
يُذكر أنه منذ أغسطس/آب 2019، يتولى القيادة في السودان مجلس السيادة الانتقالي، الذي يتألف من 5 مدنيين اختارتهم القوى المدنية التي قادت حركة معارضة البشير، و5 ممثلين عسكريين ورئيس بالتناوب بين الفصيلين.
وحدد الإعلان الدستوري، المُوقّع في أعقاب انتفاضة 2018-2019 التي أطاحت بالرئيس عمر البشير، موعداً لتسليم قيادة مجلس السيادة في مايو/أيار 2021. غير أن اتفاق سلام مع بعض المتمردين في البلاد تم توقيعه في أكتوبر/تشرين الأول، عدل المواعيد بشأن تسليم السلطة دون تحديد تاريخ جديد.
وكان محمد الفكي سليمان، وهو أحد أعضاء مجلس السيادة من المكون المدني، قد وجَّه اتهاماً صريحاً للمكون العسكري، شريك السلطة الانتقالية في البلاد، بمحاولة السيطرة على الأوضاع السياسية، معتبراً ذلك "انقلاباً حقيقياً أو ما يعرف بالانقلاب الأبيض".
وقال سليمان إن تسليم السلطة للمدنيين ليس شيئاً ثانوياً، مضيفاً أنه يفضل اقتراحاً بأن يتم ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
"المدنيون اختطفوا الثورة"
ودعا قائد الجيش والرئيس الحالي لمجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، مؤخراً إلى حل الحكومة المدنية برئاسة حمدوك، مجادلاً بأن هذه الخطوة ستنهي المأزق السياسي الحالي في البلاد.
في غضون ذلك، علَّق الجيش اجتماعات مجلس السيادة خلال الأسبوعين الماضيين، وأصدرت الأجهزة الأمنية بالدولة، الأسبوع الماضي، حظراً على سفر عدد من المسؤولين المدنيين.
وتصاعدت المخاوف منذ يوم السبت، عندما اعتصم آلاف المنتمين السابقين إلى ميليشيات مسلحة وأنصار الجيش لأول مرة حول القصر الرئاسي في العاصمة، مطالبين بالحل الفوري لمجلس الوزراء المدني.
وامتلأت شوارع وسط الخرطوم بالقرب من القصر، وغير بعيد من مجلس الوزراء بالآلاف من الأعضاء السابقين في حركة تحرير السودان المتمردة، التي يتولى زعيهما مني أركو مناوي منصب الحاكم الحالي لإقليم دارفور، وحركة العدل والمساواة برئاسة وزير المالية جبريل إبراهيم.
كانت حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة قاتلت قديماً ضد البشير في ذروة الصراع الذي شهده إقليم دارفور في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ويحمِّل المتمردون الآن الفصائل المدنية مسؤولية التأخير في تنفيذ اتفاق "جوبا" للسلام، الموقع في عام 2020، بين الحكومة الانتقالية وعدد من فصائل البلاد المتحاربة.
يقول المتمرد الدارفوري السابق أحمد المختار لموقع Middle East Eye: "لن نغادر هذه الساحة حتى تُحلّ هذه الحكومة. هؤلاء المدنيون اختطفوا الثورة، وهذه هي عين الممارسات الديكتاتورية. إنهم يقولون إنهم ضد أي انقلاب عسكري محتمل، لكن دعني أخبرك أن المدنيين قادوا انقلاباً على الثورة ونحن هنا لمعالجة ذلك".
القوى المدنية تتعهد بتعبئة الشارع، بعدما رفضت الانتخابات
على الجانب الآخر، دعا التحالف السياسي المدني الحالي -المكون من قوى الحرية والتغيير، وتجمع المهنيين السودانيين، ولجان المقاومة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني الأخرى- إلى "مسيرة مليونية"، في 21 أكتوبر/تشرين الأول، ضد الجيش.
وجاء في بيان صادر عن لجان مقاومة الأحياء في الخرطوم: "سنملأ هذه الشوارع لنُظهر لهم قوتنا وتمثيلنا لهذه الثورة، نحن على استعداد للموت مثل إخواننا الذين قتلتهم هذه القوات التي تريد الآن العودة إلى السلطة".
تجدر الإشارة إلى أن القوى المدنية هي التي أصرت على إطالة الفترة الانتقالية بعد عزل البشير، وتأجيل إجراء الانتخابات بدعوى خوفها من فوز الإسلاميين بها، وأصرت على تشكيل حكم انتقالي غير منتخب، مناصفة بين العسكريين والقوى المدنية التي يسيطر عليها اليسار السوداني، والآن باتت هذه القوى تتجرع من الكأس الذي اختارته، فبما أن وصولها للحكم جاء بطريقة ضغوط الشارع وليس الانتخابات، فإن قوى عديدة تريد نصيبها من الكعكعة السياسية بنفس الطريقة، أي عبر ضغوط الشارع.
وقبل هذه الأزمات، أظهر إصرار العسكريين السودانيين على التقدم صوب التطبيع مع إسرائيل تجاهلاً واضحاً لشركائهم من القوى المدنية.
اتهامات للجيش بالوقوف وراء حصار الموانئ
في المقابل، وسط الصراع المستمر على السلطة في الخرطوم، أحرز الجيش السوداني تقدماً آخر لصالحه في شرق السودان، حيث قام المتظاهرون المؤيدون للجيش، وعلى رأسهم الزعيم القبلي محمد الأمين ترك، بإغلاق الموانئ والطرق المؤدية إلى باقي أنحاء البلاد، ما كان له تداعيات على توريد وتوزيع المواد الغذائية والخبز والوقود والسلع الأخرى.
وقال نائب رئيس حزب مؤتمر البجا القومي، شيبة ضرار، إن إغلاق الموانئ والطرق سيستمر حتى تُعالج مطالب جماعة البجا العرقية، لا سيما إلغاء البنود المتعلقة بشرق السودان في اتفاقية جوبا للسلام.
وقال ضرار لموقع Middle East Eye: "مطالبنا الأساسية هي إلغاء المسار الذي اختير لشرق السودان في اتفاقية جوبا للسلام، لأنها جائرة ولا تمثل القادة الحقيقيين والمخلصين لشرق السودان"، معتبراً أن الاتفاقية كانت لها تداعيات سلبية على "الأمن والسياسة والاقتصاد في الإقليم بأكمله".
في المقابل، اتهم أنصار حكومة حمدوك قادة البجا بأنهم خاضغون لتلاعب الجيش بهم، وهو ادعاء أثار غضب البجا.
وشدد ضرار على أن "لشرق السودان مطالب عادلة للغاية بالمساواة ووقف التهميش التاريخي لمنطقتنا وشعبنا".
العسكريون يريدون تجنب المحاسبة، ومفاوضات على حل وسط
كشف دبلوماسيون غربيون ومصادر مقربة من حمدوك عن بدء محادثات بين الجانبين لحل الأزمة الحالية.
وأشارت المصادر، التي طلبت عدم الكشف عن هويتها، إلى أن المحادثات كانت تهدف إلى التفاوض على اتفاقية جديدة لتقاسم السلطة.
وقالت المصادر إن الأمر قد "لا يكون حلاً مباشراً أو تغييرات كبيرة للإعلان الدستوري الموقع في أغسطس/آب 2019، لكنه قد يصل إلى نوع من التعديل الوزاري واسع النطاق يمنح نسبة أكبر من حصص تقاسم السلطة إلى المتمردين وأنصار الجيش".
وقد أصدر رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك، في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2019، قراراً بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في الانتهاكات، التي حدثت في فض اعتصام القيادة العامة.
ويفترض أن اللجنة التي كلفت بالتحقيق في مجزرة القيادة العامة يجب أن تعمل على تحديد المسؤولين عن فض الاعتصام بالتحريض أو المشاركة، أو الاتفاق الجنائي أو ارتكاب أي انتهاكات أخرى، وتحديد وحصر عدد الضحايا من الشهداء والمصابين والجرحى والمفقودين، وقيمة الخسائر المالية والجهات والأشخاص المتضررين من ذلك.
وبعد أكثر من عامين، ما زالت جثث ضحايا مذبحة القيادة العامة راقدة في غياهب النسيان بإحدى مشارح العاصمة السودانية، حسب تقرير The New York Times الأمريكية.
هل ينتهي الأمر بوقوع انقلاب أبيض في السودان؟
في معرض التعليق على ذلك، قال باحث سوداني في مؤسسة فكرية دولية إنهم يعتقدون أن السودان قد يشهد انتكاسة في انتقاله إلى الديمقراطية من خلال "انقلاب ناعم" يسمح لبعض شركاء البشير السابقين بالمشاركة في الحكومة الانتقالية.
وتوقع الباحث، الذي طلب عدم ذكر اسمه، "ألا يكون انقلاباً عسكرياً تقليدياً على غرار السيناريو المصري والتونسي، لكن ينطوي على كثير من أوجه الشبه معهما، وفي النهاية سيفضي إلى تغيير ميزان القوى لصالح النظام القديم والجيش".
ولفت الباحث إلى أن عدداً من العوامل كان لها دور في الصراع الحالي على السلطة في السودان، منها مخاوف قادة الجيش بشأن دعوات المساءلة في واقعة القتل الجماعي للمتظاهرين في 3 يونيو/حزيران 2019، فيما عرف بمذبحة القيادة العامة للجيش، التي تتهم قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي" بالتورط فيها، فضلاً عن علاقات قادة الجيش الاقتصادية والسياسية مع نظام البشير.
وفي الوقت نفسه، فإن الإعلان الدستوري لعام 2019 الذي ينص على تولي البرهان لرئاسة مجلس السيادة لمدة 21 شهراً يعني أنه كان يجب أن يسلم المقعد إلى ممثل مدني في مايو/أيار، وهو انتقال لم يحدث بعد.
على النحو نفسه، يعتقد الدبلوماسي الأمريكي السابق كاميرون هدسون أن الجيش السوداني يؤمِّن لنفسه الوسائل للتهرب من المساءلة.
ويقول هدسون: "هؤلاء القادة لن يسيروا طوعاً إلى أحضان المحكمة الجنائية الدولية أو سجن كوبر. يجب أن يشعروا أنهم إذا تخلوا عن السلطة فإنهم سيُتاح لهم البقاء آمنين في سودان المستقبل، ومع ذلك فإن هذا الأمر يتطلب مقايضات قد لا تحظى بالقبول العام".
لهذه الأسباب سنياريو مصر أو تونس مستبعد
أما سليمان بلدو، الباحث البارز في منظمة Enough Project المعنية بمكافحة الإبادة الجماعية والجرائم العنصرية ويقع مقرها في الولايات المتحدة، فيرى أن السيناريو المصري أو التونسي لن يكون قابلاً للحدوث في السودان، ومع ذلك فقد حذر من أن "التوترات الحالية تشكل خطراً جسيماً على المرحلة الانتقالية".
وقال بلدو لموقع MEE: "في السودان، ظلت مستويات التعبئة الشعبية عالية جداً، وهي تعمل كرادعٍ ضد استيلاء المستبدين على السلطة".
وأضاف بلدو أن المعارضين للتغيير داخل الجيش وفي مقابلهم قوى الحرية والتغيير يخوضون في سياسة متهورة تخاطر بالضغط إلى أقصى حد ممكن، وكما ينطبق ذلك على تشجيع حصار بورتسودان ومقاطعة الجيش لاجتماعات مجلس السيادة، فهو يشمل في الوقت نفسه عدم الاضطلاع بالأعمال الحكومية، والطيش الذي تبديه قوى الحرية والتغيير بعدم المواقفة على توسيع المشاركة في الحكم.
يذهب هدسون إلى الرأي نفسه، لكنه أبدى ثقته بأن السودانيين عموماً -وليس الجيش أو السياسيين- هم من سيقررون ما إذا كانت الثورة ستستمر. وقال إن "هذه الاحتجاجات الحالية المؤيدة للجيش هي حملة تضليل متقنة وستارة دخان تخفي وراءها أشياء أخرى".
وفي الختام، خلص هدسون إلى أن "الشيء الوحيد الذي قد يبقى على قدر من النزاهة لدى السياسيين والعسكريين في هذه المرحلة هو الاستجابة لمطالب الغالبية العظمى من السكان، الذين يريدون رؤية نظام سياسي جديد في البلاد".