"لقد قتلوا ابني"، هكذا صرخت حسينة بانو باكية عندما زارها صحفيون في قرية نائية على ضفاف نهر براهمابوترا في ولاية آسام الهندية التي تشهد حملة قمع وتهجير ضد المسلمين
أصيب الصبي، الذي يدعى الشيخ فريد، عندما فتحت الشرطة النار على قرويين مسلمين احتجوا على الإخلاء القسري من أراضيهم التي تريد الحكومة الآن منحها للهندوس الأساميين، الذين تسميهم "مجتمع السكان الأصليين".
ومن المفارقات، أنه قبل لحظات من وفاة فريد الذي ينتمي للأقلية البنغالية، كان قد حصل من مكتب البريد على بطاقة هوية بيومترية وطنية تثبت أصله، حسبما ورد في تقرير لموقع مجلة Time الأمريكية.
وتتساءل المجلة الأمريكية في التقرير: هل تتجه الهند نحو إبادة جماعية ضد المسلمين؟
فموت طفل بهذه الطريقة يجب أن يكون سبباً للشعور بـ"عار وطني".
لكن حملة الإخلاء نفسها أدت إلى مزيد من الرعب عندما هاجم أحد جيران فريد يدعى موينول حق، الشرطة بعصا، نتيجة غضبه الأعمى مما يحدث بعد أن قاموا بتفكيك منزله مع منازل 5000 شخص آخرين.
رجال الشرطة المدججون بالسلاح، الذين فاقوا عددهم بشكل كبيرٍ الرجل الذي كان بإمكانهم إخضاعه بسهولة، أطلقوا النار عليه بدلاً من ذلك من مسافة قريبة.
"نيويورك تايمز" تكشف أن المطرودين يحملون الجنسية الهندية
وفي واقعة مماثلة وقف المزارع أحمد علي عاجزاً بينما تضرم الشرطة الهندية النيران في منزله.
اقتحمت قوات الشرطة قريته حاملين العصي؛ لضرب المشاركين في ما وصفه السكان المحليون بأنه احتجاج سلمي ضد الإخلاء القسري. وعندما رد المتظاهرون، أطلقت القوات النار؛ مما أسفر عن مقتل شخصين، أحدهما صبي يبلغ من العمر 12 عاماً. ثم بدأت الشرطة في حرق المنازل المحلية والممتلكات الموجودة بداخلها؛ والتي لم تكن سوى أسرّة وأغطية وتِبْن لإطعام ماشيتهم.
وقال علي، في مقطع فيديو يصور الحادث، موجهاً حديثه إلى جمهور وطني وعالمي: "لطفاً انظروا! هل نكذب؟".
صدمت مقاطع فيديو وأوصاف أعمال العنف التي انتشرت على نطاق واسع الشهر الماضي، معظم أنحاء الهند ولفتت انتباه العالم إلى حملة حكومية من عمليات الإخلاء القسري في الزاوية الشمالية الشرقية البعيدة من البلاد، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وقال مسؤولون بالحكومة المحلية إنهم كانوا يستهدفون أعداداً كبيرة من المهاجرين غير الشرعيين من بنغلاديش الذين يقيمون على أراضٍ ضرورية لمشروعات زراعية حيوية.
لكن المقابلات ومراجعة الوثائق التي أجرتها صحيفة The New York Times الأمريكية أظهرت أنَّ العديد من السكان المطرودين مواطنون شرعيون بالهند ولهم الحق في العيش على الأرض المملوكة للحكومة. ويرى منتقدو الحكومة أنَّ عمليات الإخلاء جزء من حملة أوسع للحزب الحاكم في الهند ضد السكان المسلمين بالبلاد.
وقال سوابان كومار غوش، نائب رئيس منظمة غير ربحية تعمل لصالح النازحين في الولاية: "يريدون أن يعيش المسلمون مكبوتين، تحت رحمة الهندوس".
مودي يبني سياسته على العداء للمسلمين
حشد رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي وحزبه الحاكم "بهاراتيا جاناتا" قاعدتهما القومية الهندوسية جزئياً من خلال الدفع بمبادرات تضع أكثر من 200 مليون مسلم بالبلاد في وضع غير مؤاتٍ.
تقوم سياسة مودي على لفت انتباه الهنود بعيداً عن مشاكل الهند الحقيقية مثل الفقر والتنمية إلى إضرام العداء بين الهندوس والمسلمين، وجعل المسلمين بمثابة عدو للهند.
وتمتلئ وسائل التواصل الاجتماعي الهندية اليوم بمقاطع فيديو نصبوا أنفسهم حماة للهندوسية يطالبون بإعدام المسلمين دون محاكمة، وهو عمل شائع لدرجة أنه لم يعد يصنع أخباراً بعد الآن.
ونادراً ما يتم حجز أتباع التفوق الهندوسي البارزين بسبب خطاب الكراهية. ويتعرض المسلمون بشكل روتيني لهجمات عشوائية؛ لقيامهم بنقل الماشية أو الوجود برفقة نساء هندوسيات.
في بعض الأحيان، يكون الاستفزاز ببساطةٍ نتيجة أن شخصاً تبدو عليه مظاهر أنه مسلم بشكل واضح، كما قال مودي نفسه في التجمعات الانتخابية، يمكن التعرف على الأشخاص "الذين يخلقون العنف" من خلال ملابسهم.
في ديسمبر/كانون الأول 2019، أقرّت الهند قانون الهجرة الذي يُسرِّع منح المواطنة للمهاجرين غير الشرعيين من البلدان المجاورة طالما كانوا هندوساً أو أتباع أحد الأديان الخمسة الأخرى في الهند، باستثناء المسلمين. وفرض قادة الأحزاب في عدد من الولايات الهندية قوانين لحظر تحويل الديانة من خلال الزواج، باستخدام مصطلح "جهاد الحب"، الذي لا يدع مجالاً للشك في من تستهدف هذه الإجراءات.
ولكن لماذا يركز على ولاية آسام تحديداً؟
وركزت بعض أشد الإجراءات صرامة على ولاية آسام، حيث يشكل المسلمون نحو ثلث السكان. في صيف عام 2019، نزعت مراجعة المواطنة الجنسية من أكثر من مليوني شخص من سكان آسام البالغ عددهم 33 مليون نسمة، كثير منهم فقراء ومسلمون.
والآن، تحت قيادة هيمانتا بيسوا سارما، رئيس الوزراء في ولاية آسام، طردت الحكومة قسراً مئات أو ربما الآلاف من الأشخاص الذين وصفتهم بأنهم أجانب مشتبه بهم، وهي جماعة تقول جماعات حقوق الإنسان والسكان المحليون إنَّ غالبيتها من المسلمين.
وأعلنت حكومته مؤخراً عن خطط لإعادة توزيع تلك الأراضي على "السكان الأصليين" في الولاية. ويطلب قادة الحزب بالفعل من سارما تنفيذ مزيد من عمليات الإخلاء وبناء المشروعات الزراعية على الأراضي المأهولة.
ونفى سارما أن تكون عمليات الإخلاء معادية للمسلمين، قائلاً إنها تحظى بـ"دعم الجمهور".
وتجري الحملة في ولاية يُعرِّف فيها كثير من الناس أنفسهم بأنهم آسام، قبل كونهم هنوداً. ويشعر العديد من السكان الأصليين الآسام والهندوس والمسلمين على حد سواء بالقلق منذ فترة طويلة، من أنهم يفقدون هويتهم لصالح المهاجرين، وغالباً ما يكونون من بنغلاديش المسلمة ويتحدثون اللغة البنغالية.
فولاية آسام هي المكان الذي تم فيه شحذ وتعميم هذا التصور للمسلم باعتباره دخيلاً خطيراً غير مرغوب فيه. الخوف من أن يجتاحه "الغرباء" تم وراثته على مدى قرون، ويعود تاريخه إلى الوقت الذي بدأ فيه البريطانيون إزالة غابات الولاية من أجل زراعة الشاي ومحاصيل أخرى. وأدى ذلك إلى الهجرة الداخلية للفلاحين البنغاليين من المناطق المجاورة المكتظة بالسكان بحثاً عن الأراضي الخصبة التي يمكن الحصول عليها بسهولة، في ذلك الوقت كان إقليم البنغال جزءاً من الهند.
وأقرت ولاية آسام الهندية مؤخراً قانوناً يلغي المدارس الإسلامية الحكومية قائلة "إنها توفر تعليماً دون المستوى"، حسبما ورد في تقرير لوكالة Reuters.
على غرار ما حدث للروهينغا والتوتسي واليهود في ألمانيا النازية
مع صعود مودي، اختلط الاستياء التاريخي للآساميين تجاه المتحدثين بغير اللغة الآسامية مع سياسات القومية الهندوسية في مزيج خطير من كراهية الأجانب والوطنية.
وأصبحت ولاية آسام مختبر مودي الكبير، قبل أن يأخذ هذه المأساة إلى المستوى الوطني. يقول حزب بهاراتيا جاناتا إنه يريد ببساطةٍ أن تتخلص الهند من "المهاجرين البنغلاديشيين"، لكنه يستخدم هذه القضية للإشارة للمسلمين الهنود جميعاً.
وحالياً هناك ما يقرب من مليوني شخص محرومون من حق التصويت في الولاية، مع عدم وضوح ما سيحدث لهم.
ما تفعله الحكومة الهندية اليوم يشبه ما فعلته ميانمار من حرمان جماعي للروهينغا في عام 1982 من حق التصويت قبل أن تبدأ المذابح والنزوح الجماعي بعد ذلك بسنوات، حسب مجلة Time.
ورغم المؤشرات على تراجع معدل الزيادة السكانية لدى المسلمين، يشير أعضاء حزب بهاراتيا جاناتا الآن إلى المسلمين الهنود على أنهم "نمل أبيض" يأكلون موارد الهند، ويحرم الهندوس مما يستحق لهم في أرضهم، وتذكّر هذه الطريقة بنعت اليهود في ألمانيا النازية بـ"الجرذان"، وعندما كان يطلق على التوتسي في رواندا بالتسعينيات "الصراصير" قبل أن يتم تنفيذ جرائم إبادة جماعية بحق المجموعتين.
من جانبه، قال سانتانو بورثاكور، المحامي في ولاية آسام الذي يدافع عن المجتمعات المهمشة، إنَّ حزب "بهاراتيا جاناتا" يستغل هذه التعقيدات استغلالاً يضع الهندوس في مواجهة مباشرة مع المسلمين. وأضاف: "لقد تمكنوا من الاستفادة من مخاوف الناس".
فيديوهات كشفت حجم الظلم الذي يقع على المسلمين
وتستمر عمليات الإخلاء القسري منذ عقود، لكن الاشتباك الذي وقع في 23 سبتمبر/أيلول، منح هذه القضية جمهوراً وطنياً وعالمياً.
وبحسب أحمد علي وأكثر من عشرة قرويين آخرين، استخدمت قوات الأمن العصي لتفريق الاحتجاج في دهولبور غرب ولاية آسام. وقالوا إنه عند استهداف قاصرين من المجموعة، رد المتظاهرون بإلقاء أعواد الخيزران، فردت الشرطة بإطلاق النار على المتظاهرين، وأحرقت المنازل وهدمت المساجد والمدارس، بحسب السكان.
وقدَّمت وفاة موينول حق، الصورة التي رآها الكثير من الهند. فقد أظهر مقطع فيديو كيف تجمّع حوله عدد كبير من الضباط، لكنه واجههم بعصا في يده. وبعد ثوان، وسط صوت إطلاق نيران، سقط موينول على الأرض. لكن رجال الشرطة واصلوا ضربه بالعصي. وبعد ذلك، داس مصور يعمل لدى الحكومة المحلية جسد موينول مرتين بينما ينزف الدم من صدره.
وأظهرت الأسرة لصحيفة The New York Times بطاقات هويته الصادرة عن الحكومة، التي أظهرت أنَّ موينول حق هندي الجنسية.
وقال عين الدين، الأخ الأصغر لموينول حق: "إنهم يريدون فقط تعذيبنا لأننا مسلمون".
وكان السكان المحليون الذين تحدثت معهم الصحيفة، في الغالب مسلمين يتحدثون الآسامية والبنغالية، وأحياناً مزيج من الاثنين، وقالوا إنهم عاشوا وزرعوا في الأرض لعقود. وقدمت أسرة موينول حق وآخرون وثائق تثبت أنهم دفعوا ضرائب على الأرض التي يسكنونها.
بدوره، علّق سانجيب باروه، أستاذ الدراسات السياسية بكلية بارد في نيويورك: "حزب بهاراتيا جاناتا يعني شيئاً واحداً بكلمته: السكان الأصليين، والجميع يتبعه في هذا"، في إشارة إلى أنه يقصد الهندوس.
هدم للمساجد والمدارس الدينية
وفي زيارة حديثة لصحيفة The New York Times، شوهدت الجرارات تحرث الأرض حول معبد هندوسي، دون أن يمسه أحد.
فيما قال أوهاف داس، كاهن هندوسي في المعبد: "من الجيد إجلاء هؤلاء الأشخاص".
ورداً على سؤال حول كيفية هدم السلطات لمساجد ومدرسة، قال الكاهن داس: "لا يحتاج الهندوس إلى مساجد ومدارس دينية"، في إشارة إلى أن الولاية تعتبر نفسها مخصصة للهندوس فقط.
ويحذّر المحامون والسياسيون المعارضون من أنَّ الانقسامات السياسية في ولاية آسام يمكن أن تؤجج التوترات الدينية إلى مستويات أخطر من ذلك.
قال أخيل جوجوي، وهو معارض وناشط: "هذا عمل بربري من قبل حكومة بربرية". وأُطلِق سراح جوجوي من السجن قبل أربعة أشهر بعد تبرئته من تهم موجهة إليه بموجب قانون الأمن الوطني الهندي الصارم.
بدوره، قال المزارع أحمد علي إنَّ الحريق في ذلك اليوم التَهَم وثائقه القديمة، وضمنها الأوراق التي تظهر أحقيته في الأرض. وتابع أن ما أحرقته الشرطة بعد ظهر ذلك اليوم لم يكن مجرد منازل الناس، بل أحلامهم أيضاً.
وأضاف: "لم تشتعل ألسنة النار بالخارج فحسب؛ بل أحرقتنا من الداخل أيضاً".