يبدو أن القمة الفرنسية الإفريقية التي احتضنتها باريس الأسبوع الماضي انقلبت على الرئيس إيمانويل ماكرون من حيث أراد أن تكون مصدر قوة ونفوذ له بإفريقيا، بعيداً عن زعمائها الذين تتسم علاقات باريس معهم بالتوتر مؤخراً.
إذ اجتمع ماكرون في النسخة الـ28 من القمة الفرنسية الإفريقية ولأول مرة بدون حضور زعماء دول أو حكومات إفريقية، مع وفود شبابية (3000 شاب) من 53 دولة إفريقية تضم مثقفين ورواد أعمال وفنانين ورياضيين شباباً، إضافة إلى جمعيات من المجتمع المدني الإفريقي والفرنسي، يوم الجمعة 8 أكتوبر/تشرين الأول 2021 في مدينة مونبلييه، الواقعة جنوب شرق فرنسا. فما الذي حدث؟
ماكرون كان يبحث عن "جيل جديد من المؤيدين لفرنسا في إفريقيا"
قبيل انعقاد القمة المثيرة للجدل، قال الإليزيه، إن الغرض من عقد هذه القمة النوعية هو مناقشة القضايا السياسية والدبلوماسية، والمشاكل الأخرى التي يعاني منها الشباب الأفارقة، وعلى رأسها مشكلة الحصول على تأشيرة للسفر إلى فرنسا للدراسة أو للعمل.
وقالت جريدة "ميدي ليبر" الفرنسية، نقلاً عن الإليزيه، إن الرئيس الفرنسي هو الذي اختار هذه الصيغة الشبابية الجديدة للقمة؛ رغبة منه في "إعطاء الأولوية لشباب هذه الدول الإفريقية، ولكل الذين يصنعون التغيير في القارة السمراء وفي فرنسا ومن أجل الإنصات لهم والخروج من الصيغ والشبكات البالية".
ووضع ماكرون رعاية هذه القمة بين يدي المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي الذي أشرف منذ شهور على تنظيم هذا الحدث، بهدف "تغيير بعض ملامح العلاقات الفرنسية الإفريقية في المستقبل"، كما تقول فرانس برس.
وكان الإليزيه يأمل أن تكون قمة مونبلييه "فرصة سانحة لتبادل الآراء والمواقف بين الشبان المشاركين في هذه الورشات واقتراح توصيات تمكّن من بناء علاقة جديدة بين القارة الإفريقية وفرنسا وإعادة تأسيسها".
حيث جاءت هذه القمة في وقت تأزمت فيه العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا والدول الإفريقية، لا سيما بعد إعلان باريس أنها ستخفض عدد التأشيرات الممنوحة عادة لمواطني الجزائر والمغرب وتونس، وإغلاق الجزائر مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية؛ احتجاجاً على تصريحات مسيئة أطلقها ماكرون، وفي وقت استدعت فيه مالي أيضاً السفير الفرنسي احتجاجاً على تصريحات ماكرون "غير الودية والمهينة" والتي دعا فيها إلى "عودة الدولة" في مالي.
هل جاءت النتائج عكس ما توقع ماكرون؟
في القمة التي حضرها ماكرون وكان فيها وجهاً لوجه مع الشباب الإفريقي، وجَّه عدد من المتحدثين سيلاً من الانتقادات الحادة لماكرون وسياسة فرنسا "غير الأخلاقية" في القارة السمراء.
وقال ناشط سنغالي يدعى شيخ فال إن على فرنسا تغيير نهجها تجاه القارة، مطالباً فرنسا وزعيمها بالاعتذار للقارة الإفريقية، التي كانت تستعمر باريس معظمها في الماضي.
وذكر فال أن انعقاد القمة الفرنسية الإفريقية لأول مرة بمشاركة الشباب فقط سيمنح علاقة فرنسا بقارة إفريقيا شكلاً آخر، والقمة أتاحت الفرصة لفرنسا لأن تتعرف على خيبة الأمل التي أصيب بها الأفارقة وعلى شكوى الشباب الإفريقي مباشرة.
وأضاف لوكالة الأناضول أن ماكرون أجابه عن سؤاله حول سبب عقد القمة مع الشباب فقط، بأنه يريد أن يفتح صفحة جديدة وأن يشكل علاقة جديدة من خلال حوار مفتوح وصادق دون أي مجاملات، وأن يستمع إليهم ويرغب في سماع ما يفكرون فيه.
وأشار فال إلى أن فرنسا لا تزال في نظرهم (الشباب الإفريقي) دولة مستعمرة سابقة تعمل على الاستفادة من الموارد والإمكانات الاقتصادية لمستعمراتها القديمة.
وتابع أنه وجه عدداً من المطالب للرئيس لماكرون، بينها تقديم فرنسا الاعتذار لإفريقيا عما قامت به في القارة، والتوقف عن التعاون مع القادة الأفارقة الديكتاتوريين، والانسحاب التدريجي المخطط من القواعد العسكرية بإفريقيا، وتشكيل آلية تعاون صادقة لتعزيز المكاسب الديمقراطية، وتنفيذ إصلاحات الفرنك الإفريقي التي تعهدت بها فرنسا عام 2019 في أبيدجان، وإعادة الاحتياطات الوطنية الإفريقية التي تحتفظ بها فرنسا في بنكها المركزي.
ماكرون يواجه غضب الشباب الأفارقة
وتابعت الصحافة الإفريقية والفرنسية هذه الجلسة التي أتيحت فيها الفرصة لشباب القارة الإفريقية للتعبير لماكرون عن انتقادهم لهيمنة فرنسا ونفوذها في مستعمراتها السابقة.
وقال موقع "راديو فرنسا الدولي RFI" إن ناشطة كينية تدعى أديل أونيانغو طالبت ماكرون بإعادة النظر في علاقة فرنسا المضطربة بإفريقيا، وطالبت بفحص أوجه القصور والفجوات في النزاهة والسلوك غير الأخلاقي لباريس.
وأضافت أونيانغو لماكرون الذي كان يقف بالقرب منها: "نحن كأفارقة نشعر بآلام الاستعمار كل يوم.. إن جو الإنكار الذي اختارت فرنسا الجلوس فيه غير مريح ليس فقط لإفريقيا ولكن أيضاً لفرنسا.. كيف يمكنك الوثوق بمصدر ألمك عندما لا يعترف هذا المصدر بذلك؟!".
استحضرت أونيانغو ما اعتبرته ازدواجية المعايير في فرنسا، التي تدعي أنها تدافع عن حقوق الإنسان، بينما تتعاون مع أنظمة وقادة وأفراد ديكتاتوريين وموقفهم من القضايا الاجتماعية سيئ.
وأضافت الناشطة الكينية: "هناك من يستفيد من هذه العلاقة المختلة بين إفريقيا وفرنسا، سواء أكانت شركات من فرنسا تنتفع من خيرات القارة، أو من قبل أفراد ومؤسسات فاسدة من إفريقيا متعاونة معها".
التناقض الفرنسي في إفريقيا
من جانبه، شدد الناشط المالي شيخ عمر ديالو الذي شارك في القمة، على أن شباب إفريقيا عبروا بصوت عالٍ عن أفكارهم بخصوص تناقض فرنسا في نهجها تجاه إفريقيا.
وأضاف ديالو لوكالة الأناضول، أن الشباب المشاركين في القمة الفرنسية الإفريقية، عبروا عن كل ما يزعجهم من فرنسا، من التدخلات العسكرية إلى العلاقات الدبلوماسية، وحتى موضوعات الإدارة والحوكمة، وأن هذا يعد أمراً مهماً للغاية.
وشدد على أنهم لا يريدون أن ينظر إلى إفريقيا على أنها قارة ضعيفة مثيرة للشفقة، حسب تعبيره.
وكانت الوكالة الفرنسية للتنمية التي تنشط في إفريقيا، موضوعاً بارزاً في القمة الفرنسية الإفريقية، وذلك في ظل الحديث عن عدم وجود شفافية فيها واستشراء الفساد في مشاريعها بالقارة السمراء، وهي تقترب من الذكرى 80 لإنشائها.
وقال الشاب إلداء كوما من بوركينا فاسو، إنه حان الوقت لإجراء عدد من التغييرات في هذه المؤسسة التي تحوم حول أنشطتها العديد من شبهات الفساد، مضيفاً لماكرون: "نريد شراكات واضحة وشفافة.. ابتعدوا عن تشويه صورة القارة الإفريقية وتصويرها على أنه يسكنها أناس يعيشون في بؤس ويحتاجون إلى إنقاذ".
كيف واجه ماكرون هذه الانتقادات؟
ودعا الشباب الحاضرون الآخرون الرئيس الفرنسي إلى وقف دعم باريس للديكتاتوريين الأفارقة، موجهين انتقادات لتدخلات فرنسا العسكرية في بلدانهم، كما نقلت إذاعة صوت أمريكا VOA News.
لكن ماكرون رد على هذه الانتقادات بأن الجيش الفرنسي موجود في إفريقيا فقط بناء على طلب دول هناك، نافياً أن تدعم باريس الطغاة، حسب تعبيره. وقال ماكرون لأحد الشباب المتحدثين من غينيا، إن فرنسا اعترضت رسمياً على ترشح الرئيس الغيني المخلوع ألفا كوندي لولاية ثالثة.
مضيفاً أنه يتفهم موقف هؤلاء الشباب الغاضبين في القمة، قائلاً إن "فرنسا لديها دور كبير تلعبه في إفريقيا وهناك مسؤولية هائلة تقع على عاتقها".
وقال ماكرون إن فرنسا كان لها مساهمات في التجارة الخارجية والاستعمار، لكنها ليست الوحيدة التي فعلت ذلك، لكنها ساهمت به إلى حد كبير. وأضاف: "نعم، علينا الاعتراف بهذه المسؤولية".
العلاقات الفرنسية الإفريقية في تدهور مستمر
ويحتفظ الرئيس الفرنسي بحوالي 5100 جندي في منطقة الساحل الإفريقي كجزء من مهمة مكافحة الجماعات المسلحة ضمن عملية برخان. لكن سوف ينهي ماكرون ذلك في شمال مالي قريباً، وسيغلق ثلاث قواعد عسكرية هناك، ويعيد تشكيلها من قاعدة في النيجر بالتعاون مع وحدة القوات الخاصة الأوروبية، تاكوبا.
تزداد عدم الثقة في السياسات الفرنسية بشكل كبير جداً في إفريقيا منذ صعود ماكرون. ففي 25 سبتمبر/أيلول، اتهم رئيس وزراء مالي، تشوجويل مايغا، الذي تم تنصيبه بعد الانقلاب الثاني خلال عام، الرئيس الفرنسي بـ"التخلي عن بلاده في منتصف الرحلة"، وقال إنه ليس لديه خيار سوى اللجوء إلى الآخرين من أجل استعادة الأمن في الوقت الذي تزدهر الجماعات المسلحة في المنطقة.
حيث كان يشير رئيس الوزراء المالي، دون أن يسميها، إلى شركة فاغنر الروسية، المرتزقة الروسية الأكثر غموضاً. ووصفت فلورنس بارلي، وزيرة الدفاع الفرنسية، فكرة انسحاب الجنود الفرنسيين من المنطقة بأنها "فاضحة". لكنها حذرت أيضاً مالي من أن التعاقد مع مرتزقة فاغنر قد يعرض وجودها العسكري للخطر.
ومؤخراً، أثار ماكرون غضب الجزائر بالحديث عن "النظام السياسي العسكري" الذي "أعاد كتابة التاريخ الرسمي بالكامل" على أساس "كراهية فرنسا". ردت الجزائر بإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية. فيما تقول فرنسا إنها ستخفض عدد التأشيرات الصادرة في الجزائر والمغرب وتونس ما لم يتعاون الثلاثي في استعادة المهاجرين غير الشرعيين المطرودين من فرنسا.
وسط هذا التوتر، كان الهدف غير المعلن للقمة هو "الحاجة إلى توضيح الطريقة التي يتم بها استجواب فرنسا"، كما يقول أحد مساعدي الرئاسة الفرنسية لمجلة "Economist" البريطانية، وأضاف: "كانت الفكرة هي السماح لكل جانب بالتعبير عن مظالمه، على أمل تنقية الأجواء بعيداً عن الحكومات". فهل نجح ماكرون بذلك أم أن ما أراده قد انقلب عليه؟