في بيروت وباريس ولندن على السواء يتزايد الخوف من التجمد في الشتاء القارس، في ظل ارتفاع أسعار الغاز بشكل غير مسبوق.
بينما هناك العديد من الأسباب لأزمة الطاقة في أوروبا من بينها ارتفاع الطلب مقابل انخفاض العرض، بسبب التعافي الاقتصادي الذي جاء في وقتٍ أقرب من المُتوقَّع من تداعيات جائحة كوفيد-19، والتوجُّه الجديد الذي تدعمه الحكومة الصينية لمكافحة التغيُّر المناخي.
فإن هناك سبباً إضافياً يظهر في لبنان وهو عقودٌ من الفساد السياسي وضعف الكفاءة سببٌ مهم.
ولكنْ هناك شيءٌ واحد يركِّز عليه الأوروبيون واللبنانيون على حدٍّ سواء على أمل الخروج من الأزمة، ألا وهو دبلوماسية خطوط الأنابيب، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
هل تنجح محاولات روسيا لاستخدام سلاح الطاقة ضد أوروبا؟
بالنسبة للأوروبيين، فإنهم ينظرون بريبة للدور الروسي في ارتفاع أسعار الغاز، ويقول مُحلِّلون إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرى فرصةً سانحةً لاستغلال التفاوت بين العرض والطلب وعدم القدرة على التنبؤ بالمجريات الجيوسياسية.
وأوضحت الأزمة من الناحية العملية كيف يمكن استخدام الغاز الطبيعي كسلاحٍ جيوسياسي، لكنه سلاحٌ له خصوصيةٍ فريدة؛ فهو غير فعَّال ورديء، بل وخطرٌ يمكن أن يأتي بنتائج عكسية، حسب تقرير الصحيفة البريطانية.
يقول البروفيسور أندرياس جولدثاو، الأستاذ في السياسات العامة بجامعة إرفورت الألمانية: "الغاز كسلاحٍ جيوسياسي يكون فعَّالاً فقط في علاقةٍ تجارية غير متكافئة، حيث يكون من الواضح أن أحد الجانبين له اليد العليا. ويمكن القول إن هذا لم يكن هو الحال أبداً في علاقات الغاز بين الاتحاد الأوروبي وروسيا". ويضيف: "أوروبا عميلٌ رئيسي، ولم يكن لدى روسيا الكثير من الخيارات للتصدير إلى أيِّ مكانٍ آخر".
بعد تاريخ طويل من استغلال صنابير الغاز.. هل تعلم الأوروبيون الدرس؟
خلال نزاع التسعير في عام 2009 مع أوكرانيا، قطعت شركة الغاز الروسية العملاقة غازبروم جميع الإمدادات عن أوروبا، مِمَّا أثَّر على دولها الجنوبية الشرقية وأجزاءً أخرى من الاتحاد الأوروبي. وفي أعقاب أزمة 2014 المتعلِّقة بإلحاق شبه جزيرة القرم بروسيا، أغلقت موسكو صنابير الغاز مرةً أخرى، واتَّهَمَت أوكرانيا بالتقاعس عن سداد ديونها لشركة غازبروم.
يوضح جولدثاو الأمر قائلاً: "لدى روسيا تاريخٌ من استخدام إمدادات الطاقة وتسعيرها كوسيلةٍ لشراء أصدقاءٍ في لعبة فرِّق تسُد مع عملاء الاتحاد الأوروبي. والآن، بعد إرساء نظام قوي ومشترك لسياسة الطاقة الأوروبية، أصبح الأمر صعباً للغاية".
تقول ماريا باستوكوفا، كبيرة مستشاري السياسات في E3G، وهي مؤسسة فكرية مستقلة في مجال مكافحة التغيُّر المناخي: "إذا كانت روسيا تستخدم صادراتها من الغاز كسلاحٍ سياسي، فهذا غير فعَّال على الإطلاق".
في عام 2007، اقترح الاتحاد الأوروبي حزمةً ثالثة من الإجراءات المتعلِّقة بالطاقة والتي تهدف إلى تحسين أداء سوق الطاقة الداخلية للاتحاد الأوروبي. واستهدفت هذه الحزمة، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 2009 -العام نفسه الذي شدَّدَت فيه موسكو الخناق على سوق الطاقة- تكامل سوق الطاقة في الاتحاد الأوروبي لتعزيز المنافسة.
ومنذ ذلك الحين، ألقت التوتُّرات بشأن الغاز الروسي جانباً أيَّ حديثٍ عن ذوبان الجليد بين الجانبين، حسب الصحيفة البريطانية.
تضيف باستوخوفا قائلةً: "تفاقمت الفُرقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، حيث قدَّم الاتحاد الأوروبي تدابير إضافية لتشديد لوائح سوق الغاز، واعتماد رؤية الصفقة الخضراء التي من شأنها أن تقلِّل بالفعل واردات الغاز بنسبة 40% على مدار السنوات العشر المقبلة وأكثر من 90% بحلول عام 2050".
لكن هذا سيستغرق بعض الوقت للحصول على نتائج فعلية. لا تزال أوروبا الآن تستورد 90% من غازها، وتزوِّدها روسيا بحوالي 40% من إجمالي إمداداتها.
ارتفاع أسعار الغاز بشكل غير مسبوق رغم كل هذه الخطط
ولكن يبدو أن أزمة ارتفاع أسعار الغاز هذا العام بددت هذا التفاؤل.
ففي المملكة المتحدة، حيث انهارت العديد من شركات الطاقة نتيجةً لارتفاع الأسعار، تجري تدفئة 80% من المنازل باستخدام الغاز. ووفقاً لوكالة Reuters البريطانية، فإن سعة التخزين في المملكة المتحدة تعادل حالياً حوالي أربعة إلى خمسة أيام من الطلب على الغاز في فصل الشتاء، بانخفاضٍ عن 15 يوماً في السابق.
وفي الأسبوع الماضي، أعلن بوتين أن موسكو مستعدةٌ لزيادة إمداداتها إلى أوروبا وحلِّ الأزمة. لكن قرار غازبروم بضخِّ الغاز في الاحتياطات الوطنية الروسية ربما يكون قد أظهر جانباً من ألعاب بوتين النفسية مع القادة الأوروبيين.
تقول كاتيا يافيمافا، الباحثة الكبيرة في معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة: "بينما صرَّحت شركة غازبروم مراراً، في مايو/أيَّار وأغسطس/آب، بأنها كانت بصدد تصدير 183 مليار متر مكعب من الغاز إلى أوروبا خلال عام 2021 وكانت متلزمةً بهذه التوقُّعات، يبدو أن أوروبا توقَّعَت المزيد من روسيا، وفوجِئت عندما قرَّرَت غازبروم إعطاء الأولوية لملء احتياطاتها في روسيا على تقديم غازٍ إضافي إلى أوروبا".
ومع ذلك، يتَّهِم النقَّاد الكرملين بإبقاء الإمدادات عند مستوياتٍ منخفضة بشكلٍ مُصطَنَع لرفع أسعار الغاز والضغط على المسؤولين الأوروبيين والألمان لتشغيل عمليات خط أنابيب نورد ستريم 2 المثير للجدل.
وصرَّح المسؤولون الروس علناً بأن "الانتهاء المبكِّر من التصديق على عمل" نورد ستريم 2 سوف يساعد على "تهدئة الموقف الراهن".
وقالت باستوكوفا لصحيفة The Independent البريطانية: "رسائل الكرملين بشأن ضرورة تسريع التصديق على خط أنابيب نورد ستريم 2 هي محاولة سيئة التخطيط إلى حدٍّ ما لاستخدام ارتفاع أسعار الغاز لصالح شركة غازبروم والكرملين".
وأشارت إلى أن ذلك لا يغيِّر الموقف العام للاتحاد الأوروبي تجاه روسيا، ولا يساعد على الحفاظ على صورة غازبروم كمورِّدٍ موثوقٍ للغاز.
بدائل الغاز الروسي
يقول خبراء إنه، بالإضافة إلى الغاز الطبيعي المسال في قطر، سيكون البديل الآخر هو الاكتشافات الضخمة للغاز في شرق البحر المتوسط، لكن المنطقة، رغم قربها من القارة الأوروبية، تعجُّ بالصراعات والمنافسة والنزاعات التاريخية، وتضم دولاً مثل مصر وإسرائيل ولبنان وتركيا.
على مدار العقد الماضي، خلقت المنافسة الجيو-استراتيجية على اكتشافات الغاز نظاماً إقليمياً مبنياً على استجابةٍ متبادلة، حيث رفضت تركيا محاولة استبعادها، وترجمت مصر خلافاتها الأيديولوجية والسياسية إلى تشكيل تحالفاتٍ للغاز في البحر المتوسط، ولكن البلدين دخلا مؤخراً في مفاوضات لتحسين العلاقات.
يقول جولدثاو: "ستخدم إمدادات شرق المتوسط الأسواق المحلية بشكلٍ أساسي في مصر وإسرائيل والمنطقة الأوسع. وبالإضافة إلى ذلك، من المُحتَمَل أن ترفض تركيا التطوير السريع لحقول الغاز في قبرص دون مراعاة مصالحها ومصالح قبرص التركية".
شريان حياة للبنان
لكن إمدادات الغاز المُتنازَع عليها في شرق المتوسط يمكن أن تكون شريان حياة للبنان، حيث تسبَّبَت أزمة الطاقة في انقطاع الكهرباء بالكامل وسط أزمةٍ اقتصاديةٍ حادة. وقد جمعت أزمة الطاقة اللبنانية الخصوم القدامى معاً بطريقةٍ قد تخلق دينامياتٍ إقليمية جديدة.
وهذا الشهر، أكتوبر/تشرين الأول، أعلن مسؤولون في المنطقة أنهم وضعوا اللمسات الأخيرة على خطةٍ قد تمنح الأمل لملايين المواطنين اللبنانيين الذين يعانون من الأزمة.
وبحسب الخطة، التي تحظى بدعمٍ أمريكي، ستزوِّد مصر محطات توليد الكهرباء اللبنانية بالغاز عبر خط أنابيب يمرُّ عبر الأردن وسوريا. وسيصدِّر الأردن الكهرباء، التي تُولَّد بشكلٍ أساسي من الغاز المُستورَد من إسرائيل.
لكن مشكلة لبنان تكمن في استخدام محطات الكهرباء القديمة التي تعمل بالديزل، مِمَّا يبرز حاجة لبنان الوشيكة إلى وقود النفط أكثر من الغاز الطبيعي.
يقول جيم كرين، محلِّل الطاقة في الشرق الأوسط في معهد بيكر بجامعة رايس، لصحيفة The Independent: "لا أحد يخمِّن ما إذا كان لبنان سيتخلَّى عن توليد الطاقة بالديزل وينتقل إلى نظامٍ أحدث. سيمثِّل الغاز تحسيناً كبيراً، لأنه أنظف للبيئة وأرخص بكثير".
ومنذ سبتمبر/أيلول، رست ناقلتا نفطٍ إيرانيَّتان في ميناء بانياس السوري، ونُقِلَ الوقود بالشاحنات إلى حدود لبنان، في خطوةٍ صوَّرها حزب الله، المدعوم من إيران، على أنها انتصارٌ كبيرٌ على العقوبات الأمريكية على صادرات النفط الإيرانية.
وتعتمد الولايات المتحدة على الخطة الجديدة لإحباط الهيمنة الإيرانية في لبنان وسوريا وتقديم حلٍّ يقرُّه حلفاؤها العرب.