لم يغير أي وباء تعرضت له البشرية الحياة في المدن كما فعل فيروس كورونا، ولا حتى الإنفلونزا الإسبانية، وانعكس ذلك على تعريف ومواصفات الدول الأكثر أمانا، فأين تقع المدن العربية في قائمة الأكثر أماناً؟
ومنذ تفشي الوباء في بؤرته الأولى بالصين أواخر عام 2019، ثم تحوله إلى جائحة عالمية في مارس/آذار 2020، تغير شكل الحياة على الكوكب بطريقة لم يسلم منها أي شيء سواء في العادات اليومية أو العلاقات بين الناس، ناهيك عن الشلل الذي أصاب أغلب القطاعات الاقتصادية.
وعلى الرغم من التوصل لعدد من لقاحات كورونا منذ أواخر العام الماضي، وهو إنجاز علمي غير مسبوق فتح نافذة الأمل في القضاء على الوباء سريعاً، فإن ظهور سلالات أسرع انتشاراً من الفيروس -وأخطرها حتى الآن سلالة دلتا بلس الهندية- جعل الحرب مع الوباء تأخذ مساراً آخر يتمثل في محاولة التعايش معه.
ما مواصفات المدن الأكثر أماناً في زمن الوباء؟
وفي هذا السياق، بدأ مصطلح التعايش مع الوباء يصبح أكثر انتشاراً، بمعنى العودة تدريجياً إلى ممارسة البشر حياتهم في صورة أقرب ما يكون إلى ما كانت عليه قبل الوباء، مع الالتزام بالإجراءات الاحترازية من ارتداء الكمامات والتباعد الاجتماعي قدر المستطاع، مع تلقي جرعات اللقاح.
وقامت وحدة المعلومات الاقتصادية التابعة لمجموعة الإيكونيميست بوضع مؤشر لأمان المدن في زمان الوباء، بناء على 76 مؤشرَ أمانٍ يرصد أحوال البنية التحتية، والحياة الرقمية، والأمان الشخصي، وعوامل بيئية، فضلاً عن الأحوال الصحية في كل مدينة، ومستوى استعدادها، وأعداد الوفيات جرّاء الإصابة بكوفيد خلال العام الجاري.
وحتى اليوم الأربعاء 13 أكتوبر/تشرين الأول 2021، أصيب ما يقرب من 240 مليون شخص حول العالم بفيروس كورونا منذ ظهوره قبل نحو عامين، تعافى منهم أكثر من 216.8 مليون، بينما فقد نحو 4.9 مليون حياتهم، بحسب موقع وورلد ميترز كورونا.
وبناءً على المؤشرات الصحية، رتبت وحدة المعلومات الصحية التابعة للمجموعة مدن العالم حالياً من حيث درجة "الأمان" التي تحققها لمواطنيها في زمن الوباء. والمقصود هنا ليس المدن أو الدول التي تطبق إجراءات الإغلاق التام لمواجهة التفشي بين سكانها، بل تلك التي تطبق سياسة التعايش مع الوباء غير المسبوق، بمعنى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بعودة النشاط الاقتصادي مع المحافظة على مواطنيها من خلال إجراءات معينة.
فعندما انتشر وباء الإنفلونزا الإسبانية في بدايات القرن العشرين، لم يكن سكان المدن حول العالم يمثلون سوى 14% فقط من الناس، أما الآن فقد قفزت هذه النسبة إلى 57%، بحسب إحصاءات شعبة السكان في الأمم المتحدة.
وبالتالي عندما تفشى وباء كورونا، وجدت السلطات المعنية بشؤون المدن نفسها مجبرة على مراجعة التدابير الوقائية الصحية اللازمة لحماية السكان، للتأكد من ملائمة تلك المدن للعيش في ظل وجود فيروس وبائي سريع الانتشار بتلك الصورة غير المسبوقة.
كوبنهاغن عاصمة الدنمارك
جاءت العاصمة الدنماركية في صدارة مؤشر أمان المدن بسبب عنصر الأمن البيئي، والذي يقيس مدى الاستدامة وجودة الهواء وإدارة النفايات، والغطاء الشجري داخل الأماكن الحضرية، والذي كان له كبير الأثر في مساعدة سكان المدن على التعايش مع القيود المفروضة بسبب الوباء، والتي رُفعت تماماً بداية من سبتمبر/أيلول 2021، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وقال رئيس منظمة كوبنهاغن كاباسيتي الأهلية غير الربحية، إن "المتنزهات والمساحات الخضراء، جنباً إلى جنب مع المجاري المائية كانت ملاذاً لجأ إليه كثيرون من سكان كوبنهاغن إبان الوباء".
وواظبت السلطات في كوبنهاغن على إمداد الناس بالإرشادات الخاصة بالتعايش في ظل كورونا، فضلاً عن توفير اللافتات والعلامات الواضحة للحفاظ على مسافات أمان بين الناس أثناء وجودهم خارج منازلهم.
تورونتو وسنغافورة
وجاءت أكبر عواصم كندا في المركز الثاني على مؤشر أمان المدن، بدرجة مرتفعة فيما يتعلق بالبنية التحتية والأمن البيئي. ويميل سكان تورونتو إلى ثقافة تعلي من قدر التواصل الموجّه فيما بين المجتمعات، لا سيما عندما يتعلق الأمر باللقاحات والتوعية بأهميتها.
ودشنت السلطات في تورونتو عدداً من برامج التطعيم للبلوغ بالمدينة مستويات أعلى من الأمان، ومن دواعي شعور سكان تورونتو بالأمان ما تحظى به من تاريخ طويل من التعددية الثقافية.
وفي المركز الثالث جاءت سنغافورة، التي تحظى بمستوى متقدم على أصعدة الأمن الرقمي والتأمين الصحي وتأمين البنية التحتية، وقد ساعدها ذلك في التعامل بخطى سريعة مع الوباء في أيامه الأولى.
وسخّرت سنغافورة قدرتها على المراقبة الرقمية وتتبع الاتصالات بسرعة. كما أحرزت سنغافورة واحداً من أعلى معدلات التطعيم على مستوى العالم (80% حتى الآن).
ورغم ذلك لا تزال السلطات هناك تطبق أنظمة المراقبة وتعقب الاتصالات بشكل صارم لمواجهة التحورات الجديدة للفيروس، وعلى رأسها دلتا بلس التي فتكت بالهند وأثارت الذعر حول العالم.
ومن العوامل الهامة في توفير الأمان في مدينة سنغافورة كون غالبية سكانها يمارسون أعمالهم عن بُعد، ما خفف من حدة الزحام في الأماكن والمواصلات العامة.
سيدني وطوكيو
وحلّت أكبر مدن أستراليا في المرتبة الخامسة على مؤشر أمان المدن، بينما حلت سيدني بين أعلى 10 مراكز على مستوى التأمين الصحي. وكانت أستراليا من أوائل البلدان التي أغلقت أبوابها إبان تفشي الوباء، كما عكفت السلطات على فرض إغلاقات وتدابير صارمة في وجه أعداد الإصابات المرتفعة، وقد أثمر ذلك عن نتائج إيجابية، إذ لا يزال معدل الوفيات جراء الإصابة بكوفيد في أستراليا من بين أدنى المعدلات حول العالم.
وبلغت نسبة التطعيم في ولاية نيوساوث ويلز 70%، ومن المتوقع إنهاء العديد من القيود المفروضة بسبب الوباء، فضلاً عن فتح الحدود الدولية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
واحتلت عاصمة اليابان صدارة الترتيب على مؤشر التأمين الصحي حول العالم، والذي يقيس عناصر كالرعاية الصحية ومدى الاستعداد للتعامل مع الأوبئة، ومتوسط الأعمار المتوقعة، والصحة النفسية، ومعدلات الوفاة جراء كوفيد-19.
وكان معدل الإصابات بكوفيد في طوكيو قد شهد ارتفاعاً إبان دورة الألعاب الأولمبية، لكنه انخفض بمعدل سريع مع بلوغ نسبة التطعيمات حوالي 60% من السكان.
وفي ضوء تطورات إيجابية، أعلنت السلطات اليابانية نهاية حالة الطوارئ الفيدرالية والرفع التدريجي للقيود المفروضة جراء الوباء بنهاية سبتمبر/أيلول 2021. وتسعى السلطات إلى تشجيع استخدام تأشيرة اللقاح من أجل دخول المنشآت الطبية وأماكن تنظيم الاحتفاليات.
دولة عربية وحيدة في القائمة
قائمة المدن الأكثر أماناً التي تعدها وحدة المعلومات الاقتصادية التابعة لمجموعة الإيكونيميست تضم 60 مدينة حول العالم، واحتلت فيها واشنطن دي سي، العاصمة الأمريكية، المركز الرابع عشر، بينما جاءت العاصمة البريطانية لندن في المركز الخامس عشر، حسب تقرير لصحيفة Indiatimes.
وجاءت العاصمة الإماراتية أبوظبي في المركز 31 ودبي في المركز 35، لتتصدرا قائمة المدن الأكثر أماناً في الشرق الأوسط وإفريقيا، بينما جاءت العاصمة الهندية نيو دلهي في المركز الـ48 وحلت مومباي العاصمة الاقتصادية لشبه القارة الهندية في المركز الـ50.
وبخلاف الإمارات، غابت الدول العربية ومدنها عن قائمة الأكثر أماناً في زمن وباء كورونا، بينما غابت قارتا أمريكا الجنوبية وإفريقيا عن القائمة بشكل كامل، وكان لافتاً وجود سيدني وملبورن وولينغتون عاصمة نيوزيلندا في المدن العشرة الأوائل، تليها أوروبا بثلاث مدن الدنمارك وأمستردام عاصمة هولندا وستوكهولم عاصمة بلجيكا، وآسيا أيضاً بثلاث مدن هي: طوكيو وسنغافورة وهونغ كونغ، إضافة إلى تورنتو الكندية من أمريكا الشمالية.
الخلاصة هنا هي أن المعطيات تشير إلى أن التعايش مع الوباء لفترة غير محددة حتى الآن يعني أن السباق نحو جعل المدن أكثر أماناً للسكان فيها قد يستمر طويلاً، وهو ما يعني الحرص من جانب مسؤولي تلك المدن على جعلها أكثر قدرة على توفير الحماية الصحية دون تطبيق الإغلاق التام، فكيف ستكون القائمة المقبلة للمدن الأكثر أماناً؟