على مدار خمسة عقود ظل التوتر يطبع العلاقات الجزائرية المغربية، بدايته كانت بنزاع حدودي عام 1963، ثم لاحقاً في 1976 بسبب قضية الصحراء الغربية التي لا تزال تُسمم العلاقات بين الجارين، غير أن الأشهر الأخيرة شهدت تصعيداً لافتاً انتهى بإعلان الجزائر قطع حبل الود مع الرباط.
ورغم أن الحدود مغلقة بين البلدين منذ 1994 والتبادلات التجارية تكاد تكون منعدمة، عدا عمليات التهريب، إلا أن القطيعة الدبلوماسية قد تقوّض ما تبقى من حلم بناء اتحاد المغرب العربي الذي ظل يحتضر منذ 1989 وقد تتعداه إلى مجالات سياسية واقتصادية وأمنية.
وتشهد علاقات الجارين توتراً منذ عقود بسبب دعم الجزائر لجبهة البوليساريو التي تطالب باستقلال الصحراء الغربية، بينما يعتبرها المغرب جزءاً لا يتجزأ من أرضه ويقترح منحها حكماً ذاتياً تحت سيادته.
وكانت الجزائر قد قطعت، في نهاية أغسطس/آب 2021 العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، وقالت إن ذلك "بسبب الأعمال العدائية للمملكة ضدها" بينما اعتبرت الرباط القرار "غير مبرر، وبُني على حجج واهية".
وتبدو التوترات مرشحة للتصعيد رغم جهود التهدئة التي تبذلها أطراف عربية وغربية، بدليل إعلان الجزائر إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات المغربية المدنية والعسكرية مؤخراً.
فما هي التداعيات المحتملة لهذه القطيعة الدبلوماسية على المنطقة المغاربية والعمق الإفريقي؟ وما احتمالات تطورها إلى مواجهة عسكرية؟ وما هي فرص عودة المياه إلى مجاريها؟
قطيعة كانت متوقعة
بدأت تعتمل دوافع وأسباب القطيعة الدبلوماسية بالنسبة للجزائر منذ توقيع معاهدة "إبراهام" في خريف 2020 بين المغرب وإسرائيل إضافة إلى الولايات المتحدة والإمارات والبحرين، وبموجب هذا الاتفاق تعترف واشنطن بـ"مغربية" الصحراء الغربية مقابل التطبيع مع إسرائيل.
وقد أثار هذا الاتفاق حفيظة الجزائر واعتبرته تهديداً أمنياً مباشراً لها، خاصة أن المغرب سجّل في السنوات الأخيرة عدة نقاط على مستوى الدبلوماسية معززاً مكانته على الساحة الدولية، في حين ظلت الجزائر منكفئة على نفسها بسبب مرض الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة وانشغالها لاحقاً بالحراك الشعبي الذي أطاح بنظامه.
وارتفع منسوب التوتر أكثر بين البلدين بعد أن كشفت تقارير أن المخابرات المغربية كانت تتجسس عبر برنامج "بيغاسوس" الإسرائيلي على 6 آلاف رقم هاتف جزائري، من بينها هواتف لمسؤولين سياسيين وعسكريين كبار.
لكن القطرة التي أفاضت الكأس بالنسبة للجزائر كانت مذكرة سفير المغرب بالأمم المتحدة عمر هلال، التي وزعها خلال اجتماع أعضاء منظمة دول عدم الانحياز في يوليو/تموز 1413 يعلن فيها دعم بلاده لـ"حق تقرير مصير شعب القبائل" رداً على إثارة وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة لقضية الصحراء.
ويبدو أن الجزائر لم تستسغ الخطوة المغربية؛ حيث استدعت سفيرها في الرباط للتشاور قبل أن يبلغ التوتر ذروته وتعلن قطع العلاقات مع الرباط في أعقاب تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي الذي أطلق تهديدات ضمنية من المغرب متهماً اياها بلعب أدوار مشبوهة في المنطقة من خلال تقاربها مع إيران والحملة التي قادتها ضد قبول إسرائيل عضواً مراقباً في الاتحاد الإفريقي.
وردت الجزائر بالقول إن "المملكة المغربية جعلت من ترابها الوطني قاعدة خلفية ورأس حربة لتخطيط وتنظيم ودعم سلسلة من الاعتداءات الخطيرة والممنهجة ضد الجزائر".
وإضافة إلى إسرائيل، تتهم الجزائر المغرب بدعم منظمتين صنفتهما إرهابيتين هما "حركة تقرير مصير منطقة القبائل" الانفصالية "ماك" ومقرها في باريس والحركة الإسلامية "رشاد" ومقرها في لندن. وتتهم السلطات الجزائرية "ماك" بإشعال الحرائق الضخمة التي اندلعت في منطقة القبائل شمال شرق البلاد، وأدت إلى مقتل 90 شخصاً.
تداعيات اقتصادية قد تكون إسرائيل الرابح الأكبر فيها
كان قرار إغلاق الحدود البرية، من جانب الجزائر، عام 1994 الوحيد بهدف اقتصادي، وكشف أن أرباح المغرب من التبادل التجاري مع الجزائر وصل في عامي 1993 و1994 إلى 5 مليارات دولار أمريكي.
حالياً يبدو جلياً أن التبادلات التجارية بين الجزائر والمغرب في حدها الأدنى وأن تداعيات القطيعة الدبلوماسية ستمسُّ قطاع الطاقة، حيث من المرجح أن تبحث الجزائر عن صيغة جديدة لتزويد أوروبا بالغاز دون المرور بالأراضي المغربية.
وإذا حدث ذلك، فسيعني نهاية كبرى الشراكات الاقتصادية الهامة بين البلدين.
ومن المقرر أن ينتهي العمل بالعقد الذي يربط البلدين في 31 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
ولم تشمل الأزمات المتتالية بين البلدين هذا الأنبوب الذي دشن في 1996 والذي يستفيد منه المغرب في شكل عائدات مالية كحقوق عبور، إضافة لكميات سنوية من الغاز الطبيعي.
وكان وزير الطاقة الجزائري محمد عرقاب أكد في أغسطس/آب الماضي أن جميع إمدادات الغاز الطبيعي الجزائري نحو إسبانيا، ومنها نحو أوروبا، ستتم عبر أنبوب "ميدغاز" العابر للبحر المتوسط.
وبدورها ذكرت شركة سوناطراك النفطية الجزائرية شهر يوليو/تموز الماضي عن رفع قدرات الخط لتفوق 10 مليارات متر مكعب سنويا ما يؤشر لتخليها نهائياً عن إمداد أوروبا بالغاز الطبيعي من خلال الخط المار عبر المغرب.
ويمر عبر الأنبوب المغربي نحو 3 مليارات متر مكعب سنوياً، يضاف لها مليار متر مكعب إمدادات جزائرية لتلبية حاجة السوق المغربية سنوياً، من إجمالي صادرات البلاد البالغة 50 مليار متر مكعب سنوياً.
وستفقد الجزائر بقرار عدم التجديد، أحد الخيارات اللوجستية الهامة حتى وإن كان الأنبوب المباشر بينها وبين إسبانيا، قادراً على تلبية الطلب للبلد الأوروبي وأية أسواق مجاورة.
بالتالي، فإن أي عطل مفاجئ في الأنبوب المباشر، أو دخوله في مرحلة صيانة، يعني أن إمدادات الغاز ستكون مرتبكة، وستجد إسبانيا نفسها وأسواق مجاورة في حالة بحث عن مورد مستدام للغاز.
تأتي كل هذه التطورات، بينما لا تزال إسرائيل تبحث عن أسواق جديدة للغاز المستخرج من حقولها قبالة سواحل البحر المتوسط، بعيداً عن أسواقها المجاورة مثل الأردن ومصر.
ومن غير المستبعد، أن تعرض تل أبيب على الرباط توقيع اتفاقية تزويد الأخيرة بالغاز الطبيعي لتلبية احتياجات أسواقها، ليكون بديلاً عن الغاز الجزائري.
وقد تمتد العلاقات في مجال الطاقة بين الجانبين، وصولاً إلى إعادة تشغيل أنبوب الغاز المغربي الإسباني، لتزويد مدريد وأسواق مجاورة أيضا، بالغاز الإسرائيلي.
ولن تنتظر تل أبيب طويلاً لحين إنشاء خط الأنابيب من أراضيها أو مصر إلى قارة أوروبا عبر قبرص واليونان وإيطاليا، وقد تجد أسواقاً مؤقتة مستغلة العلاقات المتنامية مع الرباط.
وتملك إسرائيل أكثر من 6 حقول للغاز الطبيعي، معظمها قادر على الإنتاج بكميات تجارية، أبرزها حقل "لوثيان" أحد أكبر ثلاثة حقول مكتشفة في مياه شرق المتوسط.
أبواب موصدة
وفي مؤشر على أن الأزمة تتجه نحو التصعيد، أعلنت السلطات الجزائرية عن إغلاق المجال الجوي أمام الطائرات المغربية المدنية والعسكرية.
ويشكل القرار خسارة كبيرة للخطوط الجوية المغربية لأنها ستكون مجبرة على سلوك مسارات أطول نحو أوروبا من أجل المرور الى الشرق الأوسط وشرق أفريقيا وحتى جنوبها ما ستترتب عليه زيادة في تكاليف النقل الجوي ومدة السفر وربما ستفقد عدداً من المسافرين الذين قد يفضلون شركات طيران منافسة.
وتبدو الخطوة الجزائرية محاولة لخنق المغرب اقتصادياً ووسيلة ضغط عليه، في حين قللت الرباط من آثار القرار الجزائري واعتبرت أن آثاره محدودة.
تداعيات أمنية وسياسية تدفع ثمنها منطقة المغرب العربي
يعتبر قطع العلاقات بين البلدين الشقيقين بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على مشروع الاتحاد المغرب العربي وإنهاء حلم التكامل الاقتصادي المنشود.
وقد ظل هذا الصرح غير المكتمل يحتضر منذ إطلاقه عام 1989.
كما تتحمل منطقة المغرب العربي المنهكة أصلاً بسبب الوضع السياسي والاقتصادي المتأزم في تونس والأوضاع المتردية في ليبيا تبعات هذه القطيعة وقد تتحول إلى قوقعة خالية، فالجزائر تدفع المغرب إلى التخلي عن المغرب العربي وإيجاد حلول أبعد في إفريقيا وفي روسيا والصين والشرق الأوسط ،
وتبدو الرباط قد تخلت اليوم عن فكرة السياسة الإقليمية للتوجه إلى الدولية، وهو أمر يلقي بظلاله الثقيلة على التوازن في المنطقة في مرحلة حساسة تتزايد فيها حالة الاستقطاب الإقليمي والعالمي حول القارة الإفريقية، خصوصا شمالها.
من المرجح أيضا أن تزداد حدة التنافس والصراع بين البلدين في المحافل الدولية والإقليمية بدلاً من تنسيق الجهود لمواجهة التحديات المشتركة.
على الصعيد الأمني، يبدو أن الاتفاقات غير المعلنة بين البلدين باتت على المحك وتضع المنطقة أمام تحديات ومخاطر أمنية كبيرة.
ولم يعد معلوماً مصير اللجان الأمنية المتخصصة التي يأتي بعضها في إطار تفاهمات أمنية دولية تلتزم بها الجزائر والمغرب، أهمها الاتفاقات الأمنية مع دول جنوب غرب أوروبا والاتفاقات الأمنية في إطار مجموعة 5+5، والاتفاقات الأمنية مع الولايات المتحدة.
ويعتبر التنسيق الأمني حتمية تفرضها الحدود التي تمتد على مسافة 1500 كلم بين الجارين، خاصة بعد تنامي تجارة السلاح عقب سقوط نظام العقيد القذافي وتزايد الهجرة غير الشرعية ونشاط الجماعات المسلحة.
نذر مواجهة عسكرية وشيكة …
لم تتواجه الجزائر والمغرب عسكرياً منذ حرب الرمال عام 1963.
وكشفت مصادر مطلعة أن الجزائر تتأهب لإعلان الحدود مع المغرب منطقة عسكرية.
تزامن ذلك مع أجواء تعبئة وتدريبات عسكرية للجيش في مناطق قريبة من الحدود المغربية، وحديث قيادات عسكرية لأول مرة عن اقتناء صواريخ روسية استراتيجية.
وكان المجلس الأعلى للأمن الجزائري برئاسة عبد المجيد تبون، قد دعا في اجتماعه مؤخراً إلى تشديد المراقبة على الحدود مع المغرب.
لكن أغلب المتابعين يستبعدون نشوب مواجهة عسكرية بين البلدين بسبب الوضع الاقتصادي الهش لكل منهما.
تكشف قراءة فاحصة لحصيلة علاقات الدولتين بعد حوالي ستين عاماً من الاستقلال، أن حدود البلدين ظلت مغلقة طيلة 45 عاماً (63-69، 76-88، من 1994 إلى الآن)، وبأن قطع العلاقات الدبلوماسية دام حوالي عشرين عاماً. كما تسببت النزاعات الحدودية بين البلدين في نشوب حربين كبيرتين (الرمال 1963 والصحراء 1975).
ويتكبد اقتصاد البلدين خسائر سنوية بعشرات المليارات من اليوروهات بسبب القطيعة، أي ما يعادل 2 إلى 5% من الناتج الداخلي الخام.
تظهر الاخفاقات المريرة خلال العقود الماضية في إقامة علاقات تعاون طبيعية، تراكمات من عدم الثقة المتبادلة والأحكام المسبقة ما يصعب أي عملية حوار سواء بين حكومتي البلدين أو حتى بالنسبة لمبادرات الوساطة التي تخوضها على استحياء بعض الأطراف.
ومع دخول إسرائيل على الخط تزداد توجسات الجزائر من مخطط يستهدف إنهاكها من خلال العبث بأمنها وجرها إلى معسكر التطبيع والتخلي عن دعم القضية الفلسطينية والتخلي عن ملف الصحراء الغربية.
كما يزيد التناقض بين خطاب الملك محمد السادس وسلوك الدبلوماسية المغربية من مستوى انعدام الثقة لدى الجزائر في أي مبادرة مغربية لإقامة شراكة حقيقية.