منذ إنشاء دول الخليج وحتى وقت قريب، كانت الوظائف الحكومية ذات الأجور الجيدة بمثابةٍ حق مكتسب للمواطنين. ومثّلت هذه الميزة محور العقود الاجتماعية في المنطقة: التوظيف المُجزي والمريح مقابل الحرمان من الحقوق السياسية. ولقلقها بشأن زيادة عدد السكان وعوائد النفط غير المضمونة؛ قضت الدول الخليجية العقدين الماضيين في محاولة إقناع رعاياها "المدللين" وحثّهم على العمل لصالح الشركات المملوكة للقطاع الخاص. وكان الأمر بمثابة تجربة لعلم الاقتصاد على أرض الواقع، لكنها تجربةٌ فاشلة إلى حدٍ كبير، كما يصف ذلك تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
هل فشلت دول الخليج في التحول نحو التوظيف بالقطاع الخاص؟
في سبتمبر/أيلول 2021، أعلنت الإمارات العربية المتحدة عن آخر محاولاتها: في برنامج سيتكلّف 1.3 مليار دولار سنوياً (أي 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي). ويعتمد البرنامج على دعم الأجور بما يصل إلى ثمانية آلاف درهم إماراتي شهرياً (2.178 دولاراً) في العام الأول، وما يصل إلى خمسة آلاف درهم شهرياً (1.361 دولاراً) على مدار السنوات الخمس التالية للمواطنين الذين سيعملون في القطاع الخاص.
وعلى غرار جيرانها، ترغب الحكومة الإماراتية في تخفيف قوتها العاملة. ففي عام 2019، كان 78% من الإماراتيين العاملين يشغلون وظائف القطاع العام، رغم أنّ تلك الوظائف لم تُمثّل سوى 10% فقط من إجمالي الوظائف في البلاد. بينما كان 8% فقط من المواطنين يعملون في شركات القطاع الخاص. ولم تتغيّر هذه الأرقام كثيراً على مرّ السنوات: ففي عام 2008، كانت نسبة الإماراتيين العاملين في مؤسسات الدولة تصل إلى 80%.
وهذه أرقامٌ منطقية كما تشير "إيكونومست"، إذ تدفع الحكومات أجوراً أفضلاً عادةً. وبينما لا تنشر الكثير من الحكومات إحصاءات مفصلة؛ نجد أنّ صندوق النقد الدولي حدّد فجوة الأجور بين القطاعين العام والخاص عند نسبة 30-50% للمواطنين.
ويتمتع الموظفون الحكوميون بجداول عمل أكثر سهولة– سبع ساعات في اليوم بالقطاع العام في الإمارات، مقارنةً بثماني ساعات للشركات الخاصة- فضلاً عن المزايا الأفضل.
وقد منحت حكومة دبي مؤخراً الموظفين إجازة مدفوعة الأجر لستة أيام من أجل الاحتفال بمعرض إكسبو العالمي الذي انطلق في الأول من أكتوبر/تشرين الأول. لكن العاملين في القطاع الخاص لم يكونوا محظوظين بالقدر نفسه. علاوةً على أنّ الوظائف الحكومية تُوفّر فرص التوظيف مدى الحياة، فضلاً عن الزيادات السنوية والمزايا الأخرى التي تُعوّض عادةً عن التضخم وزيادات أجور بعض شركات القطاع الخاص.
المواطنون الخليجيون لا يستطيعون التخلي عن رفاهية العمل بالقطاع الحكومي
لكن دعم الأجور في القطاع الخاص لا يكون فعالاً عادةً في إغراء الموظفين الحكوميين بالتخلّي عن حياة الرفاهية. وخير دليلٍ على ذلك بالنسبة للإمارات هو دولة الكويت المجاورة، التي عرضت هذا الدعم منذ عام 2001.
فبحسب المستوى التعليمي وحجم العائلة؛ يمكن لبعض المواطنين في الكويت الحصول على دعمٍ يصل إلى نحو خمسة آلاف دولار شهرياً بخلاف الأجر. وفي عام 2015، قدّر صندوق النقد الدولي أنّ هذا الدعم يُكلّف الحكومة ملياري دولار سنوياً.
لكن هذا الدعم الهائل للأجور لم يتمخّض عن إعادة تشكيل وجه القوى العاملة في الكويت. فمنذ عام 2005، تراجعت حصة موظفي القطاع العام بين المواطنين بنسبة 9% فقط، لتصل إلى 82%. بينما كانت الأرقام تتحرّك في الاتجاه المعاكس على مدار السنوات الخمس الماضية: إذ تراجعت وظائف القطاع الخاص بنسبة 3% بين عامي 2015 و2020، في حين تضخّمت الوظائف المدنية بالقطاع العام بنسبة 22% ليصل الإجمالي إلى 338 ألف موظف.
وأحد أسباب فشل الدعم أنّه يستهدف الأشخاص الخطأ بشكلٍ عام. حيث يتلقى الكويتي الحاصل على شهادة جامعية متخصصة دعماً أكبر بمرتين أو ثلاثة من خريجي الثانوية، وأكبر بنحو سبع مرات من الشخص الذي لم يحصل على شهادة الثانوية.
لكن فارق الأجور في الخليج ليس كبيراً في الوظائف التي تتطلّب مهارات عالية، إذ لا يحتاج المهندس الحاصل على شهادة جامعية إلى حافز كبير من أجل الانضمام لشركةٍ خاصة، بعكس خريج الثانوية الذي يتنافس مع الكثير من المهاجرين منخفضي الأجر.
خرّيجون بلا مهارات
كما تشكو الشركات من أنّ العديد من المتقدمين للوظائف لا يمتلكون المهارات المناسبة، حيث يتخرج الكثيرون بشهادات في مجال الأعمال والعلوم الإنسانية من جامعات الخليج، وهي مجالات ليس عليها طلبٌ كبير في المنطقة.
كما أنّ هذا الدعم يضع الحكومات في مأزق، إذ ربما يسهم الدعم في خفض فجوة الأجور الأولية، لكنها تكون مجرد حوافز مؤقتة. ومع الوقت، تضطر الحكومات للاختيار بين إلغاء الدعم (الذي قد يدفع الموظفين للاستقالة) وبين الإبقاء عليه (وهو الخيار باهظ التكلفة).
ويقترح بعض الاقتصاديين بدلاً من ذلك وضع حدٍ أدنى للأجور من أجل نقل تكلفة الدعم إلى الشركات الخاصة، مع حصص مُحددة ورسوم وقائية لمنعهم من تعيين الأجانب. في حين يتساءل آخرون عن إمكانية تطبيق فكرة الدخل الأساسي الشامل، وهي فكرةٌ مكلفةٌ أيضاً لكنها ستُجنّب الحكومات تشويه سوق العمل.
مكافأة العاملين حسب الأقدمية وليس الاستحقاق
ورغم كل الأموال التي تُغدقها حكومات الخليج على موظفي القطاع العام، لكن تلك الحكومات لا تحصل على قيمةٍ كافية في المقابل. ويرجع السبب في ذلك جزئياً إلى النظام، الذي يُكافئ العاملين حسب الأقدمية وليس الاستحقاق. حيث تُنفق السعودية 6% من إجمالي الناتج المحلي على التعليم، أكثر من غالبية البلاد، لكنها تحتل مركزاً متأخراً دائماً على قوائم تصنيف المستوى التعليمي حول العالم.
ويبدو أن الإمارات انتبهت لبعض تلك المشكلات، لذا تخطط لإنفاق 1.3 مليار درهم على التدريب المهني في مجالات مثل الإدارة والمحاسبة، فضلاً عن تقديم منح للحصول على شهادات في التمريض.
كما سيستهدف جزءٌ من الدعم أيضاً مجالات التمويل والرعاية الصحية والعقارات، التي يُفترض أن تُوظف أعداداً كُبرى من الناس. لكن الوظائف يجب أن تكون أكثر جاذبية من الوظائف الحكومية المريحة. وربما ستجد الحكومات أن أفضل ما يمكنها فعله هو دفع موظفيها إلى العمل أكثر مقابل أجرٍ أقل. وستكون هذه بالتأكيد هي أرخص الطرق لتقليص فجوة الأجور.