"بطالة وتضخم واضطرابات في كل مكان والدول الكبرى تتودد للعرب" كان هذا هو حال العالم في السبعينيات عندما تعرض العالم لمشكلة اقتصادية نادرة تعرف باسم الركود التضخمي.
وقعت هذه الأزمة منذ حوالي نصف قرن منذ أن فرضت الدول العربية الأعضاء بمنظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) حظراً على تصدير النفط لأمريكا، بسبب دعمها لإسرائيل في حرب أكتوبر 1973، مما أدى إلى تحويل تضخم بسيط إلى حلقة مطولة من ارتفاع الأسعار والبؤس الاقتصادي.
اليوم يعود هذا الركود التضخمي المشهود في سبعينيات القرن الماضي إلى أذهان الخبراء الاقتصاديين اليوم، بينما يواجهون تضخماً تتعاظم قوته، ونشاطاً اقتصادياً محبطاً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Economist البريطانية.
ويبدو أن هذه الأصوات التي تحذر من الأصداء المقلقة المسافرة من الماضي هي أصوات شخصيات مؤثرة، من بينها لاري سمرز وكينيث روجوف من جامعة هارفارد، وكذلك محمد العريان من جامعة كامبريدج، وهو أيضاً الرئيس التنفيذي سابقاً لشركة PIMCO لإدارة الاستثمارات.
وقد اعتبرت "صدمة أسعار النفط"، التي بدأت عام 1973، إلى جانب انهيار سوق الأسهم 1973-1974، الحدث الأول منذ الكساد العظيم الذي كان له تأثير اقتصادي مستمر.
وفي بعض الأوقات، كانت هناك طوابير أمام محطات الوقود في الدول الغربية، وبطبيعة الحال كان العالقون في هذه الطوابير يلعنون دول أوبك والدول العربية، وكان درساً لا ينسى للغرب.
كان عقد السبعينيات فترة نمو اقتصادي محدود يرجع جزئياً إلى أزمات الطاقة في ذلك العقد، وكانت دول العالم تتودد إلى الدول النفطية الرئيسية، ومنها دول الخليج وإيران والعراق وليبيا.
وكان منتصف العقد أسوأ فترة للولايات المتحدة، وظل الاقتصاد الأمريكي ضعيفاً بشكل عام حتى الثمانينيات.
ما هو الركود التضخمي، ولماذا قد يطل برأسه من جديد؟
تزامن ارتفاع معدل البطالة مع ارتفاع معدل التضخم، حيث شهدت هذه الفترة حالة اقتصادية نادرة تسمى الركود التضخمي تعزى بشكل كبير إلى ارتفاع أسعار النفط، أي ركود مع ارتفاع الأسعار، رغم أنه يفترض أن الركود يؤدي إلى تراجع الأسعار.
يعد الركود التضخمي مشكلة شائكة على نحو خاص؛ لأنها تدمج علّتين -هما ارتفاع التضخم وضعف النمو- لا تسيران معاً في الوضع الاعتيادي. وحتى الوقت الحالي من هذا العام، كان النمو الاقتصادي في أغلب المناطق حول العالم قوياً، بجانب أن معدلات البطالة انخفضت، وإن كانت لا تزال في العموم أعلى من مستويات ما قبل الجائحة. لكنّ ما يبدو هو أن التعافي يفقد الزخم، ويؤجج المخاوف من حدوث ركود.
أدت جائحة كوفيد-19 إلى غلق المصانع في غالبية أنحاء جنوب شرق آسيا، وأثرت سلباً على الإنتاج الصناعي، فضلاً عن أن ثقة المستهلكين في أمريكا تتذبذب. وفي غضون ذلك، بعد عقدٍ من الفتور، تتزايد ضغوط الأسعار. ارتفع التضخم لأعلى من مستهدفات البنوك المركزية في غالبية أنحاء العالم، ويتجاوز 3% في بريطانيا ومنطقة اليورو، و5% في أمريكا.
الصورة الاقتصادية ليست بنفس سوء الموقف خلال بعض أوقات سبعينيات القرن الماضي، عندما صار معدل التضخم في العالم الغني مكوناً من رقمين. لكن ما يقلق المتحدثين عن الركود التضخمي لا يتعلق كثيراً بالرقم المحدد، بل إنه أقرب إلى الحقيقة التي تقول إن مجموعة من القوى تهدد باستمرار ارتفاع التضخم حتى مع تباطؤ النمو، وإن هذه القوى تبدو مشابهة على نحو مخيف للعوامل الكامنة وراء الركود التضخمي المشهود في عقد السبعينيات من القرن الماضي.
ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء والشحن
تعد أحد هذه التناظرات ظاهرةً في أن الاقتصاد العالمي يواجه مرة أخرى صدمةً في أسعار الطاقة والغذاء. ارتفعت الأسعار العالمية للغذاء بحوالي الثلث خلال العام الماضي. ووصلت أسعار الغاز والفحم إلى مستويات قياسية في آسيا وأوروبا. وتبدو الأسواق المالية لكلا نوعي الوقود منخفضة على نحو مقلق في أنظمة اقتصادية كبيرة مثل الصين والهند. وقد تنتشر انقطاعات الكهرباء، التي تعد مشكلة فعلية في الصين.
وسوف تمارس أسعار الطاقة الآخذة في الارتفاع مزيداً من الضغوط على التضخم، وتزيد من قتامة المزاج الاقتصادي عالمياً.
كذلك ترتفع التكاليف الأخرى؛ فقد ارتفعت أسعار الشحن بسبب تحول في إنفاق المستهلكين نحو السلع، إضافة إلى التراكمات في الموانئ بسبب جائحة فيروس كورونا. يتمتع العمال بقوة أكبر على المساومة، نظراً إلى أن الشركات تواجه ارتفاعاً في الطلب وتكافح من أجل جذب ما يكفي من الأيدي العاملة. تطالب الاتحادات العمالية في ألمانيا على سبيل المثال برفع الأجور، حتى أن بعضها دخلت في إضراب.
لكن الفارق أن البنوك المركزية أصبحت أكثر خبرة
يرى المحذرون من الركود التضخمي تشابهاً آخر مع الماضي في البيئة السياسية الاقتصادية الحالية. إنهم قلقون من أن فكر الاقتصاد الكلي قد تراجع، مما خلق بدايةً للتضخم المستمر. في ستينيات وسبعينات القرن الماضي، تسامحت البنوك المركزية مع ارتفاع التضخم عندما جعلت خفض معدلات البطالة أولوية مقدمة على استقرار الأسعار.
لكن تجربة الركود التضخمي التي خلفت ندبةً وراءها ساعدت في تحول الفكر العقلاني، وأنتجت جيلاً من محافظي البنوك المركزية العازمين على ضبط التضخم. وبعد ذلك، في أعقاب الأزمة المالية العالمية وفترة من انخفاض الطلب، أفسح هذا التركيز الأحادي مجالاً أمام مزيدٍ من القلق بشأن البطالة. أضعف انخفاضُ معدلاتِ الفائدةِ الانضباطَ الماليَ للحكومات، وأتاح كمّاً هائلاً من برامج التحفيز خلال 2020.
والآن، مثلما هو الحال في سبعينيات القرن الماضي، يحذر الخبراء القلقون من أن الحكومات والبنوك المركزية قد يغريها حل المشكلات المتعلقة بالعرض عن طريق جعل الاقتصاد محموماً بدرجة أكبر، مما يسفر عن ارتفاع التضخم ونموٍ مخيبٍ للآمال.
المفارقة أن ضعف النقابات قد يمنع الركود التضخمي
ومع ذلك، وبغض النظر عن هذه التناظرات، تقدم السبعينيات القليل من الإرشاد لمن يسعى لفهم المشكلات الحالية. من أجل رؤية هذا، يمكننا أن نضع في الحسبان الجوانب التي لا تصمد عندها المقارنات التاريخية. تُقلق صدمات الطاقة وأسعار الغذاء الخبراء الاقتصاديين، لأنها قد تصير متغلغلة في مساومات الأجور وتوقعات التضخم، مسببةً ارتفاعاً متصاعداً في الأسعار. بيد أن المؤسسات لاسيما النقابية التي يمكنها دعم عهدٍ جديدٍ وطويلٍ يشهد قوة الأيدي العاملة، ما زالت ضعيفة في معظم الحالات.
فحوالي 38% من العمال عام 1970 في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تضم بلاداً غنية في الغالب، كانوا ضمن مساومات الأجور الخاصة بالنقابات. وبحلول عام 2019، انخفض هذا الرقم إلى 16%، وهي أدنى نسبة مسجلة.
كانت تسويات تكاليف المعيشة (COLA) -التي تُتَرجِم الزيادات في التضخم إلى ارتفاع الأجور ترجمةً أوتوماتيكيةً- سمةً شائعةً بالنسبة لعقود الأجور في السبعينيات. لكن الممارسة تراجعت تراجعاً دراماتيكياً منذ ذلك الحين.
في عام 1976، كان 60% من عمال النقابات الأمريكية ممن تغطيهم العقود المتفاوض عليها جماعياً مع بنود تسويات تكاليف المعيشة. وبحلول عام 1995، انخفضت هذه النسبة من العمال إلى 22%.
في ورقة بحثية نُشرت عام 2020 جادلت آنا ستانسبيري ولاري سمرز من جامعة هارفارد بأن أي انحدار طويل الأمد في القوة التساومية يعد هو "التغير الهيكلي الرئيسي" الذي يفسر السمات الرئيسية لأداء الاقتصاد الكلي، بما في ذلك انخفاض التضخم، بالرغم من انخفاض معدلات البطالة مع مرور الوقت. وبالنظر إلى مأساوية الجائحة، يبدو أنه من غير المرجح أن يكون مثل هذا التحول الكبير قد انعكس بسرعة.
ثمة اختلاف آخر عن سبعينيات القرن الماضي متمثلٌ في أن البنوك المركزية حالياً لم تنسَ كيفية كبح جماح التضخم ولم تفقد التزامها تجاه استقرار الأسعار، حسب تقرير The Economist.
ففي سبعينيات القرن الماضي، شكك بعض محافظي البنك المركزي في قدرتهم على كبح زيادات الأسعار والأجور. اعتقد آرثر بيرنز، رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي آنذاك، بأن "السياسة النقدية لا تستطيع فعل الكثير لكبح أي تضخمٍ يعتمد اعتماداً كبيراً على الضغوط المرتبطة بالأجور والتكاليف".
وأشار بحثٌ لكريستينا وديفيد روما من جامعة كاليفورنيا بيركلي إلى أن رؤية بيرنز كانت شائعة في هذا الوقت. لكن نهاية عهد ارتفاع التضخم تبين أن البنوك المركزية كانت تستطيع السيطرة على تضخم كهذا، وأن هذه المعرفة لم تضِع.
في الشهر الماضي، أوضح جيروم باول، الرئيس الحالي لمجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي، أنه إذا "كان التضخم المرتفع المستمر سيصير مشكلة خطيرة، فيمكننا بكل تأكيد الاستجابة واستخدام أدواتنا لضمان أن يكون التضخم عند مستويات تتسق مع مستهدفنا طويل الأمد لنسبة 2%".
توقعات بتقلص عجز الميزانيات، وشكل جديد من الأزمات
وبالمثل، لدى العقيدة المالية الجديدة حدودها؛ إذ إن عجز الميزانيات حول العالم يتوقع تقلّصه بدرجة كبيرة العام القادم عن العام الحالي. ينتاب القلق الديمقراطيين المعتدلين في أمريكا من أن الإنفاق المفرط قد يعني أن الخطط الاستثمارية الكبرى للرئيس جو بايدن تقلصت، أو فشل تمريرها من الأساس.
فما هي إذاً الحلقة القادمة لاقتصاد العالم إذا لم يواجه إعادة للأوضاع التي كانت عليها سبعينيات القرن الماضي؟ يشكل ارتفاع أسعار الطاقة خطورة كبيرة أمام التعافي؛ إذ إن ارتفاع الأسعار -أو نقص الطاقة، في حالة أرادت الحكومات الحد من ارتفاع الأسعار- سوف يضغط على ميزانيات الأسر والشركات ويصدم الإنفاق والإنتاج. سوف يأتي ذلك في وقتٍ تسحب خلاله الحكومات التحفيزات وتؤيد البنوك المركزية سياسة مالية أكثر تشدداً. يمكن لتباطؤ الطلب أن يخفف الطلب على أجزاء الاقتصاد التي تعاني من نقص الإمدادات: على سبيل المثال، بمجرد أن يدفع الأمريكيون فواتير الكهرباء المرتفعة، سوف يصيرون أقل قدرة على تحمل شراء الحواسيب والسيارات النادرة. لكن ذلك يمكن أن يضيف مزيداً من الألم إلى ختامٍ لحوالي عامين من جائحة كوفيد-19.
ولذا فإن تجارب الماضي ليست أوضح عدسة يمكن النظر من خلالها لرؤية القوى التي تضرب الاقتصاد العالمي. لقد تغير العالم تغيراً دراماتيكياً منذ سبعينيات القرن الماضي، وخلقت العولمة شبكة واسعة من أوجه الترابط. فالنظام الآن يواجه اختباراً فريداً وجديداً.