بدا أن الرئيس إيمانويل ماكرون يسعى للتهدئة مع الجزائر بعد أن أثارت تصريحاته الأخيرة عاصفة دبلوماسية، لكن في الوقت نفسه أثار الرئيس الفرنسي أزمة أخرى بالطريقة نفسها مع مالي، فهل أصبح الإرث الاستعماري يتصدر الانتخابات الرئاسية؟
كان الرئيس الفرنسي قد أثار غضباً عارماً في الجزائر، رسمياً وشعبياً، بتصريحات نقلتها عنه صحيفة لوموند، قال فيها إن "التاريخ الرسمي للجزائر أعيدت كتابته بشكل كامل"، مضيفاً أن "هذا التاريخ لا يعتمد على الحقائق، بل على الضغينة التي تُكنها السلطات الجزائرية نحو فرنسا". وتمادى الرئيس الفرنسي متسائلاً، بحسب تقرير "لوموند": "هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي؟".
وعلى الفور استنكرت الجزائر تصريحات ماكرون ضدها، واعتبرتها "مساساً غير مقبول" بذاكرة أكثر من 5 ملايين مقاوم قتلهم الاستعمار الفرنسي، وأصدرت الرئاسة الجزائرية بياناً، نقله التلفزيون الرسمي، أعلنت فيه استدعاء السفير محمد عنتر داود من باريس للتشاور.
ثم عاد ماكرون، الثلاثاء 5 أكتوبر/تشرين الأول، للتخفيف من حدة الأزمة التي أثارها، فأعرب عن "ثقته" بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مؤكداً أن العلاقات معه "ودية فعلاً".
وشدد ماكرون، في مقابلة مع إذاعة "فرانس إنتر"، على أن العمل مع الجزائر يجب أن يستمر، وأمل أن تهدأ التوترات الدبلوماسية الحالية قريباً، وأضاف: "نرجو أن نتمكن من تهدئة الأمور، لأني أعتقد أن من الأفضل أن يتحدث بعضنا إلى بعض، وأن نحرز تقدماً"، بحسب تقرير لـ"فرانس24".
"مالي لم تكن لتصبح دولة لولا فرنسا"
لكن في اليوم نفسه الذي سعى فيه ماكرون إلى التهدئة مع الجزائر، استدعت وزارة الخارجية المالية السفير الفرنسي في باماكو؛ للاحتجاج على تصريحات وصفتها بـ"المؤسفة"، للرئيس الفرنسي بشأن المجلس العسكري الحاكم في البلاد، أعرب فيها ماكرون عن أمله في "عودة الدولة" إلى الدولة الإفريقية التي كانت أيضاً مستعمرة فرنسية.
وقالت الوزارة في بيان، إن وزير الخارجية "دعا السلطات الفرنسية إلى ضبط النفس وتجنب إطلاق أحكام تقييمية"، وأكد البيان رفض باماكو "التصريحات غير الودية والمهينة" التي وردت على لسان ماكرون، معبراً عن "احتجاج قوي على هذه التصريحات المؤسفة".
كان ماكرون دعا، الثلاثاء، إلى "عودة الدولة" إلى مالي، وذلك في سياق توترات شديدة مع الدولة الساحلية حيث تعمل فرنسا على تقليص وجودها العسكري، وقال ماكرون: "يجب أن تعود الدولة بقضائها وتعليمها وشرطتها بكل مكان، لاسيما في مالي".
وقبل ذلك، هاجم ماكرون بشدةٍ رئيس الوزراء المالي تشوغويل كوكالا مايغا، بسبب الاتهامات "المخزية" التي ساقها ضد بلاده من على منبر الأمم المتحدة، وقال فيها إن فرنسا بصدد "التخلي" عن مالي.
فعلى هامش مأدبة عشاء أقيمت في قصر الإليزيه بمناسبة اختتام موسم "إفريقيا 2020″، قال ماكرون لـ"إذاعة فرنسا الدولية" (إر إف إي): "لقد صدمت. هذه التصريحات غير مقبولة (…) في وقت أقيم فيه، أمس، تكريماً وطنياً لماكسيم بلاسكو (الجندي الفرنسي الذي قُتل بمالي في 24 سبتمبر/أيلول)، هذا غير مقبول. إنه مُخزٍ ويشكل إهانة لما هي ليست حتى بحكومة"؛ لكونها منبثقة من "انقلابيين".
وباشرت باريس، منذ يونيو/حزيران، إعادة تنظيم وجودها العسكري في منطقة الساحل، لاسيما من خلال مغادرة القواعد الواقعة بأقصى شمالي مالي (كيدال وتمبكتو وتيساليت) والتخطيط لتقليص عديد من قواتها في المنطقة بحلول 2023، ليتراوح بين 2500 و3 آلاف عنصر، مقابل أكثر من 5 آلاف حاليا.
لماذا صعَّد ماكرون ضد الجزائر؟
تستدعي محاولة الإجابة عن هذا التساؤل رصد عدد من المواقف التي صدرت عن الرئيس الفرنسي في الأسابيع القليلة الماضية، لا يجد لها كثير من المحللين تفسيراً سوى أن ماكرون يضع نصب عينيه الانتخابات الرئاسية القادمة، التي يسعى من خلالها إلى الفوز بفترة ثانية، رافعاً شعار "مغازلة أصوات اليمين المتطرف".
فمنذ "صفعة الغواصات" أو مبادرة أوكوس بين أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا، والتي نتج عنها تخلي كانبيرا عن عقد استيراد غواصات فرنسية بقيمة عشرات المليارات واستبدالها بصفقة للحصول على غواصات نووية من واشنطن ولندن، توقع أغلب المحللين والمراقبين الفرنسيين أن يصعّد ماكرون ويقرر انسحاب فرنسا من حلف الناتو.
وازدادت فرص تلك الفرضية في أعقاب سحب السفير الفرنسي من واشنطن وكانبيرا، وهو القرار الذي اتخذه ماكرون شخصياً كما قال جان إيف لودريان وزير الخارجية، لكن المفاجأة كانت في تراجع الرئيس الفرنسي السريع عن القرار بعد مكالمته مع نظيره الأمريكي جو بايدن وأعاد السفير إلى واشنطن.
وفي الوقت نفسه، اتخذ ماكرون قرار تخفيض التأشيرات لمواطني المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب)، مثيراً أزمة دبلوماسية كبيرة، استدعت خلالها الخارجية الجزائرية السفير الفرنسي لديها وقدمت له احتجاجاً على القرار.
وهنا أصدرت ماري لوبان، زعيمة اليمين المتطرف ومنافسة ماكرون الرئيسية بالانتخابات المقررة في أبريل/نيسان المقبل، تصريحات متتالية تسخر فيها من ماكرون وإدارته، بسبب "ضعفه" في التعامل مع الجزائر، قائلةً إنه يجب أن يكون الرد الفرنسي حاسماً ويتم وقف التأشيرات للجزائريين تماماً طالما ترفض الجزائر عودة مواطنيها المهاجرين إلى باريس بطرق غير قانونية.
ويرى كثير من المحللين أن ماكرون قرر التصعيد بطريقته الخاصة، من خلال تصريحاته بحق الجزائر والحديث عن "الاستعمار العثماني" للبلاد، وذلك هروباً من الرئيس الفرنسي للأمام واستقطاب أصوات اليمين المتطرف في الانتخابات القادمة، إذ لا توجد أسباب أخرى تفسر تلك التصريحات في هذا التوقيت.
والرئيس الفرنسي نفسه، عندما سعى للتهدئة مع الجزائر الثلاثاء، رأى أنه "يجب أن نواصل فحص تاريخنا مع الجزائر بتواضع واحترام"، داعياً إلى "الاعتراف بالذاكرات كلها والسماح لها بالتعايش"، مؤكداً أن "هذه ليست مشكلة دبلوماسية بل هي في الأساس مشكلة فرنسية-فرنسية".
فتش عن الانتخابات
ماكرون، بحسب المراقبين داخل فرنسا وخارجها، يسعى إلى الفوز في الانتخابات المقبلة، رغم أنه لم يعلن ترشحه رسمياً بعد، عن طريق اتخاذ مواقف أو إصدار تصريحات شعبوية لاستقطاب أصوات اليمين المتطرف، في ظل تراجع اليسار الفرنسي وتفككه وعدم وجود مرشح له يمكن أن يسبب تحدياً للرئيس الحالي، بحسب صحيفة الغارديان البريطانية.
وربما لا يكون قلق ماكرون من ماريان لوبان، رئيسة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، الدافعَ الأساسي وراء تلك التصريحات الصارخة في الاستفزاز تجاه الجزائر ومالي، وكلاهما يمثل إرثاً استعمارياً بغيضاً لباريس، إذ ربما يخشى ماكرون أكثر، من مرشح يمين الوسط، أياً كان من سيستقر عليه حزب "الجمهورية" اليميني الذي فاز بانتخابات الأقاليم في فرنسا هذا العام.
وفي هذا السياق، يعتبر كثير من المراقبين أن الرئيس الفرنسي يواجه معضلات داخلية تتعلق بالبطالة والاقتصاد، وأنه لم يحقق الكثير مما وعد به الفرنسيين، ومن ثم فهو يسعى إلى مغازلة جمهور الناخبين، بقضايا تدغدغ مشاعرهم، فيما يتعلق بالمرحلة الاستعمارية، واستغلال قضايا المهاجرين لفرنسا، أملاً في كسب أصوات ناخبي الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي تركز خطابها تقليدياً على تلك القضايا.
ويفسر هذا الرأي تصريحات ماكرون تجاه مالي والجزائر، والتي أدت إلى تقارب كبير بين البلدين، عكسته زيارة وزير خارجية الجزائر لمالي والتصريحات النارية تجاه ماكرون والتي أدلى بها من باماكو.
فقد وصف رمطان لعمامرة، وزير خارجية الجزائر، من مالي التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي بحق بلاده وبحق مالي أيضاً بأنها "إفلاس في مسألة الذاكرة".
وملف الذاكرة هو العنوان العريض لاختلاف بين الرؤيتين الفرنسية والجزائرية فيما يتعلق بالملف الاستعماري لباريس والفظائع التي ارتكبها الفرنسيون بحق الجزائر وأهلها، وهو الملف الذي قال ماكرون في بداية رئاسته، إنه يريد التعامل معه بطريقة "شفافة".
ودعا لعمامرة، ماكرون إلى ضرورة اعتماد الاحترام المتبادل بين فرنسا والدول الإفريقية في حال أرادت باريس تطوير علاقات ندية. جاء ذلك خلال زيارة لعمامرة لمالي، وفي سياق رده على التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي ماكرون.
وطالب وزير الخارجية الجزائري الشركاء الأجانب بالتحرر من التصرفات غير المنطقية، تحت مظلة عبارة "المهمة الحضارية للغرب"، لأنها استُعملت كغطاء أيديولوجي لتمرير الجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبت ضد الجزائر ومالي وضد شعوب إفريقيا.