تصريح جديد أدلى به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يشعل أزمة أخرى تدفع الجزائر إلى استدعاء سفيرها لدى باريس، لتضاف إلى سلسلة تصريحاته المثيرة للجدل بشأن حلف الناتو والإسلام.
وقبل أن تهدأ الأزمة التي خلّفها قرار فرنسا تخفيض التأشيرات الممنوحة لمواطني الجزائر والمغرب وتونس للنصف، وما أثاره قرار باريس من ردود فعل غاضبة من جانب الدول الثلاث، نشرت صحيفة لوموند الفرنسية تصريحات للرئيس ماكرون اعتبرت الجزائر أنها "مسيئة وتدخّل غير مقبول" في شؤونها الداخلية.
وتفتح تصريحات ماكرون الأخيرة بشأن الجزائر فصلاً جديداً من فصول التصريحات "الغريبة" التي يدلي بها الرئيس الفرنسي وتثير ضجة كبيرة، كتصريحه الشهير بشأن حلف الناتو، وتصريحاته بشأن الإسلام، التي أغضبت ملايين المسلمين حول العالم، تزامناً مع تبعات "صفعة الغواصات" التي ما زال يعاني منها.
هل كانت توجد أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟"
تناولت صحيفة الغارديان البريطانية أحدث الأزمات التي تثيرها تصريحات ماكرون "الغريبة"، راصدة ما صرح به تجاه الجزائر في تقرير لصحيفة لوموند السبت 2 أكتوبر/تشرين الأول، ألقى الضوء على بعضٍ مما جاء على لسان الرئيس الفرنسي.
نقلت لوموند عن ماكرون قوله إن "التاريخ الرسمي للجزائر أعيدت كتابته بشكل كامل"، مضيفاً أن "هذا التاريخ لا يعتمد على الحقائق، بل على الضغينة التي تُكنها السلطات الجزائرية نحو فرنسا". وتمادى الرئيس الفرنسي متسائلاً، بحسب تقرير لوموند: "هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي؟"
كما ادعى ماكرون أنه "كان هناك استعمار قبل الاستعمار الفرنسي" للجزائر، في إشارة لفترة التواجد العثماني بين أعوام 1514 و1830م. وقال مواصلاً مزاعمه: "أنا مفتون برؤية قدرة تركيا على جعل الناس ينسون تماماً الدور الذي لعبته في الجزائر، والهيمنة التي مارستها، وشرح أن الفرنسيين هم المستعمرون الوحيدون، وهو أمر يصدقه الجزائريون".
وعلى الفور استنكرت الجزائر تصريحات ماكرون ضدها، واعتبرتها "مساساً غير مقبول" بذاكرة أكثر من 5 ملايين مقاوم قتلهم الاستعمار الفرنسي. وأصدرت الرئاسة الجزائرية بياناً، نقله التلفزيون الرسمي، أعلنت فيه استدعاء السفير محمد عنتر داود من باريس للتشاور.
واعتبر البيان أن تصريحات ماكرون "تمثل مساساً غير مقبول بذاكرة 5 ملايين و630 ألف شهيد ضحوا بأنفسهم عبر مقاومة شجاعة ضد الاستعمار الفرنسي"، بين عامي 1830 و1962م.
وأضاف أن "جرائم فرنسا الاستعمارية، التي لا تعد ولا تحصى، هي إبادة ضد الشعب الجزائري، وهي غير معترف بها (من قبل فرنسا)، ولا يمكن أن تكون محل مناورات مسيئة".
ولفت بيان الرئاسة الجزائرية إلى أن التصريحات المنسوبة للرئيس الفرنسي "لم يتم تكذيبها رسمياً"، موضحاً أن الجزائر "ترفض رفضاً قاطعاً التدخل في شؤونها الداخلية كما ورد في هذه التصريحات، وأن الرئيس عبد المجيد تبون قرر الاستدعاء الفوري لسفير الجزائر بفرنسا محمد عنتر داود للتشاور".
التقارب بين الجزائر وتركيا يُغضب ماكرون
إذا كان بيان الرئاسة الجزائرية يُمثل رد الفعل الرسمي، فإن الإعلام الجزائري شنَّ حملةً شرسة ضد الرئيس الفرنسي، ألقت الضوء على خلفيات تلك التصريحات، التي لا تعتبر غريبة؛ نظراً لسوابق ماكرون في إصدار ذلك النوع من التصريحات التي تشعل أزمات.
إذ وصفت صحيفة "الشروق" تصريحات ماكرون بـ"المستفزة"، قائلة إنها "تعيد العلاقات الجزائرية الفرنسية إلى مربع البداية"، وتكشف "مدى هشاشة العلاقات الثنائية الموبوءة بالعديد من الملفات المسمومة".
واعتبرت الصحيفة أنه "كان لافتاً في كلام الرئيس الفرنسي أنه يبحث عن مناول (مقاول) من الباطن، للوقوف أمام التقارب الجزائري التركي، الذي بات يزحف على حساب الإرث الفرنسي المتهالك، وأن هذا المناول لا يمكن أن يقوم به إلا الجزائريون أنفسهم، وهو أمل يبقى في خانة الوهم؛ لأن الجزائر تميز جيداً بين الصديق والعدو، ولا تنتظر أي نصيحة من أحد".
وكان ماكرون، بحسب لوموند، قد قال: "أنا مفتون برؤية قدرة تركيا على جعل الناس ينسون تماماً الدور الذي لعبته في الجزائر، والهيمنة التي مارستها، وشرح أن الفرنسيين هم المستعمرون الوحيدون، وهو أمر يصدقه الجزائريون".
وتأتي تصريحات ماكرون في وقت تشهد فيه العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الجزائر وباريس توتراً وفتوراً، رافقهما نزيف اقتصادي لدى شركات فرنسية غادرت البلاد، ولم تجدد السلطات الجزائرية عقودها. وقبل أيام استدعت الجزائر سفير باريس لديها للاحتجاج على قرار فرنسا تقليص التأشيرات الممنوحة لمواطنيها.
وعلى الأرجح ستثير تصريحات ماكرون حفيظة تركيا أيضاً، وقد تؤدي إلى فصل جديد من تأزّم العلاقات بين البلدين، رغم أن علاقة الرئيس الفرنسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان قد هدأت إلى حدّ ما خلال الأشهر القليلة الماضية، بعد أن كانت قد شهدت لحظات من التوتر، وصل إلى حد تبادل الإهانات على خلفية تصريحات للرئيس الفرنسي أثارت أزمات حادة.
وكان ماكرون قبل أقل من أسبوعين قد طلب، باسم فرنسا، "الصفح"، من الحركيين الجزائريين الذين قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر، معلناً إقرار قانون "تعويض" قريباً، مؤكداً أن "شرف الحركيين يجب أن يحفر في الذاكرة الوطنية"، وداعياً إلى "تضميد الجروح التي يجب أن تندمل من خلال كلام يشدد على الحقيقة ومبادرات تعزز الذاكرة وتدابير ترسخ العدالة".
والحركيون مقاتلون جزائريون سابقون يصل عددهم إلى 200 ألف جُندوا في صفوف الجيش الفرنسي خلال حرب الاستقلال بين 1954 و1962، ونقلت باريس عشرات الآلاف منهم برفقة الزوجات والأطفال إلى فرنسا، حيث وضعوا في "مخيمات مؤقتة"، لا تتوافر فيها ظروف العيش الكريم، ما ترك ندوباً لا تُمحى.
وكان الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة وصف الحركيين بأنهم "عملاء"، منتقداً في الوقت ذاته ظروف إيوائهم في فرنسا، لكنه رفض عودتهم إلى الجزائر.
سلسلة أزمات أثارها الرئيس الفرنسي
هذه التصريحات الأخيرة المنسوبة للرئيس الفرنسي تعيد فتح كتاب كامل تحوي فصوله أزمات يمكن وصفها بأنها "علامة مميزة لماكرون"، منها ما يخص حلف الناتو، ومنها ما يخص الإسلام والمسلمين.
فقد أصدر ماكرون تصريحاً شهيراً وصف فيه حلف الناتو بأنه "يمر بحالة موت دماغي"، قبيل قمة لقادة دول الحلف عام 2019، وهو ما أدى إلى أزمة عنيفة، ورفض قادة الحلف، ومنهم الرئيس التركي، تصريحات الرئيس الفرنسي، مؤكدين على أهمية دور الحلف لحفظ السلام والدفاع عن أعضائه.
ولاحقاً بات واضحاً أن الرئيس الفرنسي يطمح إلى تشكيل جيش تابع للاتحاد الأوروبي، وهذا ما يفسر، بحسب كثير من المحللين، هجوم ماكرون على الحلف العسكري الغربي، رغم أن فكرة تأسيس قوة عسكرية تابعة للاتحاد الأوروبي ليست جديدة، وترجع إلى وقت تأسيس الاتحاد الأوروبي نفسه، لكنها لم ترَ النور حتى الآن لأسباب متنوعة.
وفي سياق تصريحات ماكرون "المستفزة وغير المبررة"، بحسب منتقديه، أثارت تصريحاته بشأن الإسلام وكونه "ديناً يعاني من أزمة" غضباً هائلاً بين المسلمين حول العالم، وانتشرت دعوات لمقاطعة فرنسا، اكتسبت زخماً كبيراً في الدول العربية والإسلامية، أجبرت ماكرون على الاعتذار في نهاية المطاف.
كما كانت تصريحات ماكرون المؤيدة لإعادة نشر الرسوم المسيئة لنبي الإسلام سبباً آخر استفز المسلمين حول العالم، ووُضع ماكرون مرة أخرى في مرمى نيران نظيره التركي أردوغان، الذي قال: "كل ما يمكن قوله عن رئيس دولة يتعامل مع ملايين ينتمون إلى طوائف دينية مختلفة بهذه الطريقة هو: افحص صحتك العقلية أولاً".
وكان تحليل لمجلة Worldpoliticsreview ألقى الضوء على دوافع ماكرون وأهدافه منذ وصوله إلى الرئاسة، مركزاً على اعتقاد الرئيس الفرنسي بقدرته على استعادة أمجاد فرنسا كقوة فاعلة أوروبياً ودولياً، بالسير على خطى شارل ديغول وفرانسوا ميتران.
لكنّ كثيراً من المحللين والمراقبين داخل وخارج فرنسا يشككون في قدرة ماكرون على تحقيق أي من تلك الأهداف، مدللين على ذلك بفشل الرئيس الفرنسي في أغلب الملفات الخارجية التي تصدّى لها، وخصوصاً في مستعمرات فرنسا السابقة، التي يفترض أن باريس تتمتع فيها بنفوذ تقليدي.
ففي لبنان، وفي أعقاب تفجير بيروت، تصدّر الرئيس الفرنسي المشهد وزار لبنان مرتين خلال أسبوعين فقط، وأصدر خريطة طريق للخروج من الأزمة الممتدة في البلاد، محدِّداً مهلةً لزعمائها السياسيين لتشكيل حكومة وتطبيق إصلاحات، لكن شيئاً من ذلك لم يتحقق، لييأس ماكرون في نهاية المطاف دون أن يُحقق شيئاً.
وتكرَّر فشل ماكرون في ملفات السياسة الخارجية من ليبيا إلى مالي وغيرهما، قبل أن تأتي "أزمة الغواصات" الأخيرة، التي تعرضت فيها باريس "للخيانة"، حين ألغت أستراليا عقداً لشراء غواصات من فرنسا واستبدلته بشراء غواصات نووية من الولايات المتحدة وبريطانيا، ليجد ماكرون نفسه في موقف صعب للغاية، في خضم معركة انتخابية يطمح فيها للفوز بفترة ثانية.
وكانت مارين لوبان، رئيسة حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، والمنافسة الرئيسية لماكرون في الانتخابات المقبلة، قد انتهزت صفعة الغواصات لتلخص ما قام به ماكرون منذ توليه منصبه بالقول إنه "ينتقل منذ تولي منصبه من فشل إلى آخر، إنه لم يحصل على شيء، بل إنه نجح في تضييع ما حصل عليه وما حصل عليه آخرون".
الخلاصة هنا تطرح تساؤلاً هاماً بشأن تصريحات ماكرون "المستفزة" بشأن ماضي الجزائر وحاضرها، فهل أراد ماكرون إشعال حريق جديد يغطي على أزمة الغواصات، ويستميل من خلاله أصوات اليمين المتطرف في السباق الانتخابي؟.