"عودة آل رومانوف".. كان هذا عنوان تغطية مواقع إخبارية في روسيا لحفل زفاف ملكي لأحد أفراد آل رومانوف بعد قرن كامل من مقتل آخر القياصرة وزوجته أثناء الثورة البلشفية، فما قصة عودة العائلة الملكية؟
كان آل رومانوف يحكمون الإمبراطورية السوفيتية أو روسيا القيصرية حتى قامت الثورة البلشفية أو الاشتراكية وأطاحت بالحكم الملكي عام 1917 وتم قتل آخر القياصرة وزوجته داخل القصر، وتناولت صحيفة New York Times الأمريكية قصة حفل زفاف أحد أفراد آل رومانوف وما يعنيه ذلك.
زفافٌ ملكي في روسيا
ففي رفقة حرسٍ شرفيٍّ احتفالي، سارت العروس ببطءٍ على طول الممر، بينما حَمَلَ حشدٌ من الحاضرين الشباب ذيل فستانها الذي بَلَغَ طوله 23 قدماً. وَقَفَ العريس مرتدياً معطفاً أسود، تحت القبة الذهبية لكاتدرائية القديس إسحق، في حين كانت والدته تشاهد الزفاف من شرفةٍ رخامية أشبه بالعرش.
"عودة آل رومانوف"، هكذا أعلن موقع إخباري روسي الجمعة 1 أكتوبر/تشرين الأول، وكان خاتم الزفاف من شركة فابرجيه الروسية للمجوهرات، وتاجٌ من صائغ المجوهرات الفرنسي شوميه، ونسرٌ إمبراطوري مُطرَّز على حجاب العروس، ليبدو أن آل رومانوف قد عادوا، وفي هيئةٍ أنيقة.
فبعد أكثر من قرنٍ على مقتل القيصر وزوجته في أعقاب الثورة البلشفية، اجتمعت مجموعةٌ من عائلات النبلاء في أوروبا للاحتفال بأول زفافٍ ملكي في روسيا منذ أيام الملكية الإمبراطورية. كان العريس هو الدوق الأكبر جورج ميخائيلوفيتش رومانوف، 40 عاماً، سليل العرش الإمبراطوري الروسي، وشريكته الإيطالية ريبيكا بيتاريني، 39 عاماً.
وارتدى الحضور الأرستقراطي الفراء وقبعات الريش والفساتين وهم يشاهدون مجموعةً من الكهنة يرتدون الزيَّ الذهبي ويباركون الزواج.
لم تكن لعائلة رومانوف مكانةٌ رسمية في روسيا منذ إطاحة السلالة في 1917، وهم لا يسعون للعودة إلى العرش. لكن الزفاف يمثِّل ذروة محاولاتهم لإعادة إبراز أنفسهم في الحياة العامة للبلاد منذ سقوط الشيوعية قبل ثلاثين عاماً، وربما يعيدون الإحساس بالمجد الإمبراطوري إلى روسيا.
حضور ملكي أوروبي له دلالته
قال راسل مارتن، أستاذ التاريخ في كلية وستمنستر في بنسلفانيا، الذي ألف كتاباً عن تقاليد الزفاف لدى سلالة رومانوف، وهو أيضاً مستشارٌ مُتطوِّعٌ للعائلة ساعَدَ في ضمان توافق الحفل مع التقاليد الملكية: "هذا حدثٌ تاريخي بالغ الأهمية لإحدى أهم السلالات الملكية في العالم".
وكان من بين الحاضرين الملكيين الأميرة ليا البلجيكية، والأمير رودولف والأميرة تيلسيم من ليختنشتاين، والقيصر الأخير لبلغاريا سيميون الثاني.
وقال العريس، البالغ من العمر 40 عاماً، إن الزفاف كان جزءاً من سلسلةٍ من الأحداث غير المُتوقَّعة التي لم تخطر على بال عائلته حين وُلِدَ عام 1981 في مدريد. وهو حفيد ابن عم آخر القياصرة الروس، نيقولاس الثاني، الدوق الأكبر كيريل فلاديميروفيتش رومانوف. وقال في مقابلةٍ عشية الزفاف: "لم يخطر ببال أحدٍ من أفراد عائلة رومانوف أننا سنعود إلى هنا".
نشأ العريس، جورج ميخائيلوفيتش رومانوف، في كلٍّ من إسبانيا وفرنسا، وتلقَّى تعليمه في أكسفورد وعمل في العديد من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى مجموعة نوريلسك نيكل الروسية العملاقة للتعدين، قبل أن يدشِّن شركته الاستشارية الخاصة. ووفقاً لسيرته الذاتية، فهو على صلةٍ بكلِّ عائلةٍ ملكية في أوروبا.
بدأ هو وعروسه بيتاريني، التي أصبحت الآن من سلالة رومانوف، المواعدة أثناء إقامتهما في بروكسل، لكنهما انتقلا إلى موسكو قبل عامين لإدارة المؤسسة الخيرية التي أسساها معاً في العام 2013. وقالت بيتاريني، التي أسست أيضاً شركةً استشارية، في مقابلةٍ سابقة، إنها كتبت روايتين خلال فترة جائحة كوفيد-19، إحداها بعنوان "الأرستقراطية".
سافر جورج لأول مرة إلى روسيا حين كان في الحادية عشرة من عمره، لحضور جنازة جده، الدوق الأكبر فلاديمير كيريلوفيتش رومانوف، في العام 1992. وُلِدَ فلاديمير وعائلته في فنلندا، وقد نجوا من مصير القيصر نيقولاس الثاني وزوجته أليكساندرا وأولادهما وأقاربهما، وهو الإعدام في العام 1918 على يد البلاشفة الذين تولوا زمام الحكم في روسيا.
كيف تغيرت نظرة روسيا للعائلة الملكية؟
على الأقل جزئياً، يمثِّل حفل الزفاف الذاكرة المتطوِّرة للإمبراطورية الروسية والسلالة التي حكمتها لمدة 300 عام. في ظلِّ الشيوعية، غالباً ما كان آل رومانوف يُصوَّرون على أنهم مُتخلِّفون ومسؤولون عن الانهيار الأسري والمجتمعي. ولكن منذ تسعينيات القرن الماضي، تبنَّت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية القوية إرث السلالة، وأعلنت قداسة نيقولاس الثاني وأليكساندرا وأطفالهما الخمسة عام 2000.
قال أندريه زولوتوف، الصحفي الروسي الذي غطَّى شؤون الكنيسة الأرثوذكسية على مدار ثلاثة عقود: "إن تبجيل العائلة المالكة هو تجسيدٌ لهذا الموقف الملكي الموجود في الكنيسة". وفي عام 2008، بعد 90 عاماً من إعدامهم، "أُعيدَ تأهيل" عائلة رومانوف قانونياً، واعتُرِفَ بهم كضحايا "للقمع الذي لا أساس له" بدلاً من اعتبارهم أعداءً للدولة.
وبارَكَ الزوجين كبير مسؤولي الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في سان بطرسبورغ، متروبوليت فارسونوفي، ووالدة جورج، الدوقة الكبرى ماريا فلاديميروفنا. وبينما تعترف الكنيسة بمطالبة الدوقة الكبرى بالعرش، هناك آخرون من آل رومانوف يعارضون ذلك. تحوَّلَت العروس إلى الأرثوذكسية الروسية واتَّخَذَت اسم فيكتوريا رومانوفنا. وبما أنها ليست من سلالةٍ نبيلة، قرَّرَت حماتها تقييد وصولها إلى الألقاب الملكية.
خلال الحفل، وتماشياً مع التقاليد الأرثوذكسية الروسية، تناوَبَ أصدقاء وأقارب العروس والعريس على رفع التيجان فوق رؤوسهم. وتميَّز الحفل، الذي استمرَّ ثلاثة أيام، بعناصر مثيرة للجدل.
من بين الرجال في صحبة جورج كان كونستانتين مالوفيف، رجل الأعمال المحافظ الذي كان من المدافعين المتحمِّسين عن العودة إلى النظام الملكي منذ الوقوع في حبِّ فيلم "The Lord of the Ring" وهو مراهق. وحين كان طالباً في القانون، كتب أطروحته حول السبل القانونية لاستعادة الملكية الروسية.
ما موقف الكرملين من آل رومانوف؟
لكن مالوفيف كان تحت طائلة عقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منذ العام 2014، بزعم تمويل انفصاليين موالين لروسيا يقاتلون في أوكرانيا. وفي مقابلةٍ أُجرِيَت معه، قال إنه مسرورٌ بما يمثِّله حفل زفاف الزوجين للمحافظين.
وقال: "هذا العرس هو استعادةٌ للتقاليد"، مضيفاً أنه "لا ينبغي النظر إلى حفلات الزفاف وعودة ظهور آل رومانوف من منظور السياسة. الأمر لا يتعلَّق بالأحداث السياسية الجارية. هذا تراث أوروبا. العائلات الموجودة هنا هي بنت أوروبا كما نعرفها".
ويُعتَقد أن مالوفيف مرتبطٌ بصورةٍ وثيقة بالكرملين، مثله مثل يفغيني بريغوزين، صاحب شركة التموين التي تقدِّم الطعام لبعض حفلات الزفاف. كان المُدَّعون العامون الأمريكيون قد وجَّهوا اتِّهاماً لبريغوزين بسبب صلاتٍ مزعومة بجهةٍ يقول المُحقِّقون إنها قادت الجهود الروسية للتدخُّل في انتخابات الولايات المتحدة عام 2016. وأُضيفَ إلى "قائمة المطلوبين" لمكتب التحقيقات الفيدرالي هذا العام.
ورغم الصلات بالمسؤولين بالكرملين، والموافقة الحكومية الضمنية على وجودٍ ملكيٍّ محدود، كان ردّ موسكو على حفل الزفاف فاتراً؛ إذ قال المتحدِّث باسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "هذا الزفاف لا علاقة له بجدول أعمالنا".
ويتباين التأييد للعودة إلى الملكية في روسيا. ووفقاً لمركز ليفادا المستقل، قال 3% فقط من المشاركين في استطلاعٍ أُجرِيَ العام 2016 إنهم سيدعمون العودة إلى النظام الملكي الذي كان قبل العام 1917.
ووجدت دراسةٌ استقصائية في العام التالي أن 68% من الروس "يعارضون بشكلٍ قاطع الاستبداد كشكلٍ من أشكال الحكم"، رغم أن نفس العدد من الأشخاص، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً، كانوا "متسامحين" مع فكرة الملكية.
وعبر الشارع من الزفاف في الكاتدرائية، كانت أولغا، 57 عاماً، تلتقط صوراً لضيوف حفل الزفاف وهم يخرجون. أعربت أولغا عن أسفها، رافضةً الإفصاح عن اسمها الأخير، قائلةً: "كنت أتمنَّى لو كنت قد علمت مُسبَّقاً بحفل الزفاف. كنت سأحضر مبكِّراً لمشاهدة الحدث". وقالت إنها ستفضِّل نوع الملكية الدستورية، على غرار المملكة المتحدة، حيث تلعب العائلة الملكية دوراً شرفياً فوق السياسة.
وقال أندريه زولوتوف إن بعض الروس لم يتأثَّروا بما قدَّمَته 30 عاماً من الديمقراطية ولن يمانعوا في تجربة نموذج مختلف، ولكن ليس بالضرورة مع عائلة رومانوف مرةً أخرى.
وأضاف: "الفكرة جذَّابة للغاية بالنسبة للبعض بسبب تصوُّر أن الديمقراطية غير فعَّالة على أيِّ حال"، مشيراً إلى أن الانتقال من الشيوعية إلى الرأسمالية خلال التسعينيات لا يزال مصدراً لصدمةٍ وطنية، وأن روسيا بعد عقدين من حكم بوتين ليست ديمقراطية إلا بالكاد. وقال: "التصوُّر هو: أياً كان النظام الذي لديك، ينتهي بك الأمر مع قيصرٍ على أيِّ حال. لذا فإن الشعب الروسي في أعماقه لديه عقلية ملكية".