يبدو أن تجربة صعود الصين قد بدأت تتعثر أو على الأقل تتراجع وتيرة صعودها، وهذا ليس خبراً جيداً بالنسبة لأمريكا، بل على العكس يعلمنا التاريخ أن التراجع بعد الصعود هو أخطر مراحل القوى العظمى، التي سببت دوماً تداعيات كارثية.
واليوم في ظل تصاعد الحرب الباردة الأمريكية على الصين، والتحالفات التي تنسجها واشنطن ضدها، بالتزامن مع سلسلة الأزمات الداخلية التي تواجه بكين، فإن الأخيرة قد تتصرف بعصبية وبحدة تجعلها أكثر خطورة، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
أمريكا والصين وقعا في فخ "ثوسيديدس"
تخوض القوى العظمى حروباً كبرى من أجل فرض الهيمنة في مواجهة القوى المنافسة الصاعدة، هذه هي الإجابة التقليدية. تتزايد التوترات عندما تحاول قوة صاعدة تغيير قواعد النظام القائم الذي أرسته القوة العظمى المهيمنة، الأمر الذي ينجم عنه دوامة من الخوف والعداء تقود إلى صراع شبه حتمي، وكأنه فخ "ثوسيديدس"، وهو مصطلح صاغه المؤرخ الإغريقي، ثوسيديدس، الذي رصد تاريخ الحرب البيلوبونيسية الطاحنة بين أثينا وإسبرطة.
كتب ثوسيديدس أنَّ "إسبرطة اعتبرت قوة أثينا، التي كانت تتعاظم يوماً بعد يوم، مصدر تهديد لهيمنتها، وهو ما جعل الحرب بينهما أمراً لا مفر منه".
وبناءً عليه، يشير مصطلح "فخ ثوسيديدس" إلى أنَّ أي قوة عظمى مهيمنة لن تتخلى عن مكانتها لصالح قوة أخرى وتكون الحرب حينها خياراً حتمياً لحسم المنافسة.
استدعى غراهام أليسون، عالم السياسة بجامعة "هارفارد" الأمريكية، هذا المصطلح لشرح الخصومة الحالية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. بعبارة أخرى، سوف يتزايد خطر الحرب بين الدولتين بشكل كبير عندما تتخطى الصين الصاعدة أمريكا المتراجعة.
وكان الرئيس الصيني، شي جين بينغ، قد أكد هذا المفهوم بقوله إنَّه يتعيَّن على واشنطن إفساح المجال لبكين، حسب المجلة الأمريكية.
لذا، بات الاعتقاد السائد أنَّ التوترات المتصاعدة بين البلدين سببها الأساسي هو "انتقال القوة" الذي يلوح في الأفق، حيث تحل قوة صاعدة جديدة محل قوة أخرى كانت مهيمنة.
ومع ذلك، فإنَّ هذا الطرح السائد خاطئ تماماً. تحتاج الولايات المتحدة بالفعل إلى الاستعداد لخوض حرب كبرى، لكن ليس لأنَّ قوة خصمها تتصاعد، بل لأنَّها تتراجع، حسبما ورد في تقرير المجلة الأمريكية.
ثمة فخ مهلك حقاً قد تقع فيه الولايات المتحدة والصين، لكنّه ليس بسبب "انتقال القوة" – كما يشير المصطلح المأثور للمؤرخ ثوسيديدس. يجدر النظر إليه بدلاً من ذلك بوصفه "فخ تراجع القوة".
ثمة حقائق أساسية تثبت أنَّ صعود قوى جديدة يؤدي دائماً إلى نشوب صراعات مزعزعة للاستقرار، وهذا هو الاساس الذي يستند إليه "فخ ثوسيديدس". لم تكن أثينا سَتُشكّل مصدر تهديد لإسبرطة لو ما كانت قد بنت إمبراطورية شاسعة وأصبحت قوة بحرية عظمى. على نفس المنوال، لم تكن واشنطن وبكين سيسيران على مسار تصادمي إذا كانت الصين لا تزال دولة ضعيفة وفقيرة.
تسعى القوى الصاعدة دائماً إلى توسيع نفوذها بطرق تهدّد القوى الراسخة المهيمنة، لكن الحسابات السياسية المؤدية إلى الحرب أشد تعقيداً. سيجدر بالدولة، التي تتنامى ثرواتها وقوتها باطراد، تأجيل المواجهة المميتة مع القوة المهيمنة حتى تكتسب مزيداً من القوة والنفوذ، وهذا ما قد يدفعها للتهدئة.
لكن تخيّل الآن حدوث سيناريو مختلف لدولة تبني قوتها وتوسع آفاقها الجيوسياسية. وبعد ارتفاع مكانتها العالمية إلى مستويات مذهلة، تبدأ لسببٍ ما في رؤية المستقبل مزعجاً، ربما بسبب تباطؤ اقتصادها أو لأنَّ إصرارها على تأكيد ذاتها دفع المنافسين العنيدين إلى تشكيل تحالف ضدها، أو ربما لأنَّ كلا الأمرين يحدثان في آنٍ واحد.
يتراجع شعور امتلاك القدرة غير المحدودة ليحل محله الشعور بالخطر المحدق. في ظل هذه الظروف، قد تتصرف هذه القوة الاسترجاعية على نحو أجرأ وأعنف لانتزاع كل ما تستطيع انتزاعه قبل فوات الأوان.
لذا، فإنَّ أخطر مسار في السياسة العالمية هو الصعود الصاروخي طويل الأمد لقوة عظمى الذي يتبعه تراجع حاد محتمل.
يوضح هال براندز، أستاذ الشؤون العالمية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة "جونز هوبكينز" الأمريكية، ومايكل بيكلي، أستاذ مشارك في العلوم السياسية بجامعة "تافتس" الأمريكية، في كتابهما الجديد "منطقة الخطر: الصراع القادم مع الصين"، أنَّ هذا السيناريو أكثر شيوعاً ما قد يُعتقد.
ماذا يقول التاريخ عن سلوك القوى الصاعدة عندما تخشى التراجع؟
أظهر المؤرخ الأمريكي، دونالد كاغان، على سبيل المثال، أنَّ أثينا بدأت تتصرف بعدوانية أكبر في السنوات التي سبقت الحرب البيلوبونيسية لأنَّها كانت تخشى حدوث تحولات في ميزان القوة البحرية لصالح إسبرطة. نرى نفس المسار أيضاً في حالات أحدث عهداً. اتضح جلياً على مدار الـ 150 عاماً الماضية أنَّ القوى العظمى، التي كانت تنمو بمعدلات أسرع من المتوسط العالمي ثم عانت من تباطؤ حاد طويل الأمد، لا تنحسر عادةَ بهدوء. بدلاً من ذلك، تتحول إلى نهج متهور وعدواني.
تحفز عصور النمو السريع الطموحات العالمية للدولة وتزيد من توقعات شعبها. لكن ضعف الأداء الاقتصادي يجعل من الصعب على القادة مواصلة إسعاد شعوبهم ويضعف مكانة البلاد أمام خصومها. يلجأ النظام الحاكم في هذه المرحلة إلى قمع المعارضة في الداخل خوفاً من الاضطرابات، فضلاً عن محاولة استعادة النمو والزخم الاقتصادي من خلال توسيع نفوذ الدولة في الخارج للاستيلاء على الموارد الاقتصادية والأسواق. عادةً ما يثير هذا السلوك توترات بين القوى العظمى تصل في بعض الحالات إلى حد اندلاع حروب فتّاكة.
اتّبعت العديد من الدول هذا المسار. قمعت واشنطن بعنف الإضرابات والاضطرابات المحلية وانخرطت في نوبة من العدوان والتوسع الامبريالي خلال تسعينيات القرن الـ19 بعد انتهاء القفزة الاقتصادية طويلة الأمد في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية.
تبنت روسيا القيصرية نهجاً مماثلاً بعد أن انزلقت الإمبراطورية الروسية الصاعدة بسرعة مذهلة إلى حالة من الركود العميق في مطلع القرن الـ20. فرضت إجراءات استبدادية في الداخل ووسّعت مهام جيشها في الخارج سعياً لتحقيق مكاسب استعمارية في شرق آسيا، حيث أرسلت حوالي 170 ألف جندي لاحتلال منشوريا. جاءت هذه التحركات بنتائج عكسية. أثارت استعداء اليابان، التي هزمت روسيا في أول حرب قوى عظمى في القرن الـ20.
تحوّلت روسيا بعد قرن من الزمان إلى السلوك العدواني مع تعرّضها لظروف مماثلة، حيث شهدت تباطؤاً حاداً في النشاط الاقتصادي ما بعد عام 2008. غزا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دولتين متجاورتين وراهن على مطالبات موسكو في المنطقة القطبية الشمالية الغنية بالموارد ووضع روسيا على مسار الديكتاتورية.
يبدو واضحاً النمط المشترك بين كل هذه الحالات. إذا كان الصعود السريع للدولة سيتيح لها فرصة التصرف بجرأة، فإنَّ الخوف من التراجع وفقدان النفوذ سيدفعها نحو مسار أجرأ وأعنف.
كثيراً ما يحدث نفس الشيء عندما تدرك القوى الآخذة في الصعود سريعاً أنَّ رغبتها في التوسع والهيمنة يجري احتواؤها من جانب تحالف معادٍ. في الواقع، شهد العالم بعض أبشع الحروب على مر التاريخ عندما خلصت قوى استرجاعية إلى أنَّ ثمة مَن يقف حجر عثرة في طريق وصولها إلى القوة والعظمة.
ألمانيا واليابان الإمبرياليتان مثالان واضحان
غالباً ما يُنظَر إلى التنافس بين ألمانيا وبريطانيا العظمى في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين باعتباره مناظراً للتنافس بين الولايات المتحدة والصين. في كلتا الحالتين، هدَّدَ منافسٌ استبدادي هيمنة الليبرالية. لكن التشابه الأكثر واقعيةً هو أن الحرب جاءت عندما استوعبت ألمانيا المُحاصَرة أنها لن تتخطَّى منافسيها دون قتال.
على مدار عقودٍ بعد التوحيد في عام 1871، كانت ألمانيا ترتقي بنفسها. كانت مصانعها تنتج الحديد والصلب، ما محا الريادة الاقتصادية لبريطانيا. وقامت برلين ببناء أفضل الجيوش والبوارج في أوروبا، وهدَّدَ ذلك التفوُّق البريطاني في البحر. وبحلول أوائل القرن العشرين، كانت ألمانيا ذات ثقلٍ في أوروبا وتسعى إلى تحقيق نفوذٍ هائل في القارة. وفي عهد القيصر فيلهلم الثاني، صارت تنتهج "سياسةً عالمية" تهدف إلى تأمين المستعمرات والقوة العالمية.
لكن خلال الفترة السابقة للحرب، لم يشعر القيصر ومساعدوه بالثقة. تسبَّبَ السلوك المتهوِّر لألمانيا في تطويقها من قِبَلِ قوى معادية.
وشكَّلَت لندن وباريس وسان بطرسبورغ "الوفاق الثلاثي" لإيقاف ألمانيا عن التوسُّع. وبحلول عام 1914، كان الوقت ينفد، وكانت ألمانيا تخسر قوتها الاقتصادية لصالح روسيا سريعة النمو، فيما كانت لندن وباريس تتابعان الاحتواء الاقتصادي من خلال منع وصول الألمان إلى النفط وخام الحديد. تمزَّقَ حليف برلين الأساسي، إمبراطورية النمسا-المجر، بسبب التوتُّرات العرقية. وفي الداخل، كان النظام السياسي الألماني الاستبدادي في مأزق.
وأكثر ما أنذر بالسوء هو أن الميزان العسكري كان يتغيَّر. كانت فرنسا توسِّع جيشها، وأضافت روسيا 470 ألف رجلٍ إلى جيشها، واختصرت الوقت الذي تحتاجه للتعبئة من أجل الحرب. أعلنت بريطانيا أنها ستبني سفينتين حربيَّتين مقابل كلِّ واحدةٍ تبنيها برلين. وكانت ألمانيا آنذاك هي القوة العسكرية الأولى في أوروبا. ولكن بحلول العام 1916 و1917، صارت تلك مبالغةً ميؤوس منها. كانت النتيجة هي أن على ألمانيا "هزيمة العدو بينما لا تزال لديها فرصة للنصر"، حتى لو كان ذلك يعني "إثارة حربٍ في المستقبل القريب".
هذا ما حدث عندما اغتال القوميون الصرب وليّ العهد النمساوي في يونيو/حزيران 1914. حثَّت حكومة القيصر إمبراطورية النمسا-المجر على سحق صربيا، رغم أن ذلك كان يعني الحرب مع روسيا وفرنسا. ثم غزت بلجيكا المحايدة، رغم احتمال استفزاز ذلك بريطانيا. واعترف رئيس الأركان الألماني هيلموث فون مولتك بأن "هذه الحرب ستتحوَّل إلى حربٍ عالمية ستتدخَّل فيها إنجلترا أيضاً". هذا الصعود منح ألمانيا القوة للمراهنة على العظمى. وأدَّى تراجعها الوشيك إلى اتِّخاذ قراراتٍ أغرقت العالم في الحرب.
مقدمات العدوانية اليابانية.. المزارعون يبيعون بناتهم
اتَّبَعَت الإمبراطورية اليابانية مساراً مشابهاً. لمدة نصف قرنٍ بعد إصلاح ميجي في عام 1868، كانت اليابان ترتقي بشكلٍ مُطرَد. سمح بناء اقتصادٍ حديث وجيش شرس لطوكيو بالفوز في حربين كبيرتين ومراكمة الامتيازات الاستعمارية في الصين وتايوان وشبه الجزيرة الكورية. ومع ذلك، لم تكن اليابان شديدة العدوانية، فخلال العشرينيات تعاونت مع الولايات المتحدة وبريطانيا ودولٍ أخرى لإنشاء إطار عملٍ أمني تعاوني في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
لكن خلال ذلك العقد، انهارت الأمور، إذ انخفض النمو من 6.1% سنوياً بين عامي 1904 و1919 إلى 1.8% سنوياً في العشرينيات. ثم أدَّى الكساد الكبير إلى إغلاق الأسواق الخارجية لليابان. ارتفعت معدَّلات البطالة، وكان المزارعون المُفلِسون يبيعون بناتهم. وفي الوقت نفسه، في الصين، كان النفوذ الياباني يواجه تحدياً من قِبَلِ الاتحاد السوفييتي والحركة القومية الصاعدة آنذاك بقيادة تشانغ كاي تشيك. وكانت إجابة طوكيو هي الفاشية في الداخل والعدوان في الخارج.
ومن أواخر القرن العشرين فصاعداً، أجرى الجيش انقلاباً بطيئاً وسخَّرَ موارد الأمة من أجل "حربٍ شاملة". بدأت اليابان حشداً عسكرياً هائلاً، وأنشأت بعنفٍ مجالاً واسعاً من النفوذ، واستولت على منشوريا في عام 1931، وغزت الصين في 1937، ووضعت خططاً لغزو المستعمرات الغنية بالموارد والجزر الاستراتيجية عبر آسيا والمحيط الهادئ. كان الهدف هو بناء إمبراطورية ذاتية الحكم. ولفَّت النتيجة حبل المشنقة حول رقبة طوكيو.
أدَّى اندفاع اليابان إلى الصين في النهاية إلى حرب معاقبةٍ مع الاتحاد السوفييتي. أثارت مخطَّطَات اليابان بشأن جنوب شرق آسيا قلق بريطانيا. وجعلها سعيها نحو السيادة الإقليمية عدواً للولايات المتحدة، التي استوردت منها طوكيو كلَّ نفطها تقريباً. وجلبت طوكيو عداء تحالفٍ ساحقٍ من الأعداء، ثم خاطرت بكلِّ شيء.
كان السبب المُعجِّل، مرةً أخرى، هو نافذة الفرصة المُغلَقة. بحلول عام 1941، كانت الولايات المتحدة تبني جيشاً لا يُهزَم. وفي يوليو/تموز، فرض الرئيس الأمريكي آنذاك، فرانكلين روزفلت، حظراً نفطياً هدَّدَ بوقف توسُّع اليابان في مساراتها. لكن اليابان ظلَّت تتمتَّع بتفوُّقٍ عسكري مؤقَّت في المحيط الهادئ. لذلك استخدمت هذه الميزة في هجومٍ خاطئ -الاستيلاء على جزر الهند الشرقية الهولندية والفلبين وممتلكات أخرى من سنغافورة إلى جزيرة ويك وكذلك قصف الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر- مِمَّا ضَمَنَ تدميرها.
كانت احتمالات فوز اليابان قاتمة، ومثلما أقرَّ الجنرال الياباني آنذاك، هيديكي توجو، لم يكن هناك خيارٌ إلا "أن يغلق المرء عينيه ويقفز". وأصبحت اليابان أشد عنفاً عندما رأت أن الوقت ينفد.
هذا هو الفخُّ الحقيقي الذي على الولايات المتحدة أن تقلق بشأنه فيما يتعلَّق بالصين اليوم -الفخُّ الذي تصل فيه القوة العظمى الطموحة إلى ذروة قوتها ثم ترفض تحمُّل العواقب المؤلمة.
مؤشرات تراجع وتيرة صعود الصين
نجحت في تجنب مقاومة الغرب لصعودها، ولكن هذه الميرة انتهت
إن نهوض الصين ليس سراباً، إذ منحت عقودٌ من النمو بكين القوة الاقتصادية لكي تصبح قوةً عالمية عظمى. وأدَّت الاستثمارات الكبرى في التقنيات الرئيسية والبنية التحتية للاتصالات إلى مكانةٍ قوية في الصراع من أجل التأثير الجغرافي الاقتصادي، وتستخدم الصين مبادرة الحزام والطريق متعدِّدة القارات لجلب دولٍ أخرى إلى فلكها. وتشير التقييمات الأكثر إثارةً للقلق وتقارير وزارة الدفاع الأمريكية إلى أن جيش الصين الهائل على نحوٍ متزايد لديه الآن فرصة حقيقية للفوز في حربٍ ضد الولايات المتحدة في غرب المحيط الهادئ.
لذلك، ليس من المستغرب أن تكون لدى الصين طموحات القوى العظمى، إذ أعلن شي أن بكين ترغب إلى حدٍّ ما، في تأكيد سيادتها على تايوان وبحر الصين الجنوبي وغيرهما من المناطق المُتنازَع عليها، لتصبح القوة البارزة في آسيا وتتحدَّى الولايات المتحدة من أجل قيادة العالم. ومع ذلك، إذا كانت نافذة الفرص الجيوسياسية للصين حقيقية، فإن مستقبلها قد بدأ بالفعل يبدو قاتماً للغاية، لأنها تفقد بسرعةٍ المزايا التي دفعت نموها السريع، حسب المجلة الأمريكية.
لقد كانت مكتفية ذاتياً، ولكنها الآن تستورد المواد الخام بشراهة
ومن السبعينيات إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت الصين شبه مكتفية ذاتياً من الغذاء والماء وموارد الطاقة. لقد تمتَّعت بأكبر عائدٍ ديموغرافي في التاريخ، مع 10 بالغين في سنِّ العمل لكلِّ مواطنٍ كبيرٍ يبلغ من العمر 65 عاماً أو أكبر (بالنسبة لمعظم الاقتصادات الكبرى، يكون المتوسِّط أقرب إلى 5 أشخاص بالغين في سنِّ العمل لكلِّ مواطنٍ كبير السن).
وكانت الصين تتمتَّع ببيئةٍ جيوسياسية آمنة، علاوة على سهولة الوصول إلى الأسواق والتكنولوجيا الأجنبية، وكلُّ ذلك كان مدعوماُ بعلاقاتٍ تتسم فعلياً بالودية مع الولايات المتحدة. وقد استفادت حكومة الصين بمهارةٍ من هذه المزايا من خلال عملية الإصلاح الاقتصادي والانفتاح، مع انتقال النظام أيضاً من الشمولية الخانقة في عهد الزعيم الصيني ماو تسي تونغ إلى شكلٍ أكثر ذكاءً -وإن كان لايزال قمعياً للغاية- من الاستبداد في ظلِّ خلفائه.
ولكن منذ أواخر العقد الأول من القرن الجاري، توقَّفَت دوافع صعود الصين أو تراجعت بالكامل. على سبيل المثال، تنفد المواد من الصين، إذ أصبحت المياه نادرة، وتقوم البلاد باستيراد الطاقة والغذاء أكثر من أيِّ دولةٍ أخرى، بعد أن دمَّرَت مواردها الطبيعية. وبالتالي، أصبح النمو الاقتصادي أكثر تكلفةً. ووفقاً لبيانات بنك DBS، يتطلَّب إنتاج وحدة نمو اليوم ثلاثة أضعاف ما كانت تتطلَّبه في أوائل العقد الأول من القرن الجاري.
وسكانها يشيخون بشكل صادم
تقترب الصين أيضاً من الهاوية الديموغرافية، إذ سوف تفقد، من 2020 إلى 2050، 200 مليون من البالغين في سنِّ العمل -وهو مكافئ لعدد سكان نيجيريا- وسوف تكتسب 200 مليون من كبار السن.
وستكون العواقب المالية والاقتصادية مدمِّرة، إذ تشير التوقُّعات الحالية إلى أن إنفاق الصين على الضمان الطبي والاجتماعي يجب أن يتضاعف ثلاث مرات كحصةٍ من الناتج المحلي الإجمالي، من 10% إلى 30%، بحلول عام 2050 فقط؛ لمنع ملايين من كبار السن من الموت بسبب الفقر والإهمال.
وما يزيد الطينة بلة هو أن الصين تبتعد عن حزمة السياسات التي عزَّزَت النمو السريع. انزلقت بكين تحت حكم شي مرةً أخرى إلى الشمولية. وعيَّن شي نفسه "رئيساً لكلِّ شيء"، ودمَّر أيَّ مظهرٍ من مظاهر الحكم الجماعي، وجعل التمسُّك بـ"فِكر شي جين بينغ" جوهراً أيديولوجياً لنظامٍ صارمٍ على نحوٍ متزايد. وقد سعى بلا هوادةٍ إلى مركزيةٍ في السلطة على حساب الازدهار الاقتصادي.
وتُدعَم الشركات الحكومية العائدة من الموت بينما تفتقر الشركات الخاصة إلى رأس المال. وتحل الدعاية الحكومية محلَّ التحليل الاقتصادي والموضوعي.
وأصبح الابتكار أصعب في ظلِّ مناخ تسفيه التوافق الأيديولوجي. وفي الوقت نفسه، أدَّت حملة شي الوحشية لمكافحة الفساد إلى ردع الأعمال الرائدة، وأدَّت موجةٌ من اللوائح ذات الدوافع السياسية إلى محو أكثر من تريليون دولار من رسملة السوق لشركات التكنولوجيا الصينية الرائدة. ولم يوقف شي ببساطةٍ عملية التحرير الاقتصادي التي عزَّزَت تنمية الصين، بل ألقى بها في الاتجاه المعاكس.
معدل النمو الحقيقي أقل من المعلن
بدأ الضرر الاقتصادي الذي تسبِّبه هذه الاتجاهات في التراكم، وهو يضاعف التباطؤ الذي كان سيحدث على أيِّ حالٍ مع نضوج اقتصادٍ سريع النمو.
كان الاقتصاد الصيني يفقد قوته لأكثر من عقد، إذ انخفض معدَّل النمو الرسمي للبلاد من 14% في 2007 إلى 6% عام 2019، وتشير الدراسات الدقيقة إلى أن معدَّل النمو الحقيقي يقترب الآن من 2%.
والأسوأ من ذلك أن معظم هذا النمو ينبع من الإنفاق الحكومي على التحفيز. ولقد انخفض إجمالي إنتاجية العوامل بنسبة 1.3% سنوياً في المتوسط بين عامي 2008 و2019، ما يعني أن الصين تنفق أكثر لإنتاج كمياتٍ أقل كلَّ عام. وقد أدَّى هذا بدوره إلى ديونٍ ضخمة. فقد ارتفع إجمالي ديون الصين ثمانية أضعاف بين عامي 2008 و2019، وتجاوز 300% من الناتج الإجمالي قبل اندلاع جائحة كوفيد-19.
والمنافسون بدأوا في احتوائها
وعلاوة على ذلك، يجري كلُّ هذا في الوقت الذي تواجه فيه الصين بيئةً خارجيةً معاديةً بشكلٍ متزايد. وأدَّى مزيج الجائحة والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان والسياسات العدوانية، إلى وصول وجهات النظر السلبية تجاه الصين إلى مستوياتٍ غير مسبوقة منذ مذبحة ميدان تيانانمين في عام 1989.
وقد فرضت الدول التي تشعر بالقلق من المنافسة الصينية آلاف الحواجز التجارية الجديدة على سلعها منذ العام 2008. وانسحبت أكثر من 12 دولة من مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها شي، بينما تشنُّ الولايات المتحدة حملةً عالميةً ضد شركات التكنولوجيا الصينية الرئيسية، لاسيما هواوي. وأصبح العالم أقل تساهلاً مع النمو الصيني الضخم، ويواجه نظام شي بشكلٍ متزايد نوعاً من الحصار الاستراتيجي الذي دفع الألمان واليابانيين إلى اليأس عشية الحرب العالمية الثانية.
مثالٌ على ذلك سياسة الولايات المتحدة نفسها. على مدار السنوات الخمس الماضية، ألزمت إدارتان رئاسيَّتان أمريكيَّتان الولايات المتحدة بسياسة "المنافسة" تجاه الصين، وفي الواقع يمكن أن نطلق عليها سياسة "الاحتواء الجديد". وتركِّز الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية الآن بشكلٍ مباشرٍ على هزيمة العدو الصيني في غرب المحيط الهادئ، وتستخدم واشنطن مجموعةً من العقوبات التجارية والتكنولوجية لمحاصرة نفوذ بكين والحدِّ من احتمالات تفوُّقها الاقتصادي. وحذَّر أحد كبار ضباط جيش التحرير الشعبي الصيني من أنه "بمجرد أن تعتبرك أمريكا عدواً، فإنك ستواجه مشكلةً كبيرة". في الواقع، التزمت الولايات المتحدة أيضاً بتنسيق مقاومة عالمية أكبر للقوة الصينية، وهي حملةٌ بدأت تظهر نتائجها مع استجابة المزيد والمزيد من الدول لتهديد بكين.
وبدأوا يستعدون لمواجهتها عسكرياً
وفي بحار آسيا، تتصاعد المقاومة ضد القوة الصينية. تعمل تايوان على زيادة الإنفاق العسكري، وتضع خططاً لتحويل نفسها إلى مركزٍ استراتيجي في غرب المحيط الهادئ. وتنفِّذ اليابان أكبر حشدٍ عسكريٍّ لها منذ نهاية الحرب الباردة، ووافقت على دعم الولايات المتحدة إذا هاجمت الصين تايوان. وتعمل الدول المحيطة ببحر الصين الجنوبي، لاسيما فيتنام وإندونيسيا، على تعزيز قواتها الجوية والبحرية وخفر السواحل؛ لتحدي سعي الصين للتوسُّع.
وتقاوم دولٌ أخرى أيضاً موقف بكين. تعمل أستراليا على توسيع القواعد الشمالية لاستيعاب السفن والطائرات الأمريكية وبناء صواريخ تقليدية بعيدة المدى وغوَّاصات هجومية تعمل بالطاقة النووية. وتحشد الهند قواتها على الحدود مع الصين بينما ترسل سفناً حربية عبر بحر الصين الجنوبي. وقد وصف الاتحاد الأوروبي بكين بأنها "منافس منهجي"، وأرسلت القوى الثلاث العظمى في أوروبا -ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة- فرق عمل بَحرية إلى بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي.
لا شك في أن التعاون ضد الصين يظلُّ غير كامل. لكن الاتجاه العام واضح: مجموعةٌ من الجهات الفاعلة توحِّد قواها تدريجياً؛ لاختبار قوة الصين ووضعها في صندوقٍ استراتيجي. بعبارةٍ أخرى، لن تكون دولةً صاعدةً إلى الأبد. إنها قوية بالفعل، وطموحة للغاية، ومضطربة بشدة، ولن تظلَّ نافذة الفرص مفتوحة أمامها لفترةٍ طويلة.
كل هذا يجب أن يُقلق أمريكا، لأن هذا قد يعني أن بكين قد تتصرف بغلظة
من بعض النواحي، كلُّ هذه أخبارٌ سارَّة لواشنطن. فالصين التي تتباطأ اقتصادياً وتواجه مقاومةً عالميةً متزايدة، ستجد صعوبةً كبيرةً في إزاحة الولايات المتحدة كقوةٍ عالميةٍ رائدة.
لكن الأخبار المثيرة للقلق من نواحٍ أخرى هي أن التاريخ يحذِّر من أن العالم يجب أن يتوقَّع أن تتصرَّف الصين في ذروة قوتها بجرأةٍ أكبر، وهو ما يُنذَر به في العقد المقبل، من أجل الحصول على جوائز استراتيجية طال انتظارها قبل أن تتلاشى ثرواتها.
لكن كيف يمكن أن يبدو هذا؟ يمكننا إجراء تخمينات مستنيرة بناءً على ما تفعله الصين حالياً.
تعمل بكين بالفعل على مضاعفة جهودها لإنشاء مجال نفوذ اقتصادي للقرن الحادي والعشرين من خلال السيطرة على التقنيات الحيوية، مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمّية واتصالات الجيل الخامس. وسوف تتسابق من أجل إتقان "الاستبداد الرقمي" الذي يمكن أن يحمي حكم الحزب الشيوعي الصيني غير الآمن في الداخل، مع تعزيز موقف بكين الدبلوماسي من خلال تصدير هذا النموذج إلى الحلفاء الاستبداديين في جميع أنحاء العالم.
من الناحية العسكرية، قد يصبح الحزب الشيوعي الصيني أثقل في تأمين خطوط إمداد طويلة وهشَّة، وفي حماية مشاريع البنية التحتية بوسط وجنوب وغرب آسيا وإفريقيا ومناطق أخرى، وهو دورٌ يتوق إليه بعض الصقور في جيش التحرير الشعبي الصيني. وقد تصبح بكين أيضاً أكثر حزماً في مواجهة اليابان والفلبين والدول الأخرى التي تقف في طريق مطالباتها في بحر الصين الجنوبي والشرقي.
وقد تتحرك لحسم مصير تايوان قبل فوات الأوان
والأكثر إثارة للقلق هو أن الصين ستميل بشدة إلى استخدام القوة لحلِّ قضية تايوان بشروطها في العقد المقبل، قبل أن تُنهي واشنطن وتايبيه إعادة تجهيز جيشيهما لتقديم دفاعٍ أقوى. ويقوم جيش التحرير الشعبي بالفعل بتصعيد تدريباته العسكرية في مضيق تايوان. وأعلن شي مراراً أن بكين لا يمكنها الانتظار إلى الأبد حتى تعود "المقاطعة المنشقَّة" إلى الحظيرة. وعندما يتحوَّل الميزان العسكري مؤقَّتاً أكثر في مصلحة الصين بأواخر هذا العقد، ومع إجبار البنتاغون على سحب السفن والطائرات القديمة للتقاعد، قد لا تحظى الصين أبداً بفرصةٍ أفضل للاستيلاء على تايوان وإنزال هزيمة مُذِلَّة بواشنطن.
للتوضيح، ربما لن تشن الصين هجوماً عسكرياً شاملاً عبر آسيا، كما فعلت اليابان في أوائل الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن الماضي. لكنها ستواجه مخاطر أكبر وتوتُّراتٍ أكبر أثناء محاولاتها جني المكاسب الرئيسية. لدى الصين القدرة الفعلية على تحدي النظام الحالي بعنف، ومن المحتمل أن تعمل بصورةٍ أسرع وتدفع بقوةٍ أكبر، لأنها تفقد الثقة بأن الوقت إلى جانبها.
ولن تواجه الولايات المتحدة إذن مهمةً واحدة، بل مهمتين في التعامل مع الصين في عشرينيات القرن الحالي. وسيتعيَّن عليها مواصلة التعبئة، من أجل المنافسة طويلة الأجل، مع التحرُّك بسرعة لردع العدوان وتخفيف حِدَّة بعض التحرُّكات الأكثر عدوانية التي تتَّخِذها بكين على المدى القريب. بعبارةٍ أخرى، سيكون على العالم أن يربط حزام الأمان.