بكثيرٍ من الامتنان وبعضِ الجزع تودّع ألمانيا وأوروبا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي تستعد للرحيل عن منصبها، بعد 16 عاماً قضتها كأول مستشارة أنثى في تاريخ ألمانيا، في ظل اختلاف حول تقييم حكم ميركل بين من يعتبرها أيقونة أوروبا ومن يراها تتلاعب بالقارة لصالح ألمانيا، وأنها مسؤولة جزئياً عن صعود روسيا والصين.
ترى الصحفية الفرنسية ماريون فان رينترغيم في مقال نُشر بصحيفة The Guardian البريطانية، أنّ أنجيلا ميركل تُمثّل اليوم ما هو أكبر من ألمانيا، إذ باتت تجسيداً لأوروبا بأكملها، فهي أيقونةٌ شعبية استقرت في وعي الأوروبيين وكأنّها أغنية. وصارت صورها تظهر على الأكواب والقمصان وحتى عصارات الليمون.
ولكن صعودها وطول بقائها لا يزالان من الألغاز المحيرة بحسب ماريون، التي تساءلت: كيف لهذه المرأة التي لا تُبالي بزخارف السلطة أن تُسيطر على حزب حكمه رجالٌ محافظون لنصف قرن، ثم تُنتخب أربع مراتٍ متتالية لقيادة إحدى القوى العظمى العالمية؟ وكيف صارت مثالاً يُحتذى به.
لا شيء مميزاً بها ولكنها مبهرة
وكتبت ماريون أنّها قضت سنوات في المشاهدة، والكتابة، وصناعة فيلم عن أنجيلا ميركل، ولم يكُن دافعها هو الإعجاب الأعمى، بل كان الانبهار، لأن أول مستشارةٍ أنثى في تاريخ ألمانيا، التي قادت أقوى اقتصادات أوروبا لـ16 عاماً، خرجت من بلدٍ لم يعُد له وجود، إذ لم نعد حتى نتذكر اسم جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية). ثم طرحت ماريون سؤالاً آخر: هل هناك زعيمٌ عالمي آخر يُمكنه أن يزعم امتلاك خلفيةٍ مبهرة بهذه الدرجة؟
وتتقاعد ميركل من المستشارية الألمانية بعد أن قضت أكثر من نصف حياتها تحت حكم ديكتاتورية تابعة للكتلة السوفييتية، داخل بلدٍ مفصولٍ عن نصفه الغربي ومعزولٍ عن العالم الحر، لقد عاشت بالفعل حياتين من وجهة نظر ماريون، قبل وبعد سقوط جدار برلين.
وربما يكون الانتقاد الأكبر لميركل هو أنّها "لم تفعل شيئاً"، ولم تترك بصمتها على التاريخ مثل أسلافها، إذ لا تمتلك في رصيدها إصلاحات كبرى، لكن ماريون ترى أن سجلها السياسي مثله مثل حياتها، له وجهان.
أجهزت على المستشار الذي أدخلها عالم السياسة
دخلت ميركل الحياة السياسية بشكلٍ عابر عقب سقوط جدار برلين، وكانت حينها مجرد كيميائية عادية تفتقر إلى مهارات الخطابة، والكاريزما، والدهاء السياسي، وبدون أي أجندة معينة، وفي سن الـ35 لعب القدر لعبته لتجد نفسها في الوقت المناسب وفي المكان المناسب، وقد عرفت جيداً كيف تستفيد من فرصتها.
في بداية حياتها المهنية كانت فكرة أن تصير ميركل مستشارةً لألمانيا هي أبعد ما يكون عن المنطق، إذ ستخلف بذلك سلسلةً من كبار رجال السياسة الضخام من ألمانيا الغربية، الذين يشربون الخمر والسجائر ويغازلون النساء بكثرة، حسبما ورد في مقال لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
وحين انهار جدار برلين عام 1989، كانت ميركل كيميائيةً مطلقة في الـ35 من عمرها، وتعمل في معهد للبحوث الأكاديمية ببرلين الشرقية، وكانت قد انضمت للتو إلى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي حين اختارها كول كذلك لتأدية أكثر الوظائف صعوبةً في أول حكومةٍ للمستشار عقب إعادة توحيد ألمانيا: وزيرة المرأة والشباب، وتركت بصمةً لا تُنسى هناك بقدر البصمة التي تركتها في وظيفتها التالية وزيرةً للبيئة، وكان كول، المنشغل بتلميع إرثه والقضاء على منافسيه، يُشير إليها باسم: "تلك الفتاة".
ولكن حين وجد كول نفسه غارقاً في فضيحة تمويل حزبية عام 1999، كانت ميركل- دون عشرات الشباب المحافظ الذي كان يُحيط بالعجوز- هي من أجهزت عليه بمقالةٍ على الصفحة الأولى من صحيفة Frankfurter Allgemeine Zeitung الألمانية اليومية. إذ طالبت باستقالته كرئيس فخري للحزب، وكانت رصاصة الرحمة التي أطلقتها هذه هي السبب وراء انتخابها رئيسةً للحزب، وبعد 6 سنوات صارت أول شخصٍ من ألمانيا الشرقية، وأول امرأة تُنتخب مستشارة في عام 2005.
ووصلت ميركل إلى السلطة بينما تُلقي أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول بظلالها على الغرب، وبعد وصولها إلى السلطة وقعت سلسلةٌ من الأزمات الأوروبية والعالمية، وربما لم تكُن الإصلاحات الطموحة جزءاً من شخصيتها، لكن الإصلاحات لم تكن أولوية عصرها لحسن الحظ، وقد أظهرت ميركل أنّها مديرةٌ أكثر من كونها شخصيةً حالمة، حسب ماريون.
ورغم كل ذلك، تعتقد ماريون أنّ ميركل قد استعادت رخاء ألمانيا بفضل إصلاحات شرودر التي دعمتها ببصيرتها، حين كانت زعيمةً للمعارضة، إلى جانب إدارتها لكافة الأزمات التي وقعت في طريقها، كما حسّنت ألمانيا صورتها في عهد ميركل، لتتحوّل من دولةٍ متقشفة وغير جذابة إلى دولةٍ محبوبة، وقد أسعدت ميركل ألمانيا طيلة 16 عاماً، ويُمكن القول إنّ أهم أسرار طول بقائها في السلطة يرجع إلى تناغمها الكامل مع بلادها وعصرها، فقد كانت دائماً في المكان المناسب وفي الوقت المناسب.
قصور ألماني في التكنولوجيا
قبل جائحة كوفيد-19، شهد عصر ميركل إفاقة الاقتصاد الألماني من سباته الطويل، ليصير رابع أكبر اقتصادٍ في العالم، مع ارتفاعٍ كبير في مستويات المعيشة، وانعدام شبه تام للبطالة، وحالة فائض تاريخية في موازنات الحكومة. وكانت سياساتها الاقتصادية ملائمةً للشركات والأعمال بشكلٍ ملحوظ، ولكنها فشلت في الضغط من أجل تحقيق التكيف التكنولوجي اللازم على نحوٍ عاجل في الصناعات الرئيسية، أو تحديث البنية التحتية المادية والرقمية، وفقاً لمجلة Foreign Affairs.
وصارت ميركل المرشحة الأولى للقب "مستشارة المناخ"، بفضل دعايتها القوية لسياسات المناخ التقدمية على مستوى العالم، لكن سياساتها المحلية في المناخ غرقت في العديد من التناقضات مع سياساتها المتعلقة بالطاقة، حيث إنّ ابتعادها عن الطاقة النووية عام 2011 تسبب في زيادة اعتماد ألمانيا على الفحم. ورغم إنفاق ثروةٍ طائلة على دعم مصادر الطاقة المتجددة، فقد واجهت البلاد صعوبة في الوفاء بالتزاماتها الدولية المتعلقة بمعدلات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية.
هل تفضل أنجيلا ميركل مصالح ألمانيا على أوروبا؟
من أبرز الانتقادات التي توجه لميركل أنّها كانت ألمانيةً أكثر من كونها أوروبية، أي أنّها باختصار زعيمةٌ أنانية تهتم بالداخل أكثر من الخارج.
ويأتي هذا الانتقاد تحديداً من فرنسا- الدولة التي تزعم تفضيلها لأفكار "الأخوة والتضامن" الخيالية أكثر من الواقعية المملة لانضباط الميزانية الألماني- وعادة برلين في الإصرار على احترام نص المعاهدات التي تجمع دول أوروبا.
ولكن ماريون تساءلت: هل الأنانية هي محاولة إنقاذ شرف أوروبا بفتح الأبواب أمام أكثر مليون لاجئ، ممن تظاهر زعماء آخرون- وخاصةً الزعيم الفرنسي- بعدم رؤيتهم؟
اليونان نموذج لإرث ميركل المتأرجح
رغم قيادة أنجيلا ميركل لأغنى دول الاتحاد الأوروبي، وأكبر مساهم في ميزانيته، فإنها افتقرت إلى الجرأة اللازمة لدفع الاتحاد الأوروبي إلى الأمام.
وقد أثارت جنون أكثر من رئيسٍ فرنسي، حيث شهدت في ولايتها تنصيب أربعةٍ منهم (شيراك وساركوزي وهولاند وماكرون)، بعد أن عزفت عن الاستجابة بحسم للأزمة المالية عام 2008 وقررت بدلاً من ذلك فرض التباطؤ الذي كاد يخنق الشعب اليوناني وكلّف أوروبا ثمناً باهظاً.
تمثل أزمة اليونان نموذجاً واضحاً لإرث ميركل المتأرجح.
فلقد سبحت ميركل ضد التيار السياسي خلال الأزمة المالية عام 2008، حين أظهرت استطلاعات الرأي أنّ الألمان يعارضون بشدة عملية إنقاذ دول الاتحاد الأوروبي الغارقة في الديون، لكن عارضت حزبها والرأي العام بكل حزم حين ضغطت من أجل إرسال حزم الإنقاذ والإصرار على بقاء اليونان في منطقة اليورو.
ولكن الشروط التي فرضتها على اليونان كانت قاسية، حتى إن اليونانيين باعوا فضياتهم لمواجهة التقشف الهائل الذي عانوا منه، وبدا كأنها تهدف لمعاقبة الشعب اليوناني لتقدم تبريراً للشعب الألماني عن دفع أمواله لأثينا.
إثر ذلك تعرضت ميركل لانتقادات من صحف يونانية، حيث قارنت صحيفة "ديمقراطية" في عددها بتاريخ 9 من فبراير/شباط العام 2012 الأمر بحقبة الاحتلال والنازية.
ولقد شعرت دول جنوب أوروبا بالاستياء نتيجة سياسات التقشف المفروضة من برلين خلال أزمة منطقة اليورو، وحمّلوها مسؤولية صعود الشعبوية في أثينا وروما.
وعلى النقيض، طالبت بعض دول شمال أوروبا والبلطيق الغنية بإخراج اليونان من منطقة اليورو في أعقاب أزمة الديون، كما أغضبت دول شرق أوروبا حين رحبت باللاجئين، لذا رفضوا المشاركة في برنامج إعادة توطين على مستوى الاتحاد الأوروبي، إلى جانب اتهامها من قبل الليبراليين في جميع أنحاء القارة بغض الطرف عن تراجع الديمقراطية في بولندا، والحكم الاستبدادي الكامل في المجر.
ولكن ميركل نجحت في العديد من المناسبات أن تبني جسور الثقة وتُنهي الانقسامات الأوروبية العميقة بكل صبرٍ وهدوء، إذ قاتلت من أجل الحيلولة دون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدون صفقة، كما تحركت لدعم صندوق الاتحاد الأوروبي للتعافي من الجائحة، في مايو/أيار عام 2020، في خطوةٍ من المرجح أنّها حالت دون تفكك الاتحاد، حسبما ورد في تقرير مجلة Foreign Affairs الأمريكية.
القرار الصائب الذي دفعت ثمنه غالياً
وكان قرار ميركل بعدم إغلاق حدود ألمانيا في وجه اللاجئين عام 2015- إذ قالت حينها: "نستطيع أن نفعلها"- تصرفاً مدفوعاً بالمشاعر الإنسانية النبيلة. علاوةً على أنّه كان التصرف الوحيد المسؤول في ذلك الوقت، لأنّه خفّف ضغطاً كبيراً عن الجيران الأوروبيين الأصغر ودول البلقان.
كما أنه إضافة إلى الدوافع الإنسانية، فإن الاقتصاد الألماني كان في حاجة لليد العاملة.
ومع ذلك فإنّ التكاليف الداخلية والخارجية كانت كبيرة، إذ عانت المدن والولايات الألمانية طيلة شهور من أجل التكيف مع تدفق اللاجئين، وشعر المواطنون وكأنّ الحكومة تطلب منهم تحمل مسؤولية أكبر من اللازم بمساعدة الوافدين الجدد، كما اعترض جيران ألمانيا على أنّ قرار ميركل خلق حافزاً كبيراً لزيادة الهجرة.
والأسوأ من ذلك كله هو أنّ الأزمة غذّت صعود الحركات الإثنو-قومية بطول أوروبا وعرضها. وفي ألمانيا حوّلت الأزمة "البديل من أجل ألمانيا" من حزبٍ صغير يُشكّك في الاتحاد الأوروبي إلى قوةٍ يمينية مُتشدّدة صاعدة ومعادية للأجانب، حيث دخل المجلس التشريعي وصار زعيماً للمعارضة في غضون أربع سنوات فقط. وساد التمرد داخل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وكانت ميركل أقرب لفقدان وظيفتها من أيّ وقتٍ مضى، إذ أُعيد انتخابها عام 2017 بأسوأ نسبة تصويت لحزبها في حقبة ما بعد الحرب (33% من الأصوات الشعبية)، كما اضطرت للتفاوض على تشكيل حكومة لمدة خمسة أشهر في سابقةٍ هي الأولى من نوعها.
ولكن واقعياً بعيداً عن الضجة الشعوبية بشأن استقبال اللاجئين السوريين، فإن ألمانيا استفادت من هذه الهجرة، وبدأت تستوعبها، وقد أشادت اتحادات أصحاب الأعمال الألمانية بالتقدم الذي تَحقق في تدريب وتوظيف اللاجئين.
إذ أتقن أكثر من 10 آلاف لاجئ وصلوا إلى ألمانيا منذ 2015 اللغة بما يكفي للالتحاق بجامعة ألمانية، ويعمل أكثر من نصف اللاجئين الذين وصلوا إلى ألمانيا ويدفعون الضرائب. ومن بين الأطفال والمراهقين اللاجئين، يقول ما يزيد على 80% إنهم لديهم شعور قوي بالانتماء لمدارسهم الألمانية، وبأنهم مثل أقرانهم.
إضافة إلى ذلك، تلاشى شبح الإرهاب في السنوات الأخيرة، بعدما خشي البعض أن يصل إلى قلب أوروبا بسبب أزمة اللاجئين، وبعد سلسلة من سبع هجمات بدافع إرهابي في ألمانيا في عام 2016، التي بلغت ذروتها باقتحام شاحنة سوق عيد الميلاد في برلين في ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام، لم تشهد ألمانيا أية هجمات أخرى على مدار السنوات الثلاث الماضية.
أخطر أخطاء ميركل.. مهادنة الصين وروسيا
كما بالغت أنجيلا ميركل في تقدير القومية الاقتصادية الألمانية، وشاركت في الاتجار الدبلوماسي مع روسيا والصين، حيث يعتقد أن من أكبر أخطائها تعاملها مع الصين وروسيا كشركاء، ما أدى في النهاية إلى تقوية نفوذهما وتحولهما لسياسات عدوانية تجاه الغرب.
يبرز في هذا السياق رفض ميركل فرض عقوبات غربية قاسية على روسيا بعد احتلالها للقرم وأجزاء أخرى من شرق أوكرانيا، عام 2014، حيث تعتمد برلين على إمدادات الطاقة القادمة من موسكو، وكذلك رفض ميركل مراراً الضغوط الامريكية لوقف خط غاز السيل الشمالي، الذي يأتي إلى ألمانيا من روسيا متجنباً الأراضي البولندية والأوكرانية.
ولقد أدى ضعف الجيش الألماني إلى جعل ميركل تتردد في التصدي لموسكو كما قوّض أمن أوروبا وحلف الناتو على حد سواء.
كما عارضت ميركل لوقتٍ طويل طموحات إيمانويل ماكرون في التوزيع التبادلي للديون على مستوى أوروبا، (أي توحيد الديون الأوروبية، وهو أمر سيؤدي إلى تخفيض فوائدها بالنسبة لدول جنوب وشرق أوروبا الأفقر، بينما سيرفع فوائدها بالنسبة لدول شمال أوروبا).
ولكن مَن الذي أقنع ألمانيا في النهاية بالموافقة على دعم خطة إنعاش أوروبية ضخمة لما بعد كوفيد؟ إنّها ميركل، التي قادت ألمانيا في النهاية لثورتها الأوروبية الخاصة من وجهة نظر ماريون.
وقد جاهد محللو ميركل من أجل التوفيق بين هذه المفارقات، لكن الأمر بكل بساطة هو أنّ ميركل صاحبة الفكر التجريبي الموزون ليس لديها متسعٌ من الوقت للرؤى حين تكون أمام مشكلةٍ تحتاج إلى حل، وربما تلاعبت ببعض مبادئها من أجل السلطة، لكنها كانت أيضاً على استعداد لدفع الثمن مقابل الدفاع عن قناعتها.
ولم ينجح الكثير من أقرانها في الفوز بهذا الرصيد من رأس المال السياسي، ويُقِر المعجبون بها بأنّها رغم براعتها في اجتياز أعتى التيارات السياسية، فإنها لطالما كانت مترددةً في تشكيلها بنفسها، حسب المجلة الأمريكية.
ماذا بعد رحيل ميركل؟
ربما كلّفت ميركل أوروبا ثمناً باهظاً أحياناً بسبب أخطائها، وإخفاقاتها، وعدم مرونتها، لكن رحيلها سيمثل نقطة تحول في رأي ماريون، حيث ستترك ألمانيا في مواجهة تحديات هائلة- لا سيما أزمة المناخ- مع فرصة لكتابة صفحة جديدة من تاريخها.
وطرحت ماريون تساؤلها الأخير عن ميركل قائلةً: لماذا سأفتقدها إذن؟ ثم أجابت: لأنّ عيوبها ومميزاتها في وجهة نظري كانت تحركهما بوصلتها الأخلاقية. كما أنّ تجربتها في "البلد الذي لم يعُد له وجود" جعلتها تُقدّر أهمية القيم التي حُرِمَت منها مثل: الحرية (حتى حرية اللاجئين)، والاهتمام بالوحدة، والاحترام غير المشروط لخصومها، سواء داخل البرلمان الألماني، أو في أوروبا الشرقية، أو على الجانب الآخر من بحر المانش.
وكذلك فقد مثّل أسلوبها البعيد عن الأضواء وخطاباتها الصريحة الجانب المُعاكس للسياسات الشعبوية التي أُعيد اختراعها على يد دونالد ترامب ومهندسي بريكسيت. وكانت ميركل تُغيّر رأيها عادةً، لكنها لم تُقدم وعوداً كاذبة على الإطلاق بحسب ماريون، لأنّها لم تعِد بشيءٍ أبداً، وكانت ترى أن وظيفة الكلمات هي وصف الواقع. ورغم الألعاب البهلوانية الدبلوماسية، واعتمادها على التكتيكات وقدراتها المتوسطة، لكن ميركل تُمثّل الوجه المناقض لترامب وبوريس جونسون والشعبوية، وأكثر ما ستفتقده هو أخلاقياتها كزعيمة.
واختتمت ماريون حديثها قائلةً إنّه في عهد ميركل هيمن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي على السياسة الألمانية طيلة الـ16 عاماً الماضية، لكن الحزب صار مهزوماً مع نهاية عصرها، وبغض النظر عن الشكل الذي سيتخذه تحالف الحكم المقبل فسوف تظل الديمقراطية الألمانية ثابتةً كالصخر، وستظل ألمانيا راسخةً في قلب أوروبا. أما بالنسبة لأوروبا والعالم القلق والمضرب فإنّ رحيل ميركل سيمثل خسارةً لمنارة الأمل المُطَمئِنة.
والآن على قادة أوروبا وألمانيا، وحتى الدول الكبرى خارج القارة، الذين تعوّدوا على تصعيد خطابهم وإطلاق التهديدات، قبل أن تجد ميركل بخلطة "الأم الحنون" والحازمة في الوقت ذاته حلولاً وسطاً بينهم، عليهم أن يتعودوا على غياب هذه المرأة التي كانت تستوعب ادعاءاتهم الذكورية المتغطرسة التي يمارسونها في السياسة، وعليهم أن يجدوا الحلول الوسط بدون "ماما ميركل" التي لطالما انتقدوها.
كما ستعاني أوروبا كثيرًا في ظل غياب دور ميركل كعاملة إطفاء للحرائق التي يفتعلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والتي كانت تقوم عادة بإخمادها بهدوء، دون إحراج شريكها الفرنسي.