كان الرئيس السابق دونالد ترامب عنيداً ومتقلب المزاج واتخذ قرارات وصفت أمريكياً بأنها "كارثية"، مثل قرار سحب القوات من سوريا، لكن الانسحاب من أفغانستان كشف أن الرئيس الحالي بايدن أكثر عناداً من سلفه.
ولا يزال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يلقي بظلاله بشكل قاتم على وضع الرئيس جو بايدن داخلياً وخارجياً، مع عودة ترامب للأضواء مرة أخرى بقوة وإظهار استطلاعات رأي كثيرة أن الرئيس السابق يتقدم على خليفته في البيت الأبيض، بمعنى أنه لو أقيمت الانتخابات اليوم لفاز ترامب على بايدن.
ويمكن القول إن الانسحاب الفوضوي من أفغانستان لم يكن الواقعة الوحيدة التي فتحت باب المقارنات بين بايدن وترامب على مصراعيه، إذ على الرغم من الاختلاف الكبير في لغة كل منهما، فإن كثيراً من القرارات التي اتخذها بايدن قد كشفت بشكل عملي عن أنه لا يوجد اختلاف بين سياسات كل منهما، بحسب كثير من المحللين والسياسيين داخل أمريكا وخارجها.
وربما تكون مبادرة "أوكوس" أو "طعنة الغواصات" التي وجهتها إدارة بايدن مؤخراً لفرنسا، وهي حليف للولايات المتحدة، هي القشة التي قصمت ظهر البعير فيما يتعلق ببايدن ومدى اختلافه عن ترامب، إذ وصف وزير الخارجية الفرنسي إلغاء أستراليا لصفقة غواصات فرنسية واستبدالها بصفقة غواصات أمريكية وبريطانية بأنها "تصرف يليق بإدارة ترامب".
ماذا حدث في قرار ترامب بشأن سوريا؟
مجلة The National Interest الأمريكية نشرت تحليلاً شمل مقارنة بين قرارين متعلقين بانسحاب أمريكا وتداعيات ونتائج كل منهما، الأول من سوريا وكان ترامب قد اتخذه، والثاني من أفغانستان ونفذه بايدن، كاشفة كواليس القرارين وموقف الرئيسين من توصيات المؤسسة العسكرية والأمنية.
ففي ديسمبر/كانون الأول 2018، أعلن الجنرال الأمريكي جيمس ماتيس استقالته من رئاسة وزارة الدفاع الأمريكية. ومع أن خطاب استقالته لم يورد سبباً محدداً لها، فإن الشائع هو أنه فعل ذلك بعد سخطه لفترة طويلة على طريقة التعامل التي انتهجها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مع الشؤون العسكرية للبلاد. وقد كانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي إعلان ترامب في ديسمبر/كانون الأول 2018 عن أمره بانسحاب جميع القوات الأمريكية من سوريا.
ووقتها مُدح الجنرال ماتيس ووُصفت مغادرته لمنصبه بأنها فعلٌ ينمُّ عن حنكةٍ سياسية. وحتى يومنا هذا، ظل ماتيس صامتاً إلى حد كبير عن الخوض فيما حدث، وكان تصريحه الأساسي أنه فعل ذلك مدفوعاً بقناعاته ومنطلقاً من شعوره بالواجب.
بعد استقالة ماتيس، أقنع البنتاغون الرئيسَ الأمريكي ترامب بإعادة النظر في مسألة الانسحاب الأمريكي من سوريا برمتها. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، تراجع ترامب واختار انسحاباً أضيق نطاقاً، وقرر سحب القوات فقط من شمال سوريا على طول الحدود التركية السورية. كما سمح للقوات الأمريكية بالانتشار بأعداد محدودة في حقول النفط الواقعة شمال شرق سوريا، والأقرب إلى الحدود العراقية.
هذا الانتشار الاستراتيجي المستمر للقوات الأمريكية أجبر رئيس النظام السوري بشار الأسد وروسيا حتى يومنا هذا على مراقبة القوات الأمريكية داخل الحدود السورية بحذر.
وفي الوقت نفسه، لم يؤد خروج القوات الأمريكية من منطقة الحدود السورية التركية، وفقاً لأوامر ترامب، إلى مذابح كردية كما كان مزعوماً على نطاق واسع أنه سيحدث وكما كان كثير من المعارضين للقرار يخشون، ولا أدَّى الانسحاب إلى عودة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، أو إلى انجراف شامل لمقاتلي المعارضة في مستنقع الحرب الأهلية السورية.
بايدن وقرار الانسحاب من أفغانستان
وفي أبريل/نيسان 2021، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه أمر بانسحاب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر/أيلول 2021. ويشيع على نطاق واسع افتراضٌ بأنه مضى في ذلك القرار بالمخالفة لتوصيات من أفضل قادة جيشه.
إذ تشير تسريبات صحفية إلى أن قائد القوات الأمريكية في أفغانستان، الجنرال سكوت ميللر، الذي تقاعد بهدوء في يوليو/تموز 2021، كان قد نصح خلال جلسة استماع سرية أمام لجنة شؤون القوات المسلحة بالكونغرس بعدم اتخاذ خطوة الانسحاب الأمريكي الكامل، ودعا بدلاً منها إلى استمرار محدود للقوات الأمريكي هناك.
بالإضافة إلى ذلك، لا أحد يعتقد أن وزير الدفاع الأمريكي الحالي، لويد أوستن، الذي كان القائد السابق للقيادة المركزية الأمريكية "سينتكوم" CENTCOM التي تخضع أفغانستان لنطاقها العسكري، ولا الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، الذي خدم أربع جولات في أفغانستان، كانا مؤيديْن لخطة بايدن.
وأدَّى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان إلى كارثة إنسانية وأزمة سياسية خارجية للولايات المتحدة، فقد هزمت طالبان المؤسسة العسكرية الأمريكية وحليفتها الأفغانية هزيمة ساحقة، وسيطرت على البلاد بأكملها على الرغم من أن الهدف المزعوم لوجود الولايات المتحدة لمدة 20 عاماً في البلاد كان بالأساس الحيلولة دون هذا الانتصار وعودة أفغانستان إلى سيطرة طالبان.
كما أن الانسحاب الأمريكي الكارثي نجم عنه تدهور شديد لعلاقات الولايات المتحدة مع حلفائها في الناتو، بسبب الإخفاق الدبلوماسي في تنسيق عملية مغادرة أفغانستان مع الحلفاء تنسيقاً أكثر فاعلية. بالإضافة إلى أن ما اعتبره بعض الناس تخلياً أمريكياً عن أفغانستان شكَّك في مدى تصميم الولايات المتحدة على حماية حلفائها وقدر التزامها بذلك.
وأشار آخرون إلى حقيقة أن الجيش الأمريكي، مع قضائه عقدين من الزمان وإنفاقه تريليونات الدولارات، فشل برنامج التدريب الذي صممه أبرز مفكريه في غرس النوازع الأساسية في الجيش الأفغاني للقتال بمفرده دون دعم الولايات المتحدة. ويضاف إلى كل ذلك الانتقاص لموثوقية الجيش الأمريكي ووكالات الاستخبارات التي لم تحسب حساباً أكبر لاحتمال الانهيار الفوري للقوات الأفغانية عند أي مغادرة سريعة وشاملة للولايات المتحدة.
لماذا لم يتعرض بايدن للعزل؟
تراجع ترامب عن قرار الانسحاب الكامل لقواته بعد استقالة وزير دفاعه ماتيس. على الخلاف من ذلك، دفع بايدن إلى تعجيل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، بصرف النظر عن التوصيات العسكرية الواردة من قادته البارزين.
ويقول بعض الخبراء إنه لو كان ترامب هو الرئيس واتخذ الإجراء الذي اتخذه بايدن وآل الأمر به إلى نفس النتائج الكارثية، لكان من المحتمل أن يكون الكونغرس بصدد الاستعداد لمحاولة ثالثة لعزل ترامب.
ترك الانسحاب الفوضوي لإدارة بايدن من أفغانستان القيادةَ العسكرية الأمريكية في موقف لا تحسد عليه. فعلى مدار عشرين عاماً، قاد نحو 10 جنرالات أو أكثر الحملة العسكرية الأمريكية في أفغانستان. وإبان تسليم كل منهم القيادة لخليفته في المنصب، كانوا جميعهم يتحدثون عن تقدم أساسي مستمر في بناء الجيش الوطني الأفغاني وقدراته، لكن أياً من هؤلاء القادة لم يحذر في جلسات الشهادة أمام الكونغرس على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية، من أن الجيش الأفغاني كان يعتمد اعتماداً خطيراً على الدعم الأمريكي وأنه قد ينهار انهياراً تاماً إذا انسحب المستشارون العسكريون الأمريكيون والقوات الجوية الداعمة انسحاباً عاجلاً لأي سبب ما.
ربما تكون البداية المناسبة للشروع في مساءلة بشأن ما حدث، على غرار ما حدث بعد الانسحاب الأمريكي من فيتنام، هو عقد اجتماع مع هؤلاء القادة العسكريين حتى يتمكنوا من تقييم الأمور بصراحة فيما بينهم، وللكونغرس، وللإجابة عن لماذا لم تسفر استراتيجية الولايات المتحدة، رغم ما تُرك لها من فترة طويلة في أفغانستان، عن نتيجة أفضل مما حدث.
كما سيتعين عليهم شرح الأسباب التي جعلتهم لا يدركون، على مدى تلك السنوات الممتدة، أيَّ ثغرات في برامج التدريب الأمريكية قد تساعد في تفسير عجز الجيش الأفغاني عن التماسك بمفرده، بعد عقدين من التوجيه والتدريب الأمريكي له.
بالإضافة إلى ذلك، فإن إصرار بايدن على الانسحاب الشامل من أفغانستان يجبر البنتاغون على مواجهة المهمة التي تقاعس عنها بإعادة تقييم دوره في مجال الأمن القومي، فعندما يرفض رئيس ما اتباع توصيات أبرز قادته العسكريين والمدنيين، وينتج عن ذلك كارثة، فإن الجيش هو الجهة التي تقع عليها مسؤولية جمع شتات الأمور والمثابرة لئلا تنفلت الأوضاع.
ولعله من المناسب هنا الإشارة مرة أخرى إلى ما فعله وزير الدفاع السابق ماتيس، إذ عندما واجه موقفاً شبيهاً في عهد ترامب، قرر أن أفضل خيار شخصي له هو الاستقالة، وهي مبادرة ساعدت في النهاية إلى تغيير الوجهة التي كان ترامب عازماً عليها في سوريا.
فات الأوان على تغيير ما حدث في أفغانستان، وربما يرى بعض الخبراء أن الأسوأ من ذلك أنه من غير الواضح ما إذا كانت استقالة مدنية أو عسكرية رفيعة المستوى في الوقت المناسب كانت ستُحدث أي فرق أو تدفع بايدن بما يكفي لحمله على الموافقة على خطة انسحاب أكثر محدودية.
خلاصة القول إن أوامر الانسحاب الكامل من أفغانستان التي أصدرها بايدن كشفت نقاط ضعف أساسية في كيفية إدارة الحرب في أفغانستان من الناحية الاستراتيجية. والآن، يقع على الجيش الأمريكي وغيره البحث لمعرفة الأخطاء التي ارتُكبت. كما أن الكونغرس والكليات العسكرية والمؤرخين العسكريين يلزمهم العمل كثيراً لتبيُّن ما حدث والسعي إلى عدم تكراره مرة أخرى.