كانت الصين الشريك التجاري الأول لأستراليا حتى ظهر فيروس كورونا وأفسد العلاقات بين بكين وكانبيرا لدرجة الحرب الاقتصادية وربما ما هو أسوأ، فكيف استفادت الجزائر ودول إفريقية أخرى؟
مع ظهور فيروس كورونا نهاية عام 2019 وتحوله إلى جائحة عالمية لا تزال تلقي بظلالها على جميع الدول حتى اليوم، تحولت العلاقات التجارية المتميزة بين الصين وأستراليا إلى حرب اقتصادية شعواء؛ إذ كانت أستراليا أول بلد يدعو رسمياً وعلناً إلى إجراء تحقيق من قبل منظمة الصحة العالمية في مصدر الفيروس.
كانت الإشارة واضحة إلى الصين، واتهاماً مبطنً بأن بكين قد تكون وراء "تصنيع" هذا الفيروس في أحد مخابرها بمدينة ووهان، ما أثار جنون التنين الأصفر الذي أعلن حرباً اقتصادية على أستراليا.
فقد فرضت بكين تعريفات جمركية ضخمة على الشعير الأسترالي، وأوقفت بعض واردات اللحوم الأسترالية، واستمرت في التصعيد الاقتصادي بصورة جعلت كانبيرا تعتبر ما يحدث ضغوطاً للتخلي عن موقفها الخاص بضرورة الكشف عن أصل فيروس كورونا.
الصين تستورد الحديد من أستراليا
لكن السلعة الوحيدة التي أفلتت من غضب بكين تجاه كانبيرا كانت الحديد؛ إذ تستورد الصين من أستراليا نحو ثلثي وارداتها من خام الحديد، وتستهلك منه أكثر من مليار طن سنوياً، لتلبية صناعاتها المتزايدة ومشاريعها العملاقة في العقار والأشغال العمومية والبنية التحتية، ما يجعلها أكبر مستورد للحديد الخام في العالم.
لكن الصين بدأت على الفور التفكير في كيفية تأمين بديل للحديد الأسترالي بشكل ملفت للانتباه، فتوجهت نحو استثمار مليارات الدولارات في مناجم الحديد بالجزائر وغينيا، واستيراد الحديد الخام من موريتانيا، لينطبق المثل "مصائب قوم عند قوم فوائد".
وتستوعب السوق الصينية نحو 40% من الصادرات الأسترالية، لكن هذه النسبة ترتفع بشكل ضخم عندما يتعلق الأمر بخام الحديد الذي يمثل نحو 66% من واردات الصين من هذا المعدن، بحسب تقرير للأناضول.
واستوردت بكين في 2019، حوالي 1.07 مليار طن من خام الحديد، منها 664.57 مليون طن من أستراليا، بقيمة 63 مليار دولار سنوياً (بينما تبلغ جملة صادرات الحديد الأسترالية 96.5 مليار دولار).
ومن المهم هنا توضيح أن الأزمات السياسية بين الصين وأستراليا لم تبدأ بسبب اتهامات كانبيرا المبطنة لبكين بتصنيع فيروس كورونا في معمل ووهان، فالبلدان خصمان من الأساس، لكن تلك الخصومة لم تؤثر على التبادل التجاري بينهما بتلك الصورة العنيفة من قبل.
فقد استعرت الأزمة السياسية بين البلدين، بسبب انتقاد كانبيرا علناً ما وصفته "فشل الصين في الوفاء بالتزاماتها تجاه هونغ كونغ وشينجيانغ (تركستان الشرقية، حيث حملة بكين لقمع أقلية الإيغور المسلمة)"، بالإضافة إلى حرمانها العملاق الصيني للهواتف النقالة "هواوي" من بناء شبكة الجيل الخامس بالبلاد.
وكانت أستراليا قد أقرت في 2018 قانوناً يمنع تمويل الأحزاب السياسية من دول أجنبية، وكانت الصين على رأس القائمة من حيث حجم التبرعات بنسبة 80%، بحسب أنطوان بونداز، الباحث الفرنسي المتخصص في القضايا الاستراتيجية في شرق آسيا.
ثم جاءت اتفاقية "أوكوس" بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة، التي شملت استبدال أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية التقليدية بأخرى أمريكية ذات الدفع النووي لتزيد الطين بلة، مع تحذير صحف صينية بأن هذه الصفقة تهدد المنطقة بحرب نووية.
إفريقيا تقدم بديلاً للحديد الأسترالي
وسرعان ما تحولت الأزمة السياسية المتراكمة إلى حرب إعلامية ثم اقتصادية، حيث سعت الصين لكبح الصادرات الأسترالية إلى أسواقها على غرار الفحم ولحوم الأبقار والنبيذ والقطن والنحاس، إلا أنها استثنت الحديد الخام من العقوبات.
والسبب بالطبع هو أن الصين لم تجد بديلاً سريعاً للحديد الأسترالي بالكميات الكبيرة التي تحتاجها أسواقها، ما زاد الطلب على هذا المعدن في السوق الدولية وارتفعت أسعاره.
وفي ظل رغبة الصين في معاقبة أستراليا بتخفيض حجم صادراتها إلى أسواقها (أكثر من 153 مليار دولار)، وعلى رأسها الحديد الخام، فقد وجدت ضالتها في إفريقيا.
حيث اتجهت الصين إلى غينيا، في غرب إفريقيا، التي اكتشف بها أحد أكبر مناجم الحديد في القارة السمراء، بمنطقة تسمى سيماندو (جنوب) قرب الحدود مع سيراليون، باحتياطي يبلغ 2.4 مليار طن.
وقررت مجموعة من الشركات الصينية استثمار 9 مليارات يورو في سيماندو، في 2019، بعد أن حصل كونسورتيوم تتزعمه الشركات الصينية على رخصة استغلال لجزء من المنجم، الذي شهد منافسة شرسة وأحياناً غير نزيهة بين عدة شركات فرنسية وإسرائيلية وبريطانية وأسترالية.
إلا أن انقلاب عقيد في الجيش موالٍ لفرنسا، في سبتمبر/أيلول الجاري، على الرئيس ألفا كوندي، المقرب من الصين، يهدد مصالح الأخيرة في سيماندو.
كيف استفادت الجزائر؟
في 30 مارس/آذار الماضي، نجح تحالف ثلاث شركات صينية في التوقيع على مذكرة تفاهم مع الجزائر لاستغلال منجم الحديد بغار جبيلات (جنوب غرب) الذي يعتقد أنه أكبر منجم في إفريقيا، ومن بين أكبر ثلاث مناجم في العالم باحتياطي يبلغ 3.5 مليار طن.
ورغم أن دراسات سابقة تحدثت عن استثمارات تتراوح ما بين 10 و20 مليار دولار لاستغلال منجم غار جبيلات بكل مرافقه (سكك حديدية، مصنع للحديد والصلب…)، إلا أن الصين تمكنت من تقليص الفاتورة إلى ملياري دولار فقط، مقسمة على ثلاث مراحل، بحيث يقوم المشروع بتمويل نفسه ذاتياً بعد استكماله.
لكن الكميات التي ستستخرج من غار جبيلات تتراوح ما بين 10 إلى 50 مليون طن بعد استكمال جميع المراحل في آفاق 2025، وهي أقل بكثير من أن تغطي احتياجات الصين (مليار طن)، فضلاً على أن جزءاً هاماً من الحديد الجزائري سيذهب لتغذية مصانع الفولاذ في البلاد، ما يقلص حجم الصادرات.
الخيار الآخر لبكين، التوجه إلى موريتانيا التي تعتبر ثاني أكبر مصدر لخام الحديد في القارة السمراء بعد جنوب إفريقيا. وبحسب الباحث الموريتاني المختص في الشأن الصيني، يربان الخرشي، فإن الخارجية الصينية تنشر على موقعها، أن احتياطي موريتانيا من خامات الحديد يصل إلى 8.7 مليار طن، ما يجعلنا في المرتبة الخامسة عالمياً.
لكن الاهتمام الصيني بالحديد الموريتاني ليس جديداً، فمنذ 2009، أصبحت الصين المستورد الأول له، بل استحوذت على 70% من صادرات البلاد لهذا المعدن الذي يوجد رفقة صادرات الأسماك، المصدر الأول للعملة الصعبة.
ومع قرب مناجم الحديد الموريتانية بمنجم غار جبيلات الجزائر، قد نشهد مستقبلاً ربط المشروعين بخطوط سكك حديدية وبمصانع الصلب في الجزائر وبموانئ التصدير غرب موريتانيا أو شمال الجزائر في إطار "طريق الحرير" الصيني.
إلا أن موريتانيا، الواقعة ضمن النفوذ الفرنسي والأمريكي، تتردد في بناء شراكة استراتيجية شاملة مع الصين، لتفادي المصير الذي آل إليه ألفا كوندي في غينيا.
إجمالاً، فإن الخلاف الصيني الأسترالي خدم دول شمال وغرب إفريقيا؛ حيث سهل دخول استثمارات بالمليارات لاستغلال مناجم الحديد، ما سيقوي البنية التحتية في هذه المناطق النائية سواء من خلال تشييد سكك حديدية وموانئ ومحطات كهرباء ونقل الغاز والمياه لهذه المناطق.
كما سيوفر لها التقنية والخبرة في استخراج المعادن وتحويلها إلى مواد نصف مصنعة، ناهيك عن أن ارتفاع الطلب الصيني على الحديد الخام ساعد في تحسن الأسعار مما يجعل هذه المشاريع ذات جدوى من الناحية الاقتصادية.