كانت خلافة المستشارة أنغيلا ميركل قضية رئيسية استغرقت وقتاً حتى حسمت لصالح آرمين لاشيت، لكن نتائج الانتخابات قلبت الأوضاع السياسية رأساً على عقب وربما تؤدي إلى تأجيل "الوداع الأخير".
فقد فاز الحزب الديمقراطي الاشتراكي برئاسة أولاف شولتس بالمركز الأول في الانتخابات العامة الألمانية، بينما جاءت كتلة ميركل المحافظة، التي تضم تحالف حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، في المركز الثاني، بحسب النتائج التي نشرتها لجنة الانتخابات صباح اليوم الإثنين 27 سبتمبر/أيلول.
وحل حزب الخضر في المرتبة الثالثة في الانتخابات بينما جاء الحزب الديمقراطي الحر (ليبرالي) رابعاً، وحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف خامساً، بينما جاء حزب اليسار دي لينك في مؤخرة الأحزاب الفائزة.
زلزال سياسي في ألمانيا
على الرغم من التقارب في النتائج بين الحزب الديمقراطي الاشتراكي الفائز بنحو 26% من الأصوات في الانتخابات التي أجريت الأحد 26 سبتمبر/أيلول، مقابل نحو 25% لتحالف ميركل (حزبي الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي)، إلا أن تلك النتيجة لم تكن متوقعة وتمثل زلزالاً سياسياً لم تشهده ألمانيا منذ 16 عاماً.
وسبب هذا التوصيف أن ألمانيا ظلت تمثل صخرة للاستقرار السياسي في أوروبا طيلة عهد المستشارة ميركل، لكن نتائج هذه الانتخابات أفرزت مشهداً غامضاً سيجعل مفاوضات تشكيل ائتلاف حكومي في غاية الصعوبة، ناهيك عن تحديد خليفة ميركل المحتمل.
فخلال الأعوام الـ16 السابقة، كانت ميركل تقود تحالفاً مريحاً بين الاشتراكيين والمحافظين (أصحاب المركزين الأول والثاني في الانتخابات الحالية)، ومن ثم كانت تتوفر أغلبية برلمانية مريحة سمحت لألمانيا بعدم السقوط في فخ الاضطرابات السياسية التي تعاني منها غالبية الدول الأوروبية.
لكن بعد هذا التفوق المفاجئ للاشتراكيين برئاسة شولتس وزير المالية الحالي في حكومة ميركل، لا يضمن لهم وراثة منصب ميركل بشكل تلقائي لأن الحزب سيحتاج إلى تشكيل ائتلاف حكومي يضم على الأقل حزبين آخرين معه هما الخضر والليبراليون لضمان أغلبية مريحة.
ويواجه هذا الطموح عدم استسلام المحافظين وإعلان أرمين لاشيت مرشح المحافظين أن الانتخابات بمثابة "سباق محتدم"، وإشارته إلى أن المحافظين ليسوا مستعدين بعد للتنازل عن السلطة.
ولم يسبق للمحافظين بقيادة ميركل أن سجلوا نسبة تقل عن 30% في أي انتخابات عامة سابقة، وبالتالي فإن النتائج هذه المرة تعتبر انتكاسة قوية لمعسكر ميركل في وقت تستعد فيه للانسحاب من الحياة السياسية.
لكن في ظل عدم تحقيق أي من الحزبين أغلبية كبيرة وممانعتهما تكرار "ائتلافهما الكبير" الذي لم يكن مستقراً خلال السنوات الأربع الماضية، فإن النتيجة المرجحة ستكون تحالفاً ثلاثياً بقيادة أيهما.
اختيار خليفة ميركل قد يستغرق شهوراً
لكن الآن قد يستغرق الاتفاق على تحالف حكومي جديد في ألمانيا شهوراً طويلة، وهو ما يعني أن اختيار خليفة ميركل في منصب المستشارية قد يتأخر، ففي ألمانيا لا يختار الناخبون مباشرة المستشار بل نواب البرلمان بعد أن تتشكل غالبية حكومية وليس قبل ذلك.
ويبدو التوصل إلى غالبية معقداً جداً هذه المرة؛ لأنها ينبغي أن تشمل ثلاثة أحزاب وهو أمر غير مسبوق منذ 1950 بسبب تشرذم الأصوات، وهذا جعل مجلة "دير شبيغل" تختار عنواناً لافتاً لتغطية نتائج الانتخابات هو "لعبة البوكر بدأت"، مضيفة "بعد التصويت تبقى الأسئلة الرئيسية مفتوحة: من سيتولى منصب المستشار؟ ما طبيعة التحالف الذي سيحكم البلاد في المستقبل؟"، بحسب تقرير لموقع دويتش فيله.
ونظراً لكون ميركل تتولى منصب المستشارة منذ 16 عاماً وبها ارتبطت ألمانيا أقوى قوة اقتصادية في أوروبا، فإن اختيار من يخلفها أمر تنتظره القوى الكبرى وليس الألمان فقط، وقد نشرت مجلة Politico الأمريكية تقريراً بعنوان "الانتخابات تضع ألمانيا في مأزق"، رصد تأثير النتائج على اختيار خليفة ميركل.
"يبدو أن ألمانيا لن تقول وداعاً ميركل في وقت قريب"، بحسب تقرير المجلة الأمريكية الذي رصد تأثير النتائج المتقاربة على تشكيل الائتلاف الحكومي ومن ثم اختيار المستشار الذي سيخلفها.
وحتى تتضح الصورة أكثر بشأن مدى تعقيد الأمر، لم يتم التوصل إلى الائتلاف الحكومي في أعقاب الانتخابات العامة الماضية عام 2017 إلا بعد ستة أشهر كاملة من ظهور النتائج، وهو ما أدى إلى شلل سياسي في ألمانيا ولا سيما على صعيد القضايا الأوروبية.
صحيح أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي والاتحاد المسيحي الديمقراطي أكدا أنهما يسعيان إلى البت في أمر الحكومة قبل عيد الميلاد بسبب تولي ألمانيا رئاسة مجموعة السبع مطلع العام المقبل، إلا أن ذلك لا يعني أن التوصل إلى تشكيل ائتلاف حكومي قد يتم بالفعل خلال ثلاثة أشهر.
ففي ظل النتائج الحالية، ثمة حلول عدة ممكنة للحصول على الغالبية المطلوبة في البرلمان الألماني الذي سيضم عدداً قياسياً من النواب يبلغ 735 أي أكثر بـ137 مما كان عليه العدد قبل أربع سنوات، بحسب ما أعلنته اللجنة الانتخابية.
إذ يمكن أن يتحالف الاشتراكيون الديمقراطيون (206 نواب) مع الخضر الذين حلوا في المرتبة الثالثة بحصولهم على 14.8% (118 نائباً) والليبراليين في (الحزب الديمقراطي الحر) الذي حصد 11.5% من الأصوات (92 نائباً). كما يمكن للمحافظين (196 نائباً) أن يشكلوا الحكومة مع الخضر والليبراليين.
وقال شولتس مرشح الحزب الديمقراطي الاشتراكي لمنصب المستشار أمام أنصاره المبتهجين: "نحن متقدمون في جميع استطلاعات الرأي"، وأضاف شولتس البالغ من العمر 63 عاماً: "إنها رسالة مشجعة وتفويض واضح للتأكد من تشكيل حكومة ذات نهج عملي وتتسم بالفاعلية من أجل ألمانيا".
لكن مرشح المحافظين لاشيت حاول اجتذاب الأحزاب الصغيرة بقوله: "لم يكن المستشار دائماً من الحزب صاحب المركز الأول. أريد حكومة كل شريك فيها له دور وظاهر لا حكومة تُسلط الأضواء فيها على المستشار فحسب".
الاشتراكيون.. عودة غير متوقعة للحزب الأقدم
أظهر استطلاع للرأي نشر نتائجه معهد يوغوف مساء الأحد أن غالبية الناخبين الألمان يحبذون تحالفاً بين الاشتراكيين والخضر والليبراليين يتولى بموجبه شولتس منصب المستشار خلفاً لميركل، لكن ذلك مرهون بإرادة الخضر والليبراليين الذين وصفتهما صحيفة "بيلد" بأنهما "صناع ملوك".
ولا يعتبر الحزب الاشتراكي الديمقراطي غريباً على أن يقود الحكومة ويتولى زعيمه منصب المستشار، فالحزب هو أقدم هيئة سياسية في ألمانيا، ويعود تاريخ تأسيسه إلى 1875. وخلال الحقبة النازية، تم منعه من العمل السياسي وكان من بين القوى التي دفعت ثمناً غالياً خلال هذه المرحلة السوداء من تاريخ البلاد، إذ لقي عدد كبير من أعضائه حتفهم في معسكرات الاعتقال أو فضلوا الغربة بعيداً عن جحيم القمع الوحشي النازي.
وبعد الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية، احتل الحزب مكانه الطبيعي في المعارضة كأول قوة سياسية إلى حدود 1966، وهو تاريخ دخوله في ائتلاف حكومي مع حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي (حزب ميركل) برئاسة المستشار كورت غيورغ كيسنغر.
وفي 1969 تولى الحزب الاشتراكي لأول مرة منصب المستشار الذي احتله فيلي براندت حتى 1974 ثم خلفه "رفيقه" هلمودت شميدت حتى 1982. أما آخر مستشار من هذا الحزب فقد كان غيرهارد شرويدر، الذي تولى المنصب من 1998 حتى عام 2005. ثم جاءت ميركل لتسيطر على السلطة في ألمانيا بفضل الشعبية الكبيرة التي كانت تتمتع بها، واكتفى الاشتراكيون بالدخول معها في ائتلافات.
وقال الإعلامي المختص في الشأن الألماني محمد مسعاد لموقع فرانس24 إن نتائج الانتخابات الحالية "تجسد عودة قوية" للاشتراكيين، خاصة أن الكثير من المراقبين كانوا يعتقدون أنهم انتهوا مع انتشار الأفكار الشعبوية (اليمين المتطرف) سواء في ألمانيا أو غيرها من بلدان العالم، والتي "تراجع أصحابها كثيراً" ممثلين في حزب "البديل من أجل ألمانيا"، الذي تراجع، من المركز الثالث في الانتخابات الماضية، إلى المركز الخامس هذه المرة.
لكن الآن سيكون على الاشتراكيين الدخول في معركة جديدة مع المحافظين للفوز بمنصب المستشار، فعلى الرغم من أنه تلقى هزيمة تاريخية واحتل المرتبة الثانية، إلا أن حزب ميركل يسعى للاحتفاظ بمنصب المستشار، ويعمل جاهداً على تشكيل ائتلاف حكومي بقيادته.
ويفسر مسعاد هذا المشهد السياسي قائلاً: "الخريطة السياسية في ألمانيا ستجد نفسها ولأول مرة في تاريخ البلاد مضطرة إلى تشكيل تحالف حكومي ثلاثي في البوندستاغ، أي البرلمان، اللهم إلا إذا ما حصل نوع من (البلوكاج) كما وقع قبل أربع سنوات، ليتم تشكيل ما يسمى في ألمانيا بالتحالف الكبير بين الاشتراكيين والمحافظين.
غير أن الأنظار هذه المرة تتوجه للحزبين الليبيرالي والخضر، إذ ستعود لهما الكلمة الأخيرة في حسم الغلبة للاشتراكيين أو المحافظين. فهل سيغلبان كفة الاشتراكيين أم سيعليان من حظوة المحافظين".
قد يفشل الاشتراكيون في نسج ائتلاف يمنحهم قيادة حكومة جديدة، لكن، بحسب مسعاد، يبقى ما حققوه من نتائج في هذا الاستحقاق إنجازاً كبيراً بل "تاريخياً وعودة قوية لأقدم حزب سياسي في ألمانيا إلى المشهد السياسي، بفضل براغماتية ورزانة مرشحه أولاف شولتز".
هل يصبح "الروبوت" خليفة لميركل؟
يحتل شولتس حالياً منصب نائب ميركل ووزير المالية، لكنه يعتبر أحد الكوادر الأقل تقديراً تاريخياً من قبل قاعدة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ورغم ذلك ينسب له الفضل في هذه العودة التاريخية للاشتراكيين.
لكن كثيراً من المراقبين اعتبروا فوز حزب شولتس مجرد حسن حظ بحت، إضافة إلى الأخطاء الفادحة التي ارتكبها خصومه السياسيون، فقد ارتكب منافسه لاشيت خطأ إعلامياً فادحاً خلال الفيضانات الكارثية التي شهدتها ألمانيا في منتصف شهر يوليو/تموز عندما نشر صورة له في عين المكان بدا فيها بمظهر المرح؛ ما أثار موجة انتقادات ضده. أما بالنسبة لبطلة حزب الخضر أنالينا بربوك، فقد تعثرت في مسألة سيرة ذاتية مفبركة وسرقة أدبية في تأليف كتابها الأخير.
وتتفق وسائل الإعلام الأنغلو ساكسونية على وصف شولتس بأنه "أكثر سياسي ممل في العالم"، كما يواجه شولتز من حيث الحضور والكاريزما نوعاً آخر من الانتقادات، إذ يطلق عليه منذ فترة طويلة لقب "شولزومات"، وهي اختصار بين اسمه وكلمة "آلي"، بسبب هوسه في الرد مثل الروبوت على الأسئلة. "إنه السياسي النموذجي الذي يفكر جيداً، لكنه يتواصل بشكل ضعيف"، كما وصفته مجلة دير شبيغل.
ويُطلق على أولاف شولتز أيضاً لقب "ميركل" على شبكات التواصل الاجتماعي، كما تسميه بعض وسائل الإعلام الآن "فاتي" ("أبي")، في إشارة إلى "موتي" ("أمي") ، اللقب الشهير لميركل.
واستغل شولتز منصبه كوزير للمالية في حكومة ميركل ليظهر كزعيم سياسي قادر على مواجهة الأزمات، وبهذه الطريقة أصبح نائب المستشار رجلاً "مهما كان الثمن" بالنسبة للألمان في تعامله مع جائحة فيروس كورونا، كما تعهد بالإنفاق ببذخ لتعويض ضحايا فيضانات يوليو/تموز.
وكان شولتز المصنف اليوم على أنه يميني اشتراكي ديمقراطي قد اضطر لتقديم الاستقالة من الحزب في نهاية عام 2004، وكتبت صحيفة شبيغل في عام 2007: "لقد كان أول ضحية سياسية لإصلاحات غيرهارد شرودر".
وسجل ذاك العام عودة شولتز عندما أصبح آنذاك وزيراً للعمل في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة ميركل، إذ سعى، دون جدوى، لاستعادة صورته الاجتماعية الديمقراطية من خلال انتقاد السياسات المنتهجة من المستشارة ميركل في هذا المجال، والنضال من أجل مراجعة الحد الأدنى للأجور.
وفي عام 2011، فاز بمنصب عمدة هامبورغ واعتنى بالسياسة المحلية حتى استدعته ميركل ليصبح وزيراً للمالية ونائباً للمستشار في عام 2018. في هذا المنصب، لم ينجُ من مقارنته بسابقه وولفغانغ شوبل، الذي اشتهر بأنه حارس معبد أرثوذكسية الميزانية الأوروبية. لكن أولاف شولتز قرر أن ينفرد بهذه العقيدة، ما أثار استياء شركاء ألمانيا الأوروبيين الذين سرعان ما أطلقوا عليه اسم "وولفجانج شولز".