خرج الآلاف إلى شارع الحبيب بورقيبة رافعين شعار "ارحل" في وجه الرئيس قيس سعيّد بعد إصرار الأخير على احتكار السلطة في تونس، فإلى أين تتجه الأمور في مهد ثورات الربيع العربي؟
كان الرئيس التونسي قيس سعيّد قد قرر فجأة يوم 25 يوليو/تموز الماضي إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، متولياً بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة قال إنه سيعين رئيسها، كما قرر تجميد اختصاصات البرلمان لمدة 30 يوماً، ورفع الحصانة عن النواب، وقرر ترؤس النيابة العامة، ولاحقاً أصدر أوامر بإقالة مسؤولين وتعيين آخرين.
وفي ذلك الوقت، كانت الأوضاع في تونس قد أصابت غالبية التونسيين بخيبة أمل واضحة في الأحزاب السياسية والبرلمان، في ظل حالة من الانسداد والمناكفة السياسية، على خلفية عدم تمتع أي من الأحزاب بأغلبية في البرلمان، وانعكاس ذلك على الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي باتت في حالة جمود يدفع ثمنه التونسيون أنفسهم.
وجاءت جائحة كورونا وارتفاع وطأتها في البلاد بصورة أدت إلى انهيار القطاع الصحي لتدفع الأمور إلى حافة الهاوية، وخرجت تظاهرات تطالب الرئيس بالتدخل، واستغل سعيّد الفرصة، على خلفية تقارير تفيد باستعداده لذلك والتنسيق مع دول أخرى بالفعل، وأعلن إجراءاته الاستثنائية التي عارضتها الأحزاب الكبيرة في البرلمان، خصوصاً حركة النهضة وحزب قلب تونس، بينما أيدتها أحزاب أخرى وبدا أن هناك تأييداً شعبياً لإجراءات سعيّد.
تحركات ضد انفراد سعيّد بالسلطة
ومن المهم هنا التوقف عند التسلسل الزمني للأوضاع في تونس خلال الشهرين الماضيين، أي منذ مفاجأة سعيّد التي استند فيها على المادة 80 من الدستور التونسي. فعلى الرغم من تأكيدات سعيد المتكررة أنه لا يخالف الدستور وأنه سيقوم بتعيين حكومة وأن تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب مدته 30 يوماً فقط، فإنه أصدر قراراً بتمديد عمل البرلمان "لأجل غير مسمى"، مع مرور الشهر الأول على قراراته، ولم يعين حكومة، وواصل انفراده بالسلطة في البلاد.
ومنذ اللحظة الأولى لقرارات الرئيس التونسي، كان واضحاً أن هناك قلقاً دولياً على المسار الديمقراطي في البلاد، ونشرت صحيفة Washington Post الأمريكية تقريراً بعنوان "ديمقراطية تونس الهشة، الناجي الوحيد من الربيع العربي، في أزمة بعد أن انفرد الرئيس بالسلطة"، بينما عنونت شبكة CNN تغطيتها لأحداث تونس قائلة "ديمقراطية تونس في أزمة بعد أن أطاح الرئيس بالحكومة"، ولم تختلف تغطية The New York Times عن نفس الخط، وجاء عنوان تغطيتها "ديمقراطية تونس على شفا الانهيار بعد تحرك الرئيس للانفراد بالسلطة".
ومع مرور الوقت، بدأ التململ والقلق يتسرب إلى الأطراف التي ساندت الرئيس وبدأت تتعالى الأصوات المطالبة بضرورة الكشف عن خارطة الطريق التي ينوي الرئيس اتباعها للخروج من الأزمة التي تعصف بالبلاد.
بل إن الرئيس سخر من الدعوات المتزايدة لعقد حوار وطني بين جميع الأطراف للتوافق على مخرج مناسب قبل أن تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة في البلد الذي منه انطلقت شرارة ثورات الربيع العربي قبل أكثر من عقد الزمان وأطاح بزين العابدين بن علي الرئيس الأسبق الذي حكم البلاد بطريقة ديكتاتورية لمدة ثلاثة عقود.
ويعتبر موقف عبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر من إجراءات سعيّد نموذجاً لما تشهده تونس منذ اتخاذ سعيّد إجراءاته الاستثنائية، فقد كانت موسى أول المهلّلين لقرارات الرئيس تجميد البرلمان وإقالة الحكومة والانفراد بالسلطة، لكن سرعان ما انقلب التهليل إلى رفض لقرارات الرئيس وبخاصة تجميد البرلمان.
لكن إذا كان موقف موسى، بحسب محللين، مرتبطاً بالطبيعة الشعبوية التي تتشاركها مع الرئيس قيس سعيّد وليس نابعاً من قلق حقيقي من تحول سعيّد إلى "بن علي" جديد، على أساس أن موسى من المدافعين عن النظام السابق من الأصل، فموقف أحزاب أخرى ومؤسسات مثل اتحاد الشغل يعتبر مؤشرات كان على الرئيس أن يلتفت إليها لكنه لم يفعل.
فقبل أن تحل الذكرى الشهرية الثانية لقرارات سعيّد الاستثنائية، بدأ مؤيدو الرئيس يعبرون عن "امتعاضهم" بسبب ضبابية المشهد السياسي وعدم تعيين حكومة جديدة، في ظل الأوضاع الصعبة التي تعيشها البلاد.
وبعد أن قرر سعيّد تمديد تجميد عمل البرلمان لأجل غير مسمى، وسط مؤشرات نحو اتجاه الرئيس إلى تعديل الدستور، وهو ما لمح إليه سعيّد نفسه، وأثار انتقادات ورفضاً من جانب بعض من أيدوا قرارات الرئيس الاستثنائية، ها هو الرئيس التونسي يواجه غضب الشارع نفسه.
فبينما رفضت غالبية الأحزاب التّونسية قرارات سعيّد الاستثنائية، واعتبرها البعض "انقلاباً على الدستور"، كانت أحزاب أخرى قد أيدتها ورأت فيها "تصحيحاً للمسار"، في ظل أزمات سياسية واقتصادية وصحية (جائحة كورونا).
لكن مع مرور الوقت دون أن تتضح الصورة بشأن ما هو قادم، في ظل عدم تعيين حكومة أو إعلان خارطة طريق من جانب الرئيس، بدأت بعض الأطراف المؤيدة لسعيّد في المطالبة بالتسريع في الإعلان عن الحكومة، معربةً عن رفضها تجميع السلطات والانفراد بالحكم.
واعتبر المحلل السياسي التونسي محمد بريّك أن "هناك اليوم قلقاً لدى الشارع التونسي والمؤيدين للرئيس سعيّد، مردّه ضبابية الوضع وعدم وضوح الرؤية، إلا أنّ الأخير كان حريصاً جداً على التأكيد على تطبيق القانون في كل إجراء يتخذه، ولم يُرد أخذ إجراءات أكثر صرامة".
وفي حديثه للأناضول، شدد على أن "هناك أطرافاً أخرى من اليسار ليست مساندة لإجراءات سعيّد، وإنما تدفع نحو إجراءات أكثر صرامة من إيقافات وإقالات وتجميد منظمات وأحزاب، إلا أنه لا يزال مشدداً على أن كل إجراء يجب أن يخضع للقانون".
"الشعب يريد عزل الرئيس"
واليوم الأحد 26 سبتمبر/أيلول، مع بدء الشهر الثالث منذ اتخذ سعيّد إجراءاته، شهد شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية مظاهرة حاشدة للاحتجاج على استئثار الرئيس قيس سعيد بسلطات الحكم وطالبوه بالتنحي عن منصبه.
ونقلت كثير من القنوات العربية والتونسية مشاهد مباشرة للمتظاهرين الذين بدأوا التجمع منذ الصباح الباكر، وسط تكثيف أمني واضح، وانطلقت المظاهرات قبل ساعتين من موعدها المقرر منتصف النهار بناء على دعوات انطلقت على منصات التواصل الاجتماعي، وليست عبر أي من الأحزاب.
وفي الصباح، قال شاهد من رويترز إن نحو 2000 محتج تجمعوا في العاصمة التونسية مطالبين الرئيس بالتنحي، قبل أن تزداد أعداد المتظاهرين بشكل لافت مع مرور الوقت وارتفع شعار "الشعب يريد عزل الرئيس" مدوياً بصورة واضحة.
التحرك الشعبي الأبرز جاء في أعقاب تجاهل سعيّد جانباً كبيراً من أحكام الدستور الصادر في 2014 ومنح نفسه سلطة الحكم بمراسيم، أي إصدار تشريعات وقوانين، ليطبق على السلطة بشكل مطلق، فهو يتولى مهام السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية أيضاً.
وبحسب رويترز، ردد المحتجون شعارات تطالب بإسقاط الانقلاب في شارع الحبيب بورقيبة الذي كان محوراً للمظاهرات التي أنهت حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011. كما ردد المتظاهرون هتافات "ارحل" و"بالروح بالدم نفديك يا دستور" و"يا قيس يا غدار".
وتهدد هذه الأزمة ما حققه التونسيون من مكاسب ديمقراطية في ثورة 2011 التي أطلقت شرارة احتجاجات "الربيع العربي" وأبطأت أيضاً الجهود المبذولة لمعالجة تهديد عاجل للمالية العامة، مما أثار قلق المستثمرين.
وقال عبد الفتاح سيف، الذي يعمل مدرساً، لرويترز: "إنه ديكتاتور. خان الثورة وخان الديمقراطية. لقد جمع كل السلطات. إنه انقلاب ونحن سوف نسقط الانقلاب في الشوارع".
وكان الرئيس سعيّد قد قال إن الخطوات التي اتخذها ضرورية للخروج من حالة الشلل السياسي والركود الاقتصادي ومعالجة ضعف إجراءات مكافحة جائحة كورونا. ووعد سعيّد بنصرة الحقوق وعدم التحول إلى حاكم مستبد.
الجميع انفضوا من حول الرئيس
هذا التطور في الشارع، والذي رفع شعار "ارحل" في وجه الرئيس، يعتبر تطوراً طبيعياً للأحداث على الأرض، فقد أعلن الاتحاد التونسي للشغل يوم الجمعة 24 سبتمبر/أيلول رفضه العناصر الرئيسية في قرارات الرئيس وحذر من مخاطر حصر السلطات في يده، تزامناً مع اتساع نطاق المعارضة للقرارات التي يصفها خصومه بأنها انقلاب.
وفي الأسبوع الماضي خرج أول احتجاج على قرارات الرئيس منذ أصدرها في 25 يوليو/تموز. ووصف أكبر الأحزاب السياسية وهو حزب النهضة الإسلامي المعتدل الخطوات التي أخذها سعيّد بأنها "انقلاب على الشرعية الديمقراطية" ودعا الناس إلى توحيد الصفوف والدفاع عن الديمقراطية بالوسائل السلمية. وأصدرت أربعة أحزاب أخرى بياناً مشتركاً يدين سعيّد يوم الأربعاء وندد به حزب كبير آخر هو حزب قلب تونس.
والسبت أدانت منظمات تونسية ودولية "القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد بصفة أحادية واستحواذه على السلطة في ظل غياب أي شكل من أشكال الضمانات". وجاء ذلك في بيان مشترك وقّعته 18 منظمة محلية ودولية، اطلعت عليه الأناضول.
ومن المنظمات الموقعة على البيان، المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، والرابطة التونسية للمواطنة، و"هيومن رايتس ووتش"، ومنظمة العفو الدولية فرع تونس، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، ومحامون بلا حدود، والشبكة التونسية للعدالة الانتقالية، وجميعها مستقلة.
وأكدت المنظمات، في بيانها، "تمسكها الثابت بالمبادئ الديمقراطية". واعتبرت أن "صدور الأمر الرئاسي الأخير من قبل سعيّد يقضي بإلغاء النظام الدستوري، ويعد أولى الخطوات نحو الاستبداد"، معبرة عن "خشيتها من المس من حقوق الإنسان نتيجة الاستيلاء غير المحدود على السلطات".
وقالت المنظمات إن "القانون الدولي لحقوق الإنسان يسمح في ظل شروط صارمة بتبني صلاحيات استثنائية، لكن تظل هذه الاستثناءات مؤقتة وخاضعة بشكل صارم لمبادئ الشرعية والضرورة والتناسب ويشترط وجود رقابة قضائية صارمة".
وأضافت أن "القانون الدولي ينص على إلزامية التعامل مع حالات الطوارئ في إطار سيادة القانون، ولذلك يتعين إحداث أي تغيير في النظامين السياسي والدستوري ضمن الإطار المنصوص عليه في الدستور، والذي يوفر شروط تعديله، مع الامتثال لمقتضيات المسار الديمقراطي".
الخلاصة هنا أن تحرك الشارع ضد الرئيس التونسي والمطالبة بعزله يفتح الباب على مصراعيه للتكهنات بشأن مستقبل البلاد، ويطرح تساؤلات بشأن ما إذا كان الرئيس سيتراجع عن احتكاره للسلطة ويستجيب لمطالب إجراء حوار وطني والذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة في ظل الدستور الحالي، أم أنه سيواصل مسيرته التي قال إنها بهدف إخراج البلاد من الطريق المسدود فإذا به يضع مستقبل البلاد على المحك؟