تفاعُل المستخدمين مع أي منشور على مواقع التواصل الاجتماعي هو العامل الأكثر تأثيراً في انتشار ذلك المنشور بسرعة وتحوله إلى "تريند"، بغض النظر عن مدى دقة محتوى المنشور، فماذا يعني ذلك لنا كمستخدمين لتلك المنصات كفيسبوك وتويتر وغيرهما؟
والمقصود بالتفاعل هو أن يقوم المستخدم بالضغط على مؤشر الإعجاب (Like) أو إعادة نشر المنشور (Share)، حيث يؤدي هذا التفاعل إلى زيادة انتشار المنشور أو (البوست) مما يجعله يصل أسرع إلى مستخدمين آخرين، ومن ثم يتحول إلى "تريند" يشغل الرأي العام فترة من الزمن.
وتعتمد خوارزميات الوسائط الاجتماعية -وهي القواعد التي تتَّبِعها أجهزة الكمبيوتر في تحديد المحتوى الذي تراه على صفحتك الرئيسية- بشكلٍ كبيرٍ على سلوك الناس في اتِّخاذ هذه القرارات، أي التفاعل مع المنشور. على وجه الخصوص، يراقبون المحتوى الذي يستجيب له الأشخاص أو "يتفاعلون" معه من خلال الإعجاب والتعليق والمشاركة.
كيف تعمل خوارزميات منصات التواصل؟
وتناول موقع Salon الأمريكي مسألة تأثير التفاعل على انتشار منشور بعينه ومن ثم تأثيره في نهاية المطاف في تشكيل الرأي العام، في تقرير بعنوان "كيف يجعلك "التفاعل" على الشبكات الاجتماعية أكثر عرضة للتلاعب والتضليل"، رصد التأثير المباشر لكثرة التفاعل على ما يتبناه المستخدم من أفكار وآراء بشكل عام.
وقد درس فيليبو منكزر، عالم الكمبيوتر الذي يدرس الطرق التي يتفاعل بها الناس باستخدام التكنولوجيا، بطريقة متعمقة منطق استخدام "حكمة الجماهير" في الخوارزميات التي تعمل بها منصات التواصل الاجتماعي، وكشف عيوباً كبيرةً في كيفية استخدام شركات التواصل الاجتماعي هذه الخوارزميات عند التطبيق العملي.
ويفترض مفهوم "حكمة الجماهير" أن استخدام إشاراتٍ من تصرُّفات الآخرين وآرائهم وتفضيلاتهم يؤدِّي إلى قراراتٍ سليمة. على سبيل المثال، عادةً ما تكون التنبؤات الجماعية أدق من التنبؤات الفردية. ويُستخدَم الذكاء الجماعي للتنبؤ بالأسواق المالية والرياضة والانتخابات، وحتى تفشي الأمراض.
بمعنى آخر أكثر بساطة، إذا تشارك عدد كبير من الناس في التعبير عن إعجابهم بمنشور ما، تفترض الخوارزمية أن ذلك المنشور الذي يحظى بالشعبية هو منشور جيد يستحق أن يصل لعدد أكبر من المستخدمين وهكذا يتم ترويجه بصورة أكبر وأسرع من منشورات أخرى تم نشرها في نفس التوقيت.
وعلى مدار ملايين السنين من التطوُّر، تم ترميز هذه المبادئ في الدماغ البشري في شكل تحيُّزاتٍ معرفية. إذا بدأ الجميع في الجري، يجب أن تبدأ أنت أيضاً تجري، فربما رأى أحدهم أسداً يركض، وقد ينقذ ذلك حياتك. قد لا تعرف السبب، ولكن من الحكمة طرح الأسئلة لاحقاً وليس الآن.
يلتقط دماغك أدلةً من البيئة -بما في ذلك من أقرانك- ويستخدم قواعد بسيطة لترجمة هذه الإشارات بسرعةٍ إلى قرارات. اذهب مع الفائز واتَّبِع الأغلبية، وقلد من هو بجوارك. تنجح هذه القواعد بشكلٍ جيِّد في المواقف النموذجية، لأنها تستند إلى افتراضاتٍ سليمة. على سبيل المثال، يُفتَرَض أن الناس غالباً ما يتصرَّفون بعقلانية، ومن غير المُرجَّح أن يخطئ الكثيرون، والماضي يتنبأ بالمستقبل، وما إلى ذلك.
"الشعبية" ليست "جيدة" بالضرورة
وبالتالي فإن التكنولوجيا تسمح للمستخدمين بالوصول إلى إشاراتٍ من أعدادٍ أكبر بكثيرٍ من غيرهم، ومعظمهم لا يعرفون ذلك. وتستفيد تطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكلٍ كبير من إشارات "المشاركة" هذه، من اختيار نتائج البحث إلى التوصيات بالموسيقى ومقاطع الفيديو، ومن الأصدقاء المُقتَرَحين إلى ترتيب المنشورات على الصفحة الرئيسية.
لكن المؤكد هو أنه ليس كلُّ شيءٍ ينتشر على نطاقٍ واسع هو أمر يستحق الإعجاب أو التقليد. وتتمتَّع جميع منصات تكنولوجيات الويب تقريباً، مثل وسائل التواصل الاجتماعي وأنظمة الترشيحات الإخبارية، بشعبيةٍ قوية. وعندما تكون التطبيقات مدفوعةً بإشاراتٍ مثل المشاركة بدلاً من استعلامات محرِّك البحث الصريحة، قد يؤدِّي تحيُّز الشعبية إلى عواقب ضارة وغير مقصودة.
تعتمد وسائل التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وإنستغرام وتويتر ويوتيوب وتيك توك، بشكلٍ كبيرٍ على خوارزميات الذكاء الاصطناعي لترتيب المحتوى والتوصية به. وتؤخَذ هذه الخوارزميات كمُدخلات لما يعجبك وتعلِّق عليه وتشاركه -وبعبارةٍ أخرى، ما تتفاعل معه. والهدف من الخوارزميات هو زيادة المشاركة من خلال معرفة ما يحبه الناس وترتيبها في أعلى صفحاتهم الرئيسية.
للوهلة الأولى يبدو هذا المنطق معقولاً من على السطح. إذا كان الناس يحبون الأخبار الموثوقة وآراء الخبراء ومقاطع الفيديو الممتعة، فيجب أن تحدِّد هذه الخوارزميات مثل هذا المحتوى عالي الجودة. لكن "حكمة الجماهير" تضع افتراضاً رئيسياً، ألا وهو أن التوصية بما هو شائع سيساعد على ظهور المحتوى عالي الجودة.
خضع هذا الافتراض لاختبارٍ من خلال دراسة خوارزميةٍ تصنِّف العناصر باستخدام مزيجٍ من الجودة والشعبية. ووُجِدَ أنه بشكلٍ عام، من المُرجَّح أن يؤدِّي الانحياز الشعبي إلى خفض الجودة الإجمالية للمحتوى. والسبب هو أن المشاركة ليست مؤشِّراً موثوقاً للجودة عندما يتعرَّض عددٌ قليلٌ من الأشخاص لأحد العناصر.
في هذه الحالات، تولِّد المشاركة إشارةً صاخبة، ومن المُرجَّح أن تقوم الخوارزمية بتضخيم هذه الضوضاء الأوَّلية. وبمجرد أن تصبح شعبية عنصر منخفض الجودة كبيرةً بما يكفي، سيستمر تضخيمها.
كيف يتأثر الأشخاص بالمحتوى "التريندي"؟
لكن الخوارزميات ليست هي الشيء الوحيد الذي يتأثَّر بانحياز المشاركة -بل يمكن أن يؤثِّر على الأشخاص أيضاً. تُظهِر الأدلة أن المعلومات تنتقل عبر "عدوى مُعقَّدة"، ما يعني أنه كلَّما زاد تعرُّض شخصٍ ما لفكرةٍ عبر الإنترنت، زاد احتمال تبنيها وإعادة مشاركتها. وعندما تخبر وسائل التواصل الاجتماعي الناس أن عنصراً ما ينتشر بسرعة، فإن تحيُّزاتهم المعرفية تبدأ وتُتَرجَم إلى دافعٍ لا يُقاوَم للانتباه إليه ومشاركته.
وأُجرِيَت مؤخَّراً تجربةٌ باستخدام تطبيق محو الأمية الإخبارية يسمى Fakey. إنها لعبةٌ طُوِّرَت لتحاكي الصفحة الرئيسية في فيسبوك وتويتر. يرى اللاعبون نموذجاً من المواد الحالية من الأخبار المزيَّفة والمصادر شديدة التحزُّب والتآمرية، بالإضافة إلى المصادر السائدة. ويحصلون على نقاطٍ لمشاركة الأخبار أو الإعجاب بها من مصادر موثوقة وللإبلاغ عن المواد منخفضة المصداقية للتحقُّق منها.
وُجِدَ أن اللاعبين أكثر عرضةً للإعجاب أو المشاركة، وأقل احتمالاً للإبلاغ عن المواد من مصادر منخفضة المصداقية عندما يرى اللاعبون أن العديد من المستخدمين الآخرين قد تفاعلوا مع هذه المواد. وبالتالي فإن التعرُّض لمقاييس المشاركة يخلق ثغرةً. إذ يتمثَّل جوهر الأمر في التمييز بين إثارة الاستجابة وتقديم المحتوى الذي يريده الناس.
تفشل حكمة الجماهير لأنها مبنيةٌ على افتراضٍ خاطئ بأن الجمهور يتكوَّن من مصادر متنوِّعةٍ ومستقلة. لكن هناك أسباب عديدة تشير إلى أن هذا ليس هو الحال.
أولاً، ميل الناس إلى الارتباط بأشخاصٍ متشابهين يجعل دوائرهم على الإنترنت ليست شديدة التنوُّع. والسهولة التي يمكن لمستخدم وسائل التواصل الاجتماعي من خلالها إلغاء صداقة أولئك الذين يختلفون معه تدفع الناس إلى الانخراط في مجتمعاتٍ متجانسة، وغالباً ما يُشار إليها باسم غرف الصدى.
ثانياً، نظراً إلى أن أصدقاء العديد من الأشخاص هم أنفسهم أصدقاءٌ لبعضهم البعض، فإنهم يؤثِّرون على بعضهم البعض. أثبتت تجربةٌ شهيرة أن معرفة الموسيقى التي يحبها أصدقاؤك تؤثِّر على تفضيلاتك العلنية. ولهذا فإن رغبتك الاجتماعية في التوافق تشوِّه حكمك المستقل.
ثالثاً، يمكن التلاعب بالإشارات الخاصة بالشعبية. على مرِّ السنين، طوَّرَت محرِّكات البحث تقنياتٍ متقدمة لمواجهة ما يسمى بـ"مزارع الروابط" وغيرها من المُخطَّطات للتلاعب بخوارزميات البحث. من ناحيةٍ أخرى، بدأت وسائل التواصل الاجتماعي في التعرُّف على نقاط الضعف الخاصة بها.
وقد جرَّبَت منصة فيسبوك مؤخراً، وبهدوء، تقليل كمية المحتوى السياسي الذي تضعه في الصفحات الرئيسية للمستخدمين، في خطوةٍ تُعَدُّ إقراراً ضمنياً بأن الطريقة التي تعمل بها خوارزميات الشركة قد تكون مشكلة.
كيف يمكن للمستخدم تفادي "الفخ"؟
أنشأ الأشخاص الذين يهدفون إلى التلاعب بسوق المعلومات حساباتٍ مزيَّفة، مثل المتصيِّدين والروبوتات الاجتماعية، وشبكات وهمية منظَّمة أخرى. لقد أغرقوا الإنترنت لخلق مظهر أن نظرية المؤامرة هذه أو تلك أو المرشح السياسي هذا أو ذاك يحظى بشعبية، مِمَّا يخدع كلٍّ من خوارزميات النظام الأساسي والتحيُّزات المعرفية للناس في آنٍ واحد.
ماذا يتعيَّن القيام به؟ تقع منصات التكنولوجيا حالياً في موضعٍ دفاعي. لقد أصبحت أكثر عدوانيةً خلال الانتخابات في إزالة الحسابات المزيَّفة والمعلومات المضلِّلة الضارة.
هناك طريقةٌ وقائية مختلفة تتمثَّل في إبطاء عملية نشر المعلومات. يمكن منع سلوكيات مثل الإعجاب والمشاركة الآلية عن طريق اختبارات CAPTCHA. ولا يؤدِّي هذا إلى تقليل فرص التلاعب فحسب، بل سيكون الأشخاص قادرين، مع وجود معلوماتٍ أقل، على إيلاء المزيد من الاهتمام لما يرونه. سوف يترك ذلك مجالاً أقل لتحيُّز المشاركة للتأثير على قرارات الناس.
سيكون من المفيد أيضاً أن تقوم شركات التواصل الاجتماعي بتعديل خوارزمياتها للاعتماد بشكلٍ أقل على المشاركة لتحيد المحتوى الذي تخدمه. لكن السؤال هنا يتعلق بمدى رغبة المسؤولين عن تلك المنصات في التقليل من انتشار معلومات مضللة تتعلق بقضية ما أو شخص ما من جهة، ومن جهة أخرى مدى إمكانية تغيير طريقة عمل تلك الخوارزميات بشكل جذري.