بعد أن مرّ ما يقرب من شهرين منذ اتخاذ الرئيس التونسي قيس سعيّد إجراءاته الاستثنائية، يبدو أن مؤيديه قد بدأوا يعبرون عن "امتعاضهم" بسبب ضبابية المشهد السياسي وعدم تعيين حكومة جديدة، في ظل أوضاع صعبة تعيشها البلاد.
كان سعيّد قد قرر فجأة يوم 25 يوليو/تموز الماضي إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، متولياً بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة قال إنه سيعين رئيسها، كما قرر تجميد اختصاصات البرلمان لمدة 30 يوماً، ورفع الحصانة عن النواب، وقرر ترؤس النيابة العامة، ولاحقاً أصدر أوامر بإقالة مسؤولين وتعيين آخرين.
ثم قرر سعيّد تمديد تجميد عمل البرلمان لأجل غير مسمى، وسط مؤشرات نحو اتجاه الرئيس إلى تعديل الدستور، وهو ما ألمح إليه سعيد نفسه، وأثار انتقادات ورفضاً من جانب بعض من أيدوا قرارات الرئيس الاستثنائية، فهل يجد الرئيس التونسي نفسه وحيداً بعد أن تخلى عنه مساندوه؟
فبينما رفضت غالبية الأحزاب التّونسية قرارات سعيّد الاستثنائية، واعتبرها البعض "انقلاباً على الدستور"، كانت أحزاب أخرى قد أيدتها ورأت فيها "تصحيحاً للمسار"، في ظل أزمات سياسية واقتصادية وصحية (جائحة كورونا).
ضبابية المشهد وحرص على العودة للقانون
لكن مع مرور الوقت دون أن تتضح الصورة بشأن ما هو قادم، في ظل عدم تعيين حكومة أو إعلان خارطة طريق من جانب الرئيس، بدأت بعض الأطراف المؤيدة لسعيّد في المطالبة بالتسريع في الإعلان عن الحكومة، معربةً عن رفضها تجميع السلطات والانفراد بالحكم.
واعتبر المحلل السياسي التونسي محمد بريّك أن "هناك اليوم قلقاً لدى الشارع التونسي والمؤيدين للرئيس سعيّد، مردّه ضبابية الوضع وعدم وضوح الرؤية، إلا أنّ الأخير كان حريصاً جداً على التأكيد على تطبيق القانون في كل إجراء يتخذه، ولم يُرد أخذ إجراءات أكثر صرامة".
وفي حديثه للأناضول، شدد على أن "هناك أطرافاً أخرى من اليسار ليست مساندة لإجراءات سعيّد، وإنما تدفع نحو إجراءات أكثر صرامة من إيقافات وإقالات وتجميد منظمات وأحزاب، إلا أنه لا يزال مشدداً على أن كل إجراء يجب أن يخضع للقانون".
واعتبر بريّك أن "الأحزاب الإسلامية كانت أكثر انضباطاً رغم شعورها بالقلق من الوضع والبحث عن مخرج له"، مشيراً إلى أن "من يدفع نحو ذلك (الإجراءات التصعيدية) اليوم هدفه القطع مع كافة المنظومة التي كانت سائدة وكافة مؤسسات الدولة، وهو أمر خطر جدا".ً
ولفت إلى أنّ "هناك أطرافاً تريد أن تدفع الرئيس إلى الصدام وهو أمر خطر، لكن سعيد كان مُصراً على أن يتم كل شيء في إطار القانون وأن تتم المحاسبة في إطار القانون والقضاء"، معتبراً أن "من ساندوا الرئيس في البداية كان هدفهم القطع مع المنظومة القديمة، وأن سبب ذلك أنهم أحزاب لم تجد فرصة انتخابية".
موقف اتحاد الشغل
من جهته رأى المحلل السياسي التونسي فريد العليبي، في حديثه للأناضول، أن "السياسة في تونس مثل غيرها من البلدان لا ينبغي الحكم عليها كما تبدو ظاهرياً وإنما ينبغي استنطاق بواطنها".
وتابع: "من ناصروا قيس سعيد لا يزالون يناصرونه وهذا هو الجوهري في المسألة، أما المطالبة بحل البرلمان نهائياً وإلغاء الدستور الحالي والقيام باستفتاء حول دستور جديد أو الإسراع في تكوين حكومة مصغرة والإبقاء على الدستور الحالي مع تنقيح بعض فصوله فهي مجرد اجتهادات ضمن هؤلاء المناصرين".
وعلى صعيد آخر اعتبر بريّك أن "اتحاد الشغل (أكبر منظمة نقابية تونسية) كان منذ البداية مسانداً لقرارات الرئيس إلى جانب أحزاب أخرى يسارية، وبعض الأحزاب الوسطية كانوا ينتظرون من الرئيس أن يذهب في إجراءات أكثر جرأة، لكنه كان حريصاً دائماً على تغليب دور القضاء في المحاسبة وتغليب القانون".
وزاد أن "الحزب الدستوري الحر أيضاً كان مؤيداً لقرارات سعيد وكان ينتظر منه إجراءات أكثر جرأة، إلا أنهم لم يجدوا سوى العكس، وهنا يتجلى غضب الاتحاد وفئات أخرى على غرار عبير موسي (رئيسة الدستوري الحر) من أن سعيد ذهب في اتجاه القانون"، وفق قوله.
وفي الإطار ذاته، رأى العليبي أن "الاتحاد مناصر لإجراءات الرئيس مع حرص على تكوين الحكومة في أقرب الأوقات، فهناك ملفات مطلبية لمنظوريه يتطلب حلها حوار مع وزراء، لكن الرئيس يتريث في تكوين تلك الحكومة، فهو يعطي الأولوية للسياسات على الأفراد كما قال".
ورغم تأييده منذ البداية، مع اشتراط وجود ضمانات مرافقة للتدابير التي اتخذها سعيد، فإن الاتحاد شدد لهجته إذ انتقد مؤخراً ما اعتبره "إهدار فرص" إصلاح البلاد من قبل الرئيس قيس سعيد، وعدم اتخاذ الأخير خطوات جديدة لحل الأزمة السياسية القائمة.
وحذر الاتحاد في بيان أصدره قبل أيام على ضرورة "التسريع بتشكيل حكومة مصغرة توفر مناخات ملائمة لتجاوز الأزمة وتمثل الدولة التونسية في كل المحافل الدولية"، محذراً من أن "أي تأخير في ذلك لن يفضي إلا إلى تعميق الأزمة وتفكيك الدولة وتهديد كيانها".
أما رئيسة "الحزب الدستوري الحر"، وبعد أن رحّبت بقرارات سعيّد بشأن تجميد البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي، فقد أبدت وفي وقت وجيز رفضها الشديد لتلك القرارات خاصة المتعلقة بتعليق عمل المجلس ورفع حصانة النواب.
أحزاب أخرى على غرار "التيار الديمقراطي" و"التكتل" و"آفاق تونس" ممن أيدوا الرئيس منذ البداية أعربوا قبل أيام عن قلقهم من تجميع السلطات بيد قيس سعيّد.
كما عبروا عن رفضهم "دعوات تعليق الدستور" و"حالة الجمع بين السلطة والانفراد بالقرار"، مستغربين "استمرار الفراغ الحكومي ومطالبين بضرورة تكليف رئيس حكومة سريعاً لحل أزمات البلاد.
مطالب مشروعة تخفي مآرب أخرى
واعتبر المحلل السياسي محمد بريّك أن "المطالبة بالتسريع بتشكيل الحكومة وتوضيح الرؤية مشروعَة لكنها اليَوم تخفي وراءها مطالب أخرى، فكلهم تجمعوا لمصلحة واحدة وهي إعادة ترتيب المشهد".
وأوضح أن "من له وزن على الساحة السياسية بات يخاف من فقدان ذلك خاصة ممن كانوا يتصدرون نوايا التصويت قبل 25 يوليو، ومن ليس له وزن فقد أراد أن يستغل الوضع حتى يكون في الصدارة، وبالتالي فإن المساندة كانت مشروطة وإن الكل تجمعوا لتقاسم النفوذ".
فيما رأى العليبي أن "بعض تلك الأحزاب أعربت عن دعمها على أمل مجازاتها بمناصب، وعندما لم تحصل ذلك غيرت موقفها على ذلك يؤدي إلى تراجعه في التعامل معها، ولكن قيس سعيد لا يصغي لتلك الضغوط فهو يعول على علاقة مباشرة بالشعب".
وفيما يتعلق بمساندة الشارع التونسي لقرارات سعيد، أوضح بريّك أنّ "الشعب يريد أن تكون هناك خارطة طريق واضحة يريد أن يعرف جيدا ما إذا كانت المرحلة تقتضي تعديل دستور أم لا، وإن كانت هناك انتخابات فمتى ستكون".
فيما رأى العليبي أنّ "الشارع التونسي يقف في غالبيته مع الرئيس، وهذا ما كشفت عنه مؤسسات سبر الآراء، وذلك يشير إلى الحديث عن حيرة وتغير موقف الشارع وغموض إنما هي من قبيل التشخيص الخاطئ للوضع السياسي في تونس".
والسبت الماضي شارك مئات التونسيين في وقفة احتجاجية وسط العاصمة تونس، رفضاً "للفساد" وللمطالبة بإنهاء إجراءات رئيس البلاد قيس سعيد، "الاستثنائية"، وأفاد مراسل الأناضول، بأن مئات النشطاء والحقوقيين والسياسيين شاركوا بوقفة في شارع الحبيب بورقيبة، وسط المدينة، رفضاً لإجراءات الرئيس سعيد، وللمطالبة بوقفها.
ورفع المحتجون خلال الوقفة شعارات أبرزها: "لا تراجع عن الشرعية"، و"لا انقلاب على مؤسسات الدولة"، و"لا خوف، لا رعب السلطة ملك الشعب"، و"دستور، حرية، كرامة وطنية"، وسط حضور أمني كثيف.
وتشير تلك التحركات، حتى وإن كانت محدودة حالياً، إلى أن الرئيس التونسي كلما تأخر في تعيين حكومة جديدة والكشف عن خريطة طريق تخرج البلاد من حالة الضبابية التي تعيشها حالياً، انفض المؤيدون من حوله وتعرضت البلاد لخطر الدخول في نفق مظلم، بحسب المراقبين داخلياً وخارجياً.
واللافت في المشهد الحالي هو أن تونس، الدولة العربية التي انطلقت منها شرارة الربيع العربي وباتت الدولة الوحيدة التي تذوقت الديمقراطية قبل 10 سنوات، لا تزال حتى اليوم تواجه "مفترق طرق" مرة أخرى. وكان موقع ستراتفور الأمريكي قد تناول الأوضاع في تونس قبيل الانتخابات الرئاسية التي فاز بها سعيد، في تقرير له بعنوان: "الديمقراطية الناشئة في تونس تواجه أصعب اختباراتها"، لكن يبدو أن تونس على موعد الآن مع مفترق طرق آخر سببه سعيد نفسه.