بعد إعلان وفاته الجمعة، أقيمت الأحد جنازة رسمية حضرها الرئيس عبدالمجيد تبون وتم دفن جثمان الرئيس الجزائري السابق عبدالعزيز بوتفليقة في مقبرة العالية في العاصمة، حيث يدفن أبطال حرب الاستقلال والرؤساء السابقون.
ويمتلك الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، الذي توفي عن عمر 84 عاماً، مسيرة طويلة من العمل السياسي في الجزائر تمتد لأكثر من 60 عاماً، قضى نحو ثلثها رئيساً للبلاد، وهو أطول رؤساء الجزائر بقاء في المنصب.
ومنذ إعلان وفاته، سادت حالة من الغموض بشأن مراسم الجنازة ومكان الدفن، إذ اكتفت وسائل الإعلام الرسمية بذكر خبر وفاة بوتفليقة بشكل موجز وانتظر التلفزيون الرسمي حتى مساء السبت لبث أبرز محطات المسيرة السياسية للرئيس السابق التي استمرت ستين عاماً.
وبعد ساعات من التردد والصمت في ظل غياب ردّ فعل رسمي، أصدر الرئيس عبدالمجيد تبون الذي كان رئيساً للوزراء في عهد بوتفليقة، ظهر السبت بياناً أعلن فيه تنكيس الأعلام "ثلاثة أيام" تكريماً "للرئيس السابق المجاهد عبدالعزيز بوتفليقة".
جيش التحرير الوطني
نشر موقع Middle East Eye البريطاني تقريراً رصد مسيرة الرئيس الراحل، بداية من مسيرته مع جيش التحرير الوطني في الخمسينيات وصولاً إلى بداية الألفية الجديدة، فعبدالعزيز بوتفليقة لم يُشكِّل التاريخ المعاصر لبلاده وحسب بل نظامها السياسي أيضاً، فضلاً عن جيلٍ كامل.
وكان آخر ظهور علني لبوتفليقة في 2 أبريل/نيسان 2019، حين كان يبدو المرض ظاهراً عليه ويرتدي رداء الجلابة التقليدي، وتم إجباره على الاستقالة تحت ضغط الجيش وسط احتجاجات شعبية هائلة من جانب الملايين من الجزائريين.
وتتناقض تلك الصورة تناقضاً حاداً مع صورة الرجل الذي أصبح رئيساً وحكم البلاد لعقدين من الزمن، متغلِّباً على منافسيه داخل النظام، حتى إنَّه قال في عام 1999: "أنا أمثل الجزائر كلها وأجسد الشعب الجزائري!".
اتسمت حياته الاستثنائية بالعظمة والشطط، لكنَّها انتهت بنهاية المطاف تحت وطأة القوة. ويمكن إرجاع مصدر هذا السقوط إلى شريان حياته: السعي وراء السلطة. في الواقع كان المطلعون من داخل النظام يعتقدون أنَّ الموت وحده سيجبره على الرحيل، إلى أن اضطر للاستقالة قبل عامين.
فقال أحد أفراد دائرته المقربة للموقع البريطاني: "كان بوتفليقة عازماً على الاحتفاظ بالسلطة، لكن ليس فقط بسبب نزعة استبدادية ما. بل كانت فلسفته السياسية، وهي رؤية موروثة من أنظمة حكم ما بعد الثورة".
وأضاف: "القائد ليس مجرد قائد سياسي. القائد هو أب، وأب لا يتخلى عن أسرته أبداً. والجزائر هي أسرته، وكذلك كان الشعب الجزائري. كان قصر الرئاسة بالنسبة له هو منزله، منزل (آخر الساسة العظماء) للجزائر".
بوتفليقة الذي ولد في المغرب
وُلِدَ بوتفليقة في مدينة وجدة شمال شرقي المغرب، وكان أجداده الجزائريون قد هاجروا إلى هناك عام 1937، وانضم في منتصف الخمسينيات إلى "جيش التحرير الوطني"، وقاتل في حرب الاستقلال ضد فرنسا الاستعمارية.
وخلال الإدارة الأولى في مرحلة ما بعد الاستقلال في عام 1962، أصبح بوتفليقة وزير خارجية للجزائر، واستفاد من الانقلاب الذي قاده هواري بومدين، الذي أطاح بأحمد بن بلة، أول رئيس للبلاد، في عام 1965.
أصبح بوتفليقة بالتدريج وجهاً مألوفاً في الدوائر الدبلوماسية، بما في ذلك عمله رئيساً للجمعية العامة للأمم المتحدة خلال منتصف السبعينات، وأصبح في الداخل محسوباً أكثر فأكثر على بومدين، الأب الروحي للجيش الجزائري والذي كان بوتفليقة قريباً منه حتى قبل الاستقلال.
لذا حين توفي بومدين من جرَّاء مرض السرطان في عام 1978، رأى بوتفليقة في نفسه الوريث الشرعي للرئاسة، مدفوعاً على ما يبدو بشعور خاص بأنَّ هذا هو قدره.
الجيش يرفض خلافته لبومدين
لكن كان للجيش والمخابرات أفكار أخرى. فبعدما نكبهم فقدان ناصحهم الأعلى، لم يكن لديهم أي نية لتسليم السلطة لليبرالي المفرط في ليبراليته بوتفليقة، المعروف بـ"غطرسته وفهمه الضعيف للقضايا المحلية"، مثلما روى الجنرال رشيد بن يلس في مذكراته.
ولم يسامح بوتفليقة "النظام" أبداً على إزاحته من موقعه باعتباره خليفة مرشده أو ما صاحب ذلك من خيانة. جاء الأسوأ بعد ذلك؛ ففي مطلع الثمانينات، وُجِدَ بوتفليقة مذنباً بتبديد الميزانية القنصلية للجزائر خلال حقبته وزيراً للخارجية، ونُشِرَ اسمه في الصفحة الأولى لجريدة "المجاهد" المملوكة للدولة.
كان بوتفليقة يعلم أنَّ النظام لا يشفق على الخاسرين. فخرج في منفى، ولم يُسمَح له بالعودة إلى البلاد أخيراً إلا في عام 1989. بحلول ذلك الوقت كانت الجزائر على حافة الحرب الأهلية الدموية التي ستهيمن على التسعينات وتؤدي إلى مقتل ما يصل إلى 200 ألف جزائري.
طوال معظم هذه الفترة لم يكن لبوتفليقة إلا دور سياسي محدود، وكان بدلاً من ذلك يتحيَّن وقته. وفي مرحلة ما في عام 1994، اقترح الجيش أن يصبح رئيساً عقب اغتيال الرئيس آنذاك محمد بوضياف، لكنَّه رفض.
وأصبح بوتفليقة أخيراً رئيساً عام 1999، بعدما هزم الرئيس آنذاك اليمين زروال في الانتخابات. وحاز بوتفليقة سمعة كبيرة لإرسائه الاستقرار في البلاد عقب الحرب الأهلية، ونال احتراماً لمساعدته في تعزيز السلام في بلاده من خلال إطلاق عملية للمصالحة الوطنية.
بوتفليقة والمصالحة الوطنية
كان حضور بوتفليقة مطمئناً بالنسبة للبعض، فأعاد إحياء ذكريات سنوات "المجد" في عهد بومدين، حين كانت الجزائر قائدة العالم النامي، في تناقض حاد مع أطلال الجزائر المشتعلة في أواخر التسعينات.
كان الوهم ذا مصداقية، حتى بين كبار قادة الجيش الذين اختاروا في النهاية بوتفليقة، وبالتالي محوا وصمة عام 1978. لكنَّ الأوهام لا تتلاشى، ولم يكن هذا الوهم استثناءً، على الرغم من انتصارات بوتفليقة الانتخابية اللاحقة في 2004 و2009 و2014، بحسب تقرير ميدل إيست آي.
فمن قمع السلطات للمحتجين في منطقة القبائل عام 2001 في ما أُطلِق عليه "الربيع الأسود"، وفضائح الفساد الهائلة، وصولاً إلى التلاعب الدستوري لتمديد فترة وجود الرئيس في الحكم، وسلسلة من الإخفاقات الاقتصادية، كان انهيار نظام بوتفليقة قد بدأ بالفعل. وخلال العقدين التاليين، قدَّم بوتفليقة رؤية شخصية جداً للسلطة أعادت تشكيل الآلة السياسية للنظام، من الجيش إلى إدارات الحكومة.
وتسارعت العملية بفعل تعددية السلطة، مثلما يتضح من تدخل شقيقه الأصغر، سعيد، في قرارات الحكومة. وكان بإمكان الروابط الأسرية والتعيينات ضمان الحماية لبوتفليقة من مكائد الفصائل الحكومية التي تتحدى سلطته ومشروعاته بصورة غير مباشرة.
وعلَّق أحد ضباط الجيش السابقين قائلاً لميدل إيست آي: "كان آل بوتفليقة يرون الأعداء في كل مكان لأنَّه كان هناك أعداء في كل مكان". وأضاف: "حين تبقى أسرة حاكمة في السلطة لعشرين عاماً، لا يكون لديك أصدقاء فقط. ولتتذكروا اليمين زروال، الرئيس من عام 1994 حتى 1999، الذي قال: (هذا الكرسي هو عرش جهنم)"، مشيراً إلى كرسي مكتبه في قصر المرادية الرئاسي".
الانتخابات والمسرحية الهزلية
عانى بوتفليقة في أبريل/نيسان 2013 من سكتة دماغية وأُودِعَ المستشفى في فرنسا لثمانين يوماً. وبحلول هذه المرحلة، حتى أكثر مؤيديه ولاءً اضطروا للاعتراف بوجود شيء ما فاسد في نظام آل بوتفليقة. إذ تأثرت قدرة الرئيس على الحركة والحديث، ونادراً ما كان يُرى علناً.
بلغت سخافات سنواته التالية مستويات جديدة خلال "الحملة" الرئاسية لعام 2014، حين أعلنت المؤسسة ما لم يكن بالإمكان تصوره: أنَّ مرشحها الغائب سيترشح لعهدة رئاسية رابعة.
لم ترَ الجزائر وبقية العالم المرشح الرئاسي حتى يوم الانتخابات في 17 أبريل/نيسان 2014. وكان مُقعداً على كرسي متحرك يدفعه الطبيب العسكري الذي وقَّع وثيقة صحته، محاطاً بأشقائه، وأدلى بوتفليقة بصوته.
وفي حين نظر البعض إلى المهزلة باعتبارها ذروة نزوات الحاكم الذي كان ذات يوم قوياً يستحق أن يُترَك ليموت بسلام، أُصِيب الشعب الجزائري بصدمة عميقة. كان من مصلحة حلفاء بوتفليقة في الحزب الحاكم، وكذلك مسؤولي الحكومة، إبقاء الرئيس العاجز في منصبه لمتابعة أجندتهم الجشعة.
كانت هجمات نظام بوتفليقة المستمرة على الضوابط والتوازنات في البلاد، سواء كانت مؤسسية أو غير رسمية، قد أعاقت النظام تماماً. فاز بوتفليقة بأكثر من 80% من الأصوات وسط مزاعم من المعارضة بالفساد. واصلت الجزائر مسارها الفوضوي، بعهدة رئاسية رابعة اتسمت بالتوترات، بما في ذلك بين الفصائل المتنافسة داخل النظام.
الحراك وعزل بوتفليقة
بحلول ذلك الوقت، كانت صورة الرئاسة التي يعتز بها بوتفليقة كثيراً قد دُمِّرَت وقُوِّضَ النظام إلى الأبد؛ إذ حكم الرئيس خلال عهدته الأخيرة من منشأة للرعاية الصحية بعيداً عن العاصمة الجزائر، كان ملكاً منعزلاً أنهكه المرض يتمتم بتوجيهات غامضة في أذن شقيقه.
علاوة على ذلك، كان الرجل الذي زعم أنَّه مُزيح الجنرالات قد سمح للجيش بالبروز باعتباره مركز القوة الرئيس في البلاد. كانت عائلة بوتفليقة قد زرعت، خطوة بخطوة، الألغام التي ستُفجِّرها في النهاية إلى قطع.
وأثارت الإهانة الناجمة عن محاولة حصول النظام على عهدة خامسة في الرئاسة الانفجار الأخير. ففي فبراير/شباط 2019، أعلن رئيس الوزراء السابق، عبد المالك سلال، ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة.
وفي غضون أسابيع من ذلك، تظاهر الجزائريون وتنامت المسيرات واستمرت في النمو. وداخل دوائر السلطة، استُنفِدَت الصفوف من جراء استقالة العديد من حلفاء بوتفليقة المقربين من مواقع نافذة في مجاليّ السياسة والأعمال.
ولم تكن التطمينات التي أُطلِقَت في 3 مارس/آذار بأنَّ بوتفليقة لن يسعى لإكمال عهدته الخامسة كافية لتهدئة المد المتصاعد. وفي ظل وجود الجيش وحلفاء مقربين آخرين ضده، انسحب في 11 مارس/آذار. وقد خرج الشعب الذي كان يعتقد أنَّه يقوده إلى الشوارع واحتفل.
أراد عبد العزيز بوتفليقة أن يتم تذكره باعتباره أبي الشعب الجزائري، لكن انتهى به المطاف وحيداً، لديه كل الوقت للتدبر في أحد الأمثال الشعبية الجزائرية التي كان مغرماً بها: "الحياة صعبة، لكن الجزائر أصعب".
فقد حطم بوتفليقة عام 2012 لقب أكثر رؤساء البلاد مكوثاً في الحكم بعد لقب أصغر وزير في الجزائر المستقلة لكنه دخل التاريخ أيضاً كأول حاكم للبلاد يسقطه الشارع.
ويختصر وزير الخارجية الجزائري الأسبق أحمد طالب الإبراهيمي والذي عمل مع بوتفليقة في فترة السبعينيات مرحلة حكم الأخير في جملة واحدة: "لا ينكر أحد أن البلاد عرفت في عهده إنجازات في البنى التحتية والمنشآت لكنها بالمقابل عرفت انهياراً كبيراً في الأخلاق والممارسة السياسية"، في إشارة إلى انتشار الفساد وتمييع الساحة السياسية.