يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تقديم بلاده كبديل لأمريكا بعد الانسحاب من العراق، والسؤال هنا يتعلق بفرص نجاح تلك الاستراتيجية، خصوصاً بعد الفشل في لبنان.
ولا شك أن فوضى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان تُلقي بظلالها على الموقف في العراق الآن، إذ اتفقت بغداد وواشنطن على أن تسحب الأخيرة باقي قواتها الموجودة في بلاد الرافدين بنهاية العام الجاري.
وكان ماكرون الزعيم الأوروبي الوحيد الذي تحرك سريعاً في هذا الملف واتخذ خطوات عملية لتقديم بلاده كداعم وحليف للحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي بديلاً للولايات المتحدة. ففي نهاية الأسبوع الماضي، بدأ ماكرون بالفعل في سوق المبررات من أجل فرنسا بديلاً للولايات المتحدة.
قصة قمة دول جوار العراق
تناول موقع Middle East Eye البريطاني خلفيات وكواليس مؤتمر القمة الذي انعقد مؤخراً في العراق، والذي شارك فيه ماكرون بصفة "رئيس مشارك"، في تقرير بعنوان "مع رحيل الولايات المتحدة عن العراق.. فرنسا ترى فرصة لنفوذ متزايد".
مسؤولون عراقيون وأمريكيون قالوا للموقع البريطاني إنَّ الرئيس الفرنسي يريد تقديم باريس على أنها داعم وحليف استراتيجي لحكومة بغداد، وكان عقد قمة إقليمية في العاصمة العراقية مكاناً مثالياً للبدء.
بالنسبة لفرنسا، فإنَّ الانسحاب الأمريكي المخطط له نهاية العام هو فرصة للتوغل في العراق وإنشاء منصة انطلاق لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، وتوفير التوازن أمام النفوذ الإيراني، والتنافس مع تركيا، حليفة الناتو التي غالباً ما تكون على خلاف معها.
وقال مسؤولون عراقيون إنَّ الفرنسيين يعتقدون أنه بعد عقود من الحرب والضعف والاضطراب، فإنَّ العراق مستعد لاستقبالهم وسيوفر لهم قاعدة لبناء جسور سياسية واقتصادية مع دول المنطقة.
وشهد مؤتمر بغداد للشراكة والتعاون، السبت 28 أغسطس/آب، إطلاق هذه الخطة. وكان "البوابة الرسمية" التي دخلت فرنسا من خلالها إلى العراق لتقديم نفسها على أنها "شريك للحكومة العراقية في اهتماماتها وراعية لمصالح العراق الإقليمية والدولية"، على حد تعبير مسؤول عراقي.
وعلى هامش المؤتمر، صرّح ماكرون بأنَّ فرنسا ستحافظ على وجودها في العراق لمحاربة الإرهاب "مهما كانت الخيارات التي يتخذها الأمريكيون".
مؤتمر بغداد "مشروع فرنسي"
وفي هذا السياق، قال إيلي أبوعون، مدير برامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد الولايات المتحدة للسلام، لموقع Middle East Eye: "من الواضح أنَّ فرنسا ترى في التراجع الأمريكي فرصة لاكتساب نفوذ سياسي واقتصادي في العراق، بعد فشلها في لبنان".
وأضاف أبوعون أنَّ "العراق قريب من تركيا، وتبحث فرنسا عن أوراق للضغط على تركيا وتعزيز موقعها في صراعها المستمر في شرق البحر المتوسط وشمال إفريقيا". وتابع: "فرنسا لديها أجندة تنفذها".
ووفقاً لمسؤولين عراقيين، كان مؤتمر بغداد في الأصل مشروعاً فرنسياً؛ إذ استند المؤتمر على فكرة تبناها رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبدالمهدي وطرحها للمناقشة الرئيس العراقي برهم صالح خلال زيارة إلى فرنسا في فبراير/شباط 2019.
وبحسب تصريح مسؤول عراقي مطلع على المشروع لموقع Middle East Eye، على الرغم من أنَّ عبدالمهدي زار فرنسا بعد ثلاثة أشهر لتطوير الفكرة، لكنه تخلى عنها فيما بعد ووجه تركيزه نحو الصين؛ "خوفاً من اتهامه بالوقوع في أحضان فرنسا؛ لأنه يحمل الجنسية الفرنسية، ولأنه غير مقبول إقليمياً".
وقال مسؤول عراقي كبير آخر لموقع Middle East Eye: "كانت الفكرة الأصلية هي إيجاد حليف استراتيجي بديل للعراق ليحل محل الولايات المتحدة بعد انسحابها". وقفز الفرنسيون على فكرة عبدالمهدي، وطوروها، ثم طرحوها في صورة مبادرة بعنوان "دعم سيادة العراق"، أعلنها ماكرون خلال زيارته السابقة للعراق في سبتمبر/أيلول 2020.
وقال عضو في فريق رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، لموقع Middle East Eye: "رغم أنَّ فرنسا عملياً ليس لها علاقة بالمؤتمر في شكله النهائي، ومشاركتها غير مبررة، لم يستطع العراقيون استبعادهم لأنهم أصحاب الفكرة الأصلية".
وأضاف أنَّ "العراق يريد العودة إلى دور الوسيط، وأراد الفرنسيون أن يكون هذا المؤتمر تذكرة لعودتهم إلى المنطقة عبر العراق فصار نوعاً من الرباط بين الطرفين". وتابع: "قُدِّمت فرنسا بصفتها رئيسة مشاركة للمؤتمر، لكن الحقيقة هي أنَّ العراقيين هم الذين نظموا كل شيء، وتجمُع كل هذه [الدول المشاركة] كان ثمار جهود الكاظمي وعلاقاته".
ما فرص نجاح خطة ماكرون في العراق؟
ألقى الانسحاب الأمريكي الدراماتيكي من أفغانستان في الشهر الماضي واستيلاء طالبان السريع على السلطة بظلال ثقيلة على المشهد السياسي في العراق وأثار مخاوف عدد من القوى السياسية العراقية من احتمال ظهور سيناريو متكرر في العراق.
ويتمثل السيناريو الأسوأ بالنسبة لمعظم القوى السياسية غير المرتبطة بإيران فيما يسمونه "الفوضى المتعددة". ويعتقدون أنَّ هذا من شأنه أن يسفر عن اندلاع قتال بين الشيعة وداخل الأكراد.
وقال أحد قادة تيار الحكمة لموقع Middle East Eye: "فرنسا لاعب دولي مقبول إقليمياً، وهي القوة الثانية في الاتحاد الأوروبي ولا ترفضها إيران، وهو أمر مهم للغاية".
لكنّ كثيراً من المحللين، وحتى المسؤولين الفرنسيين، يرون أن الوقت قد حان لخفض سقف التوقعات بالنسبة لماكرون. فبالنسبة لفرنسا، من المرجح ألا يكون المستقبل في العراق وردياً كما تريد أن تصدقه.
أخبر السياسيون والمسؤولون موقع Middle East Eye أنه في نهاية المطاف، لا تمتلك باريس المقومات الصحيحة للنجاح على المدى القصير؛ إذ استثمرت الولايات المتحدة وإيران وتركيا والمملكة العربية السعودية ودول أخرى لها تأثير حقيقي في العراق الكثير من الأموال وأقامت علاقات قوية على مدى العقدين الماضيين. ولا تستطيع فرنسا، التي انضمت متأخراً، أن تتباهى بأنها فعلت الشيء نفسه.
وصرّح أحد أعضاء فريق الكاظمي لموقع Middle East Eye: "لن ينجح الفرنسيون في ملء الفراغ الذي قد تتركه الولايات المتحدة في العراق. إنهم يسعون فقط لتحويل المساحة المتاحة إلى موطئ قدم للتوسع في الشرق الأوسط".
وأضاف: "المنطقة من وجهة نظر الفرنسيين الآن جاهزة ومستعدة لاستقبالهم لأنَّ العراقيين مرهقون وبلدهم في حالة خراب، وكذلك سوريا، واليمن في حالة شبه مماثلة، وهذا يعني أنَّ هناك نحو 250 مليون شخص يحتاجون إلى البناء سياسياً ومالياً".
وأشار المصدر إلى أنَّ الكاظمي سمح بمشاركة فرنسا في مؤتمر بغداد احتراماً لدورها في إقامته في المقام الأول. لكن المؤتمر كان بالأساس يدور حول تعيين الكاظمي وسيطاً إقليمياً وفوزه بولاية ثانية في السلطة، وليس ماكرون. وأردف المصدر قائلاً: "إلى أي مدى سينجح أي منهم؟ هذا ما ستجيب عليه الأيام القادمة".
مشروع ماكرون في لبنان
وفي الوقت نفسه، يواجه إيمانويل ماكرون قلقاً متزايداً من البعض داخل إدارته بشأن نهج السياسة الخارجية الذي يتبعه الرئيس، والذي ركز حتى الآن على المظهر أكثر من تركيزه على الجوهر.
ففي لبنان وبعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/آب من العام الماضي، تصدر ماكرون المشهد وزار لبنان أكثر من مرة، وقدم وعوداً سخية للبنانيين وتهديدات عنيفة لزعماء لبنان، ومهلة لتشكيل حكومة، وفي نهاية المطاف لم يتحقق شيء على الأرض وانسحب ماكرون من المشهد.
وأعرب عشرات المسؤولين الفرنسيين، الذين تحدثوا لوكالة Bloomberg الأمريكية شريطة عدم الكشف عن هويتهم، عن إحباطهم من إصرار الرئيس على تقديم مبادرات رفيعة المستوى لقادة مثل فلاديمير بوتين أو دونالد ترامب، الذين غالباً ما تركوه خالي الوفاض.
حتى أنَّ أحد مستشاري فريق ماكرون اتفق على أنَّ الرئيس لم يحصل على أي شيء من بوتين، على الرغم من أنه أصر على أنَّ التعامل مع روسيا يمثل استراتيجية على المدى الطويل.
وبرغم أنَّ النظام الفرنسي يمنح الرئيس السيطرة الكاملة على السياسة الخارجية، لكن عملية صنع القرار تأخذ في الاعتبار عادةً المزيد من التوجيهات من خارج الفقاعة الرئاسية، ولا سيما من وزارة الخارجية.
لكن كشف المسؤولون أنَّ ماكرون أكثر إصراراً على المضي قدماً بمفرده أكثر مما فعل أسلافه، وقد همّش مراراً وتكراراً أعضاء حكومته، على الرغم من خبرته المحدودة في الشؤون الدولية عندما تولى منصبه.
وفي الآونة الأخيرة، أشاد الرئيس بقرار سحب الرعايا الفرنسيين والموظفين الأفغان من كابول في وقت مبكر. ومع ذلك، قال مسؤولان مطلعان على الوضع للوكالة الأمريكية إنَّ فرقه تراجعت في البداية عندما حثها سفير فرنسا لدى أفغانستان، ديفيد مارتينون، على بدء الاستعدادات للإجلاء في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وبينما أصر الدبلوماسيون على أنَّ الوضع على الأرض سيتدهور، اتهمهم مساعدو ماكرون بالمبالغة وانتقدوا مارتينون في اللقاءات الخاصة لإثارة الذعر، على حد قول أحد المسؤولين.