تُواصل الصين خطواتها لفرض الهيمنة على ما تعتبرها "مياهها الإقليمية" بإصدار مزيد من القوانين البحرية، فكيف يمكن أن تؤدي تلك الإجراءات إلى صدام مخيف مع حلفاء أمريكا ولو عن طريق الخطأ؟
وترى بكين أن بحر الصين الجنوبي يمثل مياهاً إقليمية صينية بحتة، على عكس ما تراه دول أخرى مثل الفلبين وفيتنام وتايوان وغيرها. والموقف نفسه يوجد في بحر الصين الشرقي، حيث المياه المحيطة بجزر سينكاكو التي تسيطر عليها اليابان، والتي تزعم الصين أنها خاضعة لسيادتها وتدعوها دياويو.
وعلى مدى سنوات اعتمدت بكين على ميليشيات بحرية تنتشر في بحر الصين الجنوبي، لتنفيذ مهام محددة، تفادياً لمواجهة عسكرية مفتوحة مع واشنطن، بحسب تقارير غربية قالت إن تلك الميليشيات تتشكل من المئات من سفن الصيد ذات اللون الأزرق، والآلاف من الرجال الذين يرتدون زياً بنفس اللون، في إطار جهودها لفرض هيمنتها إقليمياً.
قوانين بحرية تفرض واقعاً صينياً خالصاً
لكن يبدو أن الصين، بعد أن باتت تمتلك بحرية أكبر حجماً من نظيرتها الأمريكية بالفعل من حيث عدد القطع البحرية قد أصبحت أكثر صرامة في السعي لفرض وجهة نظرها فيما يتعلق بالمياه التي تعتبرها "مياهاً صينية بحتة".
وبعد أن أصدرت بكين، في فبراير/شباط الماضي، قانوناً يسمح لخفر السواحل الصيني باستخدام الأسلحة لحماية السيادة الوطنية للصين، وهو إجراء كان في السابق من اختصاص وحدات جيش التحرير الشعبي، دخلت منذ الأول من سبتمبر/أيلول الجاري لوائح قانونية جديدة حيز التنفيذ، ونشرت شبكة CNN الأمريكية تقريراً حول تفاصيلها وتأثيرها المحتمل.
التقرير الذي جاء تحت عنوان "سلطات القانون البحري الجديد في الصين تهدد بإحداث صراع في المياه البعيدة"، ذكر أنه منذ بداية سبتمبر/أيلول الجاري، أصبحت خمسة أنواع من السفن الأجنبية- الغاطسة، والسفن التي تعمل بالطاقة النووية، والسفن التي تحمل مواد مشعة، والسفن التي تحمل كميات كبيرة من النفط، والمواد الكيميائية، والغاز المسال أو غيرها من المواد السامة، بالإضافة إلى "السفن التي قد تعرض سلامة المرور البحري في الصين للخطر"- مُلزَمة قانوناً بتقديم معلومات مفصلة لسلطات الدولة عند دخولها "المياه الإقليمية الصينية"، وفقاً لإشعار أصدرته سلطات السلامة البحرية الصينية، الجمعة 27 أغسطس/آب.
لكن هذه التعليمات الجديدة لم تُشر إلى أي تفاصيل، وقال محللون غربيون لسي إن إن، إنها تلتفّ على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي تضمن ألا تعرقل الدول الساحلية حق مرور السفن الأجنبية إذا لم تكن مهددة لأمنها.
ماذا تريد الصين من تلك الإجراءات؟
يقول روبرت وارد، الباحث البارز في دراسات الأمن اليابانية في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن: "يبدو هذا جزءاً من استراتيجية الصين المتمثلة في بسط شباك قانونية على المناطق التي تزعم أنها خاضعة لسيطرتها… ولـ"تطبيع" هذه المزاعم"، مضيفاً: "سيكون تنفيذها صعباً، لكن بكين قد لا تهتم كثيراً بهذا بقدر اهتمامها بالبناء التدريجي لما تعتبره أساساً قانونياً".
ويرى كثيرون أن التركيز الرئيسي لقانوني الصين الجديدين هو بحر الصين الجنوبي، الذي تدعي بكين أن كله تقريباً خاضع لسيادتها، رغم مطالبات الفلبين وفيتنام وماليزيا وبروناي وإندونيسيا وتايوان بحقوقها فيه.
وفي مارس/آذار الماضي، كانت سفن صينية تدور المزاعم حول كونها ميليشيات بحرية قد تصدرت عناوين الأخبار عندما احتشدت أكثر من 200 سفينة صيد صينية حول منطقة الشعاب الصخرية "ويتسون ريف" Whitsun Reef، وهي ملكية فلبينية في سلسلة جزر "سبراتلي" Spratly الواقعة في بحر الصين الجنوبي.
ووقتها قال محللون في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) في سنغافورة إنهم لم يروا قط عمليةً صينية بحرية بهذا الحجم من قبل، وفي تناولهما للواقعة، كتب سمير بوري وغريغ أوستن، وكلاهما زميل بارز في المعهد، الأسبوع الماضي: "واقعة (ويتسون ريف) لم يسبق لها مثيل من حيث الحجم، والأهم من ذلك، من حيث طول المدة، فقد تجمَّع أكبر عدد شهدناه في أي وقت من سفن الصيد الصينية على تخوم إحدى مناطق الشعاب الصخرية في أرخبيل سبراتلي، وبقيت هناك لعدة أسابيع".
وتعليقاً على القانون الصيني الأخير الذي دخل حيز التنفيذ أول سبتمبر/أيلول الجاري، وصف قائد خفر السواحل الأمريكي في المحيط الهادي، فريق البحرية مايكل مكاليستر، القانون الجديد الجمعة بأنه "مقلق كثيراً"، وقال لشبكة CNN إنه في حال تطبيقه: "فسيمهد لاضطراب الاستقرار وصراعات محتملة" في بحر الصين الجنوبي.
وأعربت الولايات المتحدة عن رفضها الحاسم للامتثال لمطالب الصين في المنطقة، حيث تنفذ بشكل روتيني عمليات حرية الملاحة، التي تطعن في مزاعم بكين بسيادتها على الجزر المتنازع عليها. ورفض وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، في خطاب ألقاه في سنغافورة في يوليو/تموز، ما وصفه بمزاعم الصين غير المشروعة بسيادتها على الممر المائي الواسع الغني بالموارد.
هل تتفجر الأوضاع بين اليابان والصين؟
لكن اضطراباً أكبر قد يحدث في بحر الصين الشرقي، والمياه المحيطة بجزر سينكاكو التي تسيطر عليها اليابان، والتي تزعم الصين أنها خاضعة لسيادتها وتدعوها دياويو.
يقول أليسيو باتالانو، أستاذ الحرب والاستراتيجية في جامعة كينغز كوليدج بلندن: "ممارسة حقوق الدولة الساحلية خطوة مهمة في تعزيز السيادة من خلال الممارسة. ولكن في مناطق مثل المياه المحيطة بجزر سينكاكو، سيؤدي التنفيذ الصارم لهذه القوانين الملاحية حتماً إلى صدام مع سلطات خفر السواحل في الدول المعارضة التي تطالب بحقوقها مثل اليابان".
وبالنظر إلى الأرقام، فالقوى التي قد تؤدي إلى نشوب صدام كانت حاضرة بشكل دائم تقريباً هذا العام. فوفقاً لخفر السواحل الياباني، دخلت سفن خفر السواحل الصينية المياه الإقليمية لليابان- على بعد 12 ميلاً بحرياً من الأراضي اليابانية- 88 مرة هذا العام. وقال خفر السواحل الياباني إنه في المنطقة المتاخمة- أي المياه بين الجزر ولكن ليس ضمن مسافة 12 ميلاً من الشاطئ- سيّرت الصين 851 دورية.
لكن الصين تقول إن سفن خفر سواحلها لم تفعل أكثر من تسيير دوريات في مياهها حول جزرها دياويو. وترى بكين أن السفن اليابانية هي المتطفلة، وسيكون من حق الصين استخدام القوة للتخلص منها.
وقالت صحيفة Global Times الصينية المملوكة للدولة هذا الأسبوع نقلاً عن خبير عسكري صيني: "إذا كانت السفينة عسكرية وتعدت على المياه الإقليمية للصين دون إشعار مسبق فستعتبر استفزازاً خطيراً، وسيتولى الجيش الصيني مسؤولية تفريقها أو اتخاذ إجراءات أقوى لمعاقبة المعتدين".
وفي ظل هذه التطورات المقلقة يمثل البيان الذي صدر عن قمة الرئيس الأمريكي بايدن ورئيس وزراء اليابان، في مايو/أيار الماضي، وما تضمَّنه من إعلان الولايات المتحدة "دعمها الثابت للدفاع الياباني بموجب المعاهدة الأمريكية اليابانية للتعاون والأمن المُتبادَل، باستخدام مجموعة كاملة من قدراتها، بما في ذلك القدرة النووية"، علامة استفهام كبرى.
إذ دفعت تلك العبارة الصينيين وقتها لأن يوجهوا سؤالاً يبدو بديهياً: هل الولايات المتحدة مستعدة حقاً لخوض حرب نووية مع جمهورية الصين الشعبية بسبب خلاف إقليمي بين الصين واليابان؟
ارتفاع فرص اندلاع مواجهة مسلحة
الصين تكثف ضغوطها القانونية على جزر سينكاكو منذ عام 2013، حين أعلنتها جزءاً من منطقة تعريف الدفاع الجوي (ADIZ)، وفرضت قواعد مشابهة لقواعد سلطات السلامة البحرية الأخيرة.
صحيح أن إعلان منطقة تعريف الدفاع الجوي هذا لم يسفر عن اشتباكات مسلحة، ولكن، مثلما يشير العديد من المحللين، غالباً ما ينتج أي صدام عن طريق الخطأ، وليس التخطيط الدقيق، مثل رغبة قائد ميداني في إظهار قوته، أو تعليمات خاطئة أو سوء فهم، أو عطل تقني لسفينة أو طائرة، وأي من هذا قد يكون الشرارة التي تُشعل صداماً.
وفي حالة الخطاب العدائي الحالي بين الصين واليابان، وحليفتها الولايات المتحدة، فسيكون من الصعب التراجع إذا انطلقت النيران. ويرى كثير من المراقبين أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يمثل عاملاً إضافياً من عوامل التوتر، في ظل الخطوات الصينية الأكثر جرأة، والتي قد ترد عليها إدارة بايدن بصورة أكثر شراسة حتى تمحو صورة الضعف التي التصقت بها في أعقاب عودة حركة طالبان لحكم أفغانستان والفوضى التي صاحبت عمليات الإجلاء، والتي نتج عنها انتقادات عنيفة من الجمهوريين للإدارة الديمقراطية.
وفي ظل اعتبار واشنطن بكين خصمها الاستراتيجي الأبرز، وتحول الحرب التجارية بين الجانبين إلى حرب باردة شاملة في جميع المجالات، وأبرزها وباء كورونا، الذي تتهم إدارة بايدن الصين بأنها لا تتصرف بشفافية بشأنه، بينما تقول بكين إن الوباء تسرّب من أحد المعامل الأمريكية، من الطبيعي أن تكون الإجراءات البحرية الصينية سبباً واقعياً تماماً لمزيد من القلق من أن تخرج الأمور عن السيطرة.