ربما كانت أبرز توابع زلزال الانسحاب من أفغانستان إعادة إحياء الاتحاد الأوروبي فكرة تشكيل جناح عسكري بعيداً عن حلف الناتو، رغم المحاولات الفاشلة من قبل، وكان لجو بايدن دور كبير في ذلك التفكير.
وترجع فكرة تشكيل جيش خاص بالقارة العجوز إلى عقدين من الزمان على الأقل، وتكررت المحاولات وكان أحدثها خلال الشهور القليلة الماضية، بدفع من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
ولتلك القصة أكثر من جانب أهمها إذا ما كان تأسيس مثل هذا الجيش أو القوة أو الجناح العسكري ممكناً من الناحية العملية، خصوصاً بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد بريكست.
ونشرت صحيفة The Washington Post الأمريكية تقريراً بعنوان "هل يحتاج الاتحاد الأوروبي جيشاً يخصه؟"، رصد التحركات المكثفة مؤخراً من جانب قادة الاتحاد في هذا المسار، في أعقاب الانسحاب من أفغانستان، والذي كان إجمالاً قراراً أمريكياً اتخذه بايدن بطريقة منفردة.
كارثة أفغانستان أعادت فتح الجراح
ولا شك في أن فترة وجود الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في البيت الأبيض وسياساته الانعزالية وشعار "أمريكا أولاً" كان لها أثر ضخم في إعادة إحياء فكرة تكوين قوة عسكرية أوروبية مستقلة، ووصل الأمر إلى حد وصف ماكرون حلف الناتو بأنه "ميت إكلينيكياً" وما أثراه ذلك من جدل وانتقادات.
وبعد خروج بريطانيا بالفعل من الاتحاد الأوروبي وتفعيل اتفاقية بريكست، ازدادت الحاجة -من وجهة نظر قادة أوروبيين أبرزهم ماكرون– لتشكيل جناح عسكري للاتحاد. لكن فوز بايدن بالرئاسة ورفعه شعار "أمريكا عادت" تسبب في تهدئة خواطر الحلفاء بصورة كبيرة.
لكن الانسحاب الفوضوي وعمليات الإجلاء من أفغانستان أعاد إحياء النقاش المستمر -صعوداً وهبوطاً- منذ عقود داخل الاتحاد الأوروبي، ليتم طرح السؤال مرة أخرى بصورة صاخبة أكثر من أي وقت مضى: هل يحتاج الاتحاد الذي يضم 27 دولة إلى جيش يخصه؟
الاتحاد الأوروبي مشروع سلام بمعناه الأمثل. إذ كان يُفترض أن يؤدي الترابط الاقتصادي إلى تفادي النزاعات بين أعضائه، وقد نشأ عنه أكبر كتلة تجارية في العالم. ورغم الإقرار بهذا النفوذ، يرى بعض أبرز ساسته منذ سنوات أن الاتحاد الأوروبي ليصبح قوة عالمية حقيقية، يحتاج لقوة دفاعية خاصة به، قوة مستقلة عن حلف الناتو الأمريكي الأوروبي ولا تعتمد على الولايات المتحدة.
تحديات من الصعب تجاوزها
هذا الموضوع مثير للجدل، والعوامل الجغرافية السياسية لها مصاعبها. يقول العديد من الخبراء إن فكرة أن يشكل الاتحاد الأوروبي جيشاً مستقلاً خاصاً به غير واقعية. لكن هذا الجدل المحتد، الذي خمد قليلاً بعد انتخاب الرئيس بايدن، اشتد مرة أخرى، بعد أن رفض بايدن دعوات لإبقاء القوات الأمريكية في أفغانستان بعد الموعد النهائي المحدد في 31 أغسطس/آب.
يقول القادة الأوروبيون إن ذلك لم يترك أمامهم أي خيار سوى وقف عمليات الإجلاء، والتخلي عن الآلاف من مواطنيهم وحلفائهم الأفغان. ومن جانبه، أكد رئيس السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أن قوة مشتركة للنشر السريع قوامها 5000 جندي كان يمكن أن تساعد في تأمين مطار كابول وأن استراتيجية أمنية أوروبية منسقة كانت لتمنح الاتحاد المزيد من التأثير على "توقيت وطبيعة الانسحاب".
وقال بوريل بعد اجتماع لوزراء دفاع دول الاتحاد الأوروبي في سلوفينيا يوم الخميس 2 سبتمبر/أيلول: "السبيل الوحيد للاستمرار هو توحيد قواتنا وتعزيز قدراتنا وإرادتنا للعمل أيضاً".
وأعرب قادة آخرون عن تأييدهم لما يسمى "الاستقلال الاستراتيجي"، وهو مصطلح طنان غامض يشير إلى ضرورة أن يصبح الاتحاد الأوروبي أكثر اكتفاءً ذاتياً في مجموعة من القضايا، لا سيما الأمن. والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أحد أكبر الداعمين لهذه الفكرة، وقد دعا إلى تشكيل "جيش أوروبي حقيقي" منذ توليه منصبه وانتقد حلف شمال الأطلسي (الناتو) واصفاً إياه بالميت. لكن بعض الدول، وخاصة دول البلطيق، تخشى نسخ تجربة الناتو ويُستبعد أن تدعم قوة مشتركة جديدة.
والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي أيدت يوماً مقترح ماكرون بإنشاء جيش أوروبي، كانت مع ذلك من أشد المؤيدين لحلف شمال الأطلسي وكذلك القواعد العسكرية الأمريكية في بلدها. لكن أرمين لاشيت، الذي يتنافس على خلافتها، قال مؤخراً إنه لا بد من تعزيز قوة أوروبا "بحيث لا نضطر أبداً إلى ترك الأمر بيد الأمريكيين".
ودعت وزيرة الدفاع الألمانية أنغريت كرامب كارينباور يوم الخميس إلى نهج آخر، فقالت إنه لا بد أن يكون للاتحاد الأوروبي استراتيجية أمنية منسقة تضعه على "قدم المساواة" مع الولايات المتحدة، لكن هذا لا يُفترض أن يتطلب تشكل قوة أوروبية جديدة. وكتبت على تويتر: "القدرات العسكرية في بلدان الاتحاد الأوروبي متوفرة، وأشارت إلى أن "تحالف الراغبين" قد يحتشد بعد تصويت على مستوى الاتحاد.
هل يريد قادة أوروبا تفادي "إحراج" أفغانستان؟
على الجانب الآخر، يقول بعض المنتقدين إن القادة الأوروبيين يحاولون النأي بأنفسهم عن الفشل الذريع في أفغانستان رغم دعمهم العام لقرار الرحيل. فألمانيا، على سبيل المثال، رفضت إعادة الجنود للمساعدة في إحلال الاستقرار بالبلاد الشهر الماضي بعد أن حققت طالبان مكاسب كبيرة على الأرض.
وقال الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ بعد وقت قصير من سقوط العاصمة الأفغانية كابول في أيدي طالبان دون قتال، إنه رغم ضغوط الولايات المتحدة للانسحاب، وافق الحلف في النهاية. وقال: "غادرنا معاً".
لكن الجدل المتجدد بين القادة الأوروبيين يعكس أيضاً تنامي شعور الإحباط من بايدن، الذي قال للعالم إن "أمريكا عادت" لكن سياساته الخارجية كانت تشبه بعض مواقف سلفه ترامب.
تقول ناتالي لوسو، التي ترأس اللجنة الفرعية للأمن والدفاع في البرلمان الأوروبي: "ما حدث في أفغانستان كان لحظة حاسمة". وقالت إنه حين قررت الولايات المتحدة الانسحاب من البلاد، لم يحدث تنسيق يذكر مع حلفائها. ورفض بايدن الدعوات الأوروبية إلى "انسحاب مرهون بشروط"، ورفض تمديد الموعد النهائي للانسحاب.
تقول ناتالي، عضو حزب ماكرون السياسي: "الولايات المتحدة لا ترغب في أن تكون حامية العالم. ولا بد أن يتوقف الأوروبيون عن التركيز على ما تفعله الولايات المتحدة وما لا تفعله".
ورغم هذا الخطاب الحماسي الجديد، لا تزال فكرة تشكيل جيش أوروبي في بعض أركان القارة مجرد خيال، ومدعاة للسخرية في مناطق أخرى. (أحد الحسابات الساخرة على تويتر مكرّس للسؤال، "ألا يوجد جيش أوروبي حتى الآن؟"). ويقول المحللون إنه توجد عقبات كبيرة على أقل تقدير.
تقول ناتالي توتشي، التي دعت إلى تشكيل قوة استراتيجية مستقلة في وثيقة تحدد عقيدة الاتحاد الأوروبي الدفاعية عام 2016، إن الإرادة السياسية لتشكيل ونشر مثل هذه القوة اختفت.
أوروبا موحدة اقتصادياً فقط
تقول ناتالي، مديرة مركز Istituto Affari Internazionali لأبحاث الشؤون العالمية: "لا توجد إرادة سياسية كافية لترجمة هذا إلى شيء عملي. نحن لسنا مستعدين لنرى حقائب جثث تعود إلى الوطن، وأفغانستان لن تغير ذلك. إنها مشكلة سياسية لا يتوقف الأوروبيون عن تجنبها".
ومن العقبات الكبرى الأخرى أمام تشكيل قوة مشتركة -أو حتى استراتيجية أمنية منسقة- أن الاتحاد الأوروبي سيصبح ملزماً بتوحيد قراراته الخارجية واتخاذها بالإجماع، وفقاً لما قاله عظيم إبراهيم، مدير معهد نيولاينز للاستراتيجيات والسياسات. وكثيراً ما أعاقت فكرة الإجماع عملية صنع القرار في الاتحاد.
يقول إبراهيم: "السياسة الخارجية الأوروبية ليست ناجحة. والاتحاد الأوروبي لا يغنّي على النغمة نفسها كما كان يفعل من قبل. وحتى لو تمكن من تشكيل هذه القوة فعلياً، فاحتمال موافقة جميع البلدان بالإجماع على مسار عمل معين مستحيل عملياً".
ومن الأسئلة الشائكة الأخرى عن هذه القوة المشتركة: من سيدفع ثمنها؟ فالاتحاد الأوروبي خصص أكثر من 9 مليارات دولار لصندوق الدفاع الأوروبي حتى عام 2027، لكن الخبراء يقولون إن كل دولة على حدة ستحتاج أيضاً إلى زيادة إنفاقها. وهذا قد يكون صعباً، بالنظر إلى أن تسع دول أوروبية فقط في طريقها لإنفاق ما لا يقل عن 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع هذا العام، للوفاء باتفاقية الناتو.
يقول فابريس بوثير، مدير السياسات السابق في حلف الناتو: "أعتقد أن ما ينقصنا هنا إجابة السؤال: لأي غرض تريد جيشاً؟ ماذا سيفعل؟ يردع الروس؟ يضمن المرور إلى البحار الأوروبية؟ يلاحق الأشرار والإرهابيين؟".
ونظرياً، كانت هذه هي الأسئلة التي ناقشها وزراء دفاع دول الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي في اجتماعات متتالية، ناقشوا خلالها وثيقة "بوصلة استراتيجية" وشيكة ستحدد المخاطر الأمنية للاتحاد وأهدافه السياسية.
وهذه الوثيقة، التي ستنشر العام المقبل، ستكون الاختبار الأول لمدى جدية قادة الاتحاد الأوروبي في تعزيز استراتيجيتهم الدفاعية، وفقاً لما قالته جورجينا رايت، رئيسة برنامج أوروبا في معهد مونتين. وقالت إن المسؤولين سيستعينون بها لتقييم قدراتهم العسكرية ومناقشة أفضل السبل لحشد مواردهم، ويرجح أن تتضمن مجموعة من المقترحات، من الأمن السيبراني إلى العمليات الفضائية. لكن طريق تشكيل جيش أوروبي ربما يكون "طويلاً".
تقول جورجينا: "مثلما هو الحال مع كثير من قرارات السياسة الخارجية الخاصة بالاتحاد الأوروبي، نرى طموحات كثيرة، ولكن حين نأتي للنتائج العملية، فغالباً لا ترى قاسماً مشتركاً كبيراً. ولنرَ في هذا الشأن إن كان الواقع يتوافق بالفعل مع هذا الطموح المبدئي".