نشر موقع MEE تقريراً حول انتشار ظاهرة ركوب الدراجات الهوائية في لبنان واتساعها بشكل ملحوظ بعد أزمة الوقود وارتفاع الأسعار في البلاد. ويروي الموقع قصة المهندس اللبناني نذير حلواني، البالغ من العمر 34 عاماً، الذي كان يحلم منذ أكثر من 10 سنوات بتحويل مسقط رأسه طرابلس إلى مدينة صديقة للدراجات الهوائية.
ورغم أنَّ هذه الرؤية قد تبدو بعيدة المنال في ظل التمدد العمراني للمدينة ذات الكثافة السكانية العالية الواقعة شمالي لبنان، فإن شوارعها المسطحة التي تعود إلى قرون، المُصمّمة في البداية لسير الخيول والمسافات القصيرة بين طرقاتها، تُسهّل سير الدراجات في معظم أنحاء المدينة.
قال حلواني، الناشط في مجال تشجيع ركوب الدراجات لموقع Middle East Eye البريطاني: "كنت محظوظاً لأنَّ بلدية طرابلس منفتحة على الفكرة".
الأزمة الاقتصادية بلبنان جعلت الدراجات الهوائية بديلاً ممكناً
منذ تعيينه عمدة للدراجات الهوائية في مدينة طرابلس اللبنانية، في مارس/آذار 2019، قاد حلواني الجهود المبذولة لإنشاء ممرات للدراجات في المدينة ونشر ثقافة استخدام الدراجات الهوائية، باعتبارها وسيلة من وسائل النقل السهلة الصالحة لمعظم الانتقالات داخل المدن.
لكن جائحة كوفيد-19 وسلسلة الأحداث المؤسفة التي تزامنت مع الأزمات السياسية والاقتصادية غير المسبوقة في لبنان أوقفت التطورات الواعدة لنذير حلواني مع بلدية طرابلس.
أضرم محتجون غاضبون النار في مبنى بلدية طرابلس، في يناير/كانون الثاني، احتجاجاً على إجراءات الإغلاق الصارمة المفروضة لمواجهة انتشار فيروس كورونا المستجد، التي زادت من صعوبة الحياة على الفقراء.
بالإضافة إلى ذلك، واجه عمدة الدراجات الهوائية في طرابلس صعوبة في إقناع المواطنين اللبنانيين بالبدء في استخدام الدراجات الهوائية وسيلة للنقل، بدلاً من السيارات. قد يكون حلواني فشل سابقاً في إقناع مواطني طرابلس بالتحوّل إلى الدراجات الهوائية، لكن الأزمة الاقتصادية الطاحنة في لبنان والارتفاع المستمر في تكاليف الوقود جعلا مستقبل ركوب الدراجات يبدو بديلاً ممكناً اليوم أكثر من أي وقت مضى.
المرأة اللبنانية والدراجات الهوائية
تواصل أحد أساتذة الهندسة بالجامعة اللبنانية مع نذير حلواني في عام 2010 ليشاركه طريق الوصول إلى الجامعة بالدراجة الهوائية. وجد حلواني حينها أنَّ استخدام الدراجة الهوائية أرخص كثيراً من امتلاك سيارة أو استقلال سيارة أجرة كل يوم للذهاب إلى الجامعة.
قال حلواني لموقع "MEE" البريطاني: "في البداية لجأت إلى ركوب الدراجة الهوائية انطلاقاً من زاوية اجتماعية واقتصادية". أصبح حلواني معروفاً بـ"رجل الدراجة الهوائية" بعد فترة وجيزة من استخدامه لها وسيلة للوصول إلى الجامعة، وهذا وضع شاذ في بلد لا يركب فيه الدراجات سوى عدد قليل من المواطنين.
جاءت الحملة من أجل تغيير ثقافة الاعتماد على السيارات في كل الانتقالات على نحوٍ طبيعي. ذات يوم في عام 2014، بينما كان حلواني يسير في حي باب الرمل، أحد أحياء طرابلس الأكثر تحفظاً، رأى شيئاً ساهم في تغيير وجهة نظره: امرأة محجبة تركب دراجتها. عاد حلواني إلى المنزل في ذلك المساء وكتب منشوراً على موقع فيسبوك يسأل عمّا إذا كان أي شخص يعرف هذه المرأة حتى يتسنى له تصويرها في مرة لاحقة.
كانت المفاجأة أنَّه تلقى العديد من الردود تبلور صورة لوجود نوع من المجتمع غير الرسمي لراكبات الدراجات -محجبات وغير محجبات- في المدينة.
بعد ذلك بفترة وجيزة، بدأ حلواني مشروعاً بعنوان "حواء والدراجات الهوائية"، وهو عبارة عن بحث استكشافي فوتوغرافي يرصد ركوب النساء الدراجات الهوائية في بيئات محافظة ومليئة بالتحديات. منذ ذلك الحين التقط حلواني صوراً لحوالي 28 امرأة تركب الدراجة الهوائية في مدينة طرابلس وحدها، ونظّم العديد من الفعاليات الجماعية لقيادة الدراجة عبر مختلف أنحاء البلاد.
ما زالت هناك عقبات أمام هذه المبادرة
واصلت الأمور تقدّمها في عام 2019 عندما أصبح حلواني عمدة الدراجات الهوائية في طرابلس، بعد أنّ عرضت منظمة "The Chain Effect" غير الربحية الفكرة على الحكومة اللبنانية. في ذلك الوقت كان راكب الدراجات ورجل الأعمال اللبناني فيليب داغر هو عمدة الدراجات الهوائية في بيروت.
قال حلواني: "في اللحظة التي أصبحت فيها عمدة الدراجات الهوائية في طرابلس، اكتسبت سلطة غير رسمية للضغط من أجل التشجيع على استخدام الدراجة الهوائية".
واجه حلواني على مدار سنوات عمله قائمة طويلة من الرافضين، من ضمنهم سائقو سيارات الأجرة ومديرو محطات الوقود.
يقول حلواني: "يكره سائقو سيارات الأجرة جرأتنا في استخدام الدراجات للتنقل، لأنَّه كلما زاد عدد راكبي الدارجات الهوائية قلَّ عدد مستخدمي سيارات الأجرة، ومن ثمَّ تقلّص حجم نشاطهم التجاري".
أشار حلواني أيضاً إلى أنَّ أصحاب محطات الوقود طلبوا منه في عدة مناسبات مغادرة المحطة عندما كان يذهب لملء إطارات دراجته.
الدعوة إلى استخدام الدراجات الهوائية
ظلّت منظمة "The Chain Effect"، التي أسستها زينة حوا وإيلينا حداد ونديدة رعد، في عام 2014، تكافح طوال سنوات في بيروت من أجل الترويج للدراجات الهوائية باعتبارها وسيلة نقل أكثر ملائمة. تهتم المنظمة بتشجيع ما يسمى بـ"التنقل الناعم"، الذي يشمل الدراجات الهوائية والمشي ويركز على الحفاظ على صحة الأشخاص والبيئة.
ظهرت المبادرة، التي تهدف إلى تشجيع ثقافة ركوب الدراجات، بسبب القلق الذي شعر به المنظمون عند التنقل في شوارع بيروت المزدحمة بالسيارات، بالإضافة إلى إمكانات التغيير التي لاحظوها.
يقضي الشخص في لبنان حالياً متوسط ساعة ونصف الساعة يومياً على الطريق بسبب الازدحام المروري، الذي يُكلّف لبنان 3 مليارات دولار أو ما يعادل من 8% إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. بالإضافة إلى ذلك، يعتمد حوالي 80% من الأشخاص في لبنان على السيارات الخاصة. في المقابل يستخدم 1.7% فقط شبكة الحافلات غير الرسمية، في حين يعتمد أقل من 1% على المشي أو الدراجات الهوائية.
رغم أنَّ حوالي 50% من الانتقالات في منطقة بيروت الكبرى تقل عن مسافة 5 كيلومترات، تفاقمت هيمنة السيارات على الشوارع نتيجة الحوافز الحكومية ومشاريع البنية التحتية في تسعينيات القرن الماضي، حيث استثمرت الدولة اللبنانية على نحوٍ كبير في البنية التحتية التي تخدم الانتقالات بالسيارات الخاصة مثل توسيع شبكات الطرق وبناء الطرق السريعة. قدّمت البنوك أيضاً قروضاً لمن يرغب في شراء سيارة ودعم البنك المركزي 90% من تكاليف الوقود.
البنية التحتية ووسائل النقل العام
في المقابل، لم تهتم الدولة اللبنانية على مدى الـ50 عاماً الماضية بالإنفاق على وسائل النقل العام ولم تخطط لإنشاء شبكة مواصلات عامة. تقول إيلينا حداد، واحدة من مؤسسي منظمة "The Chain Effect" إنَّ الافتقار إلى وسائل النقل العام المشتركة كان نتيجة للخيارات السياسية المُتّخذة خلال فترة الحرب الأهلية وما بعدها، لإبقاء الأحياء والمناطق منفصلة عن بعضها البعض والحفاظ على الانقسامات الطائفية، والاستفادة من اقتصاد الوقود والسيارات الذي يسيطر عليه الزمرة السياسية الحاكمة.
نتيجة لذلك، باتت السيارات تسيطر على معظم مساحة شوارع بيروت وتغلق الأرصفة وتشجع ثقافة لا يستطيع الناس بموجبها تخيّل وجود بدائل.
استخدم مؤسسو منظمة "The Chain Effect" فن الشارع للترويج لمبادرتها من خلال رسم لوحات جدارية في المواقع الرئيسية ذات الازدحام المروري الشديد، توضح للناس الدور الذي يمكن أن تؤديه الدراجة الهوائية في اختصار الوقت، وتيسير حركة الانتقال في شوارع المدن والأحياء اللبنانية.
نظَّم المؤسسون أيضاً العديد من الفعاليات لنشر الوعي حول إمكانية التغيير، من بينها فعالية "اذهب إلى عملك بالدراجة" (Bike to Work)، التي أُطلقت عام 2017 لتشجيع ثقافة استخدام الدراجة الهوائية من خلال توفير دراجات مجانية وإنشاء محطات وقوف وركوب مزوّدة بالعديد من الخدمات، مثل تقديم القهوة والوجبات الخفيفة، فضلاً عن إنشاء ممرات مؤقتة للدراجات حتى يستطيع الناس خوض تجربة ركوب الدراجات بدون عراقيل.
استمرّت هذه الفعالية على مدار 3 سنوات متتالية، لكنها توقفت خلال العامين الماضيين بسبب جائحة فيروس كورونا والأزمات المختلفة في لبنان.
وسيلة صالحة للمسافات القصيرة
رغم كل الجهود المبذولة تواجه منظمة "The Chain Effect" العديد من العقبات. يُنظر غالباً إلى الدراجة على أنَّها أداة للرياضة أو الترفيه بدلاً من كونها وسيلة صالحة للمسافات القصيرة. علاوة على ذلك يُنظر إلى السيارة باعتبارها وسيلة التنقل المرموقة، وعدم امتلاكها يعتبر علامة على الفقر المؤسف.
تثير أيضاً البنية التحتية السيئة التخطيط مخاوفَ مشروعة تتعلق بالسلامة. قالت إيلينا حداد: "وصَفَنا الناسُ بالجنون، وأنَّنا ندعوهم إلى الموت على الطرق"، مشيرة إلى أنَّ مفهوم التنقل يرتبط عند الناس بالطرق الواسعة والسريعة، متجاهلين الطرق الأصغر التي يلائمها أكثر استخدام الدراجات.
ومع ذلك، حاولت المنظمة التغلّب على مثل هذه العقبات من خلال بدء مناقشات مجتمعية والدعوة إلى التغيير الهيكلي والتفكير الإبداعي. على سبيل المثال، أنشأ المنظمون خريطةً توضّح الطرق الملائمة لسير الدراجات في بيروت، استناداً إلى معلومات راكبي الدراجات الحاليين، في ظل الافتقار إلى البنية التحتية المُخصّصة لركوب الدراجات الهوائية.
الجمود السياسي
لا عجب أنَّ الجهود المتتابعة للمنظمة تعرقلت جراء الجمود الحكومي في البلاد، بالإضافة إلى الإحجام عن تنفيذ الخطط الموعودة. في عام 2018، ثبّتت المنظمة موقفاً للدراجات الهوائية في شارع عبدالعزيز بمنطقة الحمرا في بيروت، بالتعاون مع مبادرة أطلقتها الجامعة الأمريكية في بيروت. ومع ذلك، ألحقت بلدية بيروت في العام الماضي أضراراً كبيرة بهذا المرفق أثناء مراحل تنفيذ أعمال الطرق وتعرّض للإزالة في نهاية المطاف.
قالت إيلينا حداد لموقع "Middle East Eye" البريطاني: "هذا يبين كيف أنَّنا في صراع دائم مع حكومتنا". وفي أبريل/نيسان 2019، أعلن رئيس بلدية بيروت، جمال عيتاني، عن إنشاء مسار للدراجات الهوائية يبلغ طوله 16 كيلومتراً، مشيراً إلى أنَّ العمل في هذا المسار كان من المقرر أن يبدأ خلال الصيف، وأنَّ التمويل والتصميم التفصيلي موجود بالفعل. ومع ذلك لم تظهر أي علامة على إنشاء أي مسارات بعد مرور عامين و4 أشهر.
قال عيتاني لموقع "Middle East Eye": "لسوء الحظ، توقفت الأمور قليلاً في 19 أكتوبر/تشرين الأول، ثم اتصلنا بالمقاول لكي يبدأ التنفيذ، لكنه اعتذر بسبب انخفاض قيمة العملة".
قالت منظمة "The Chain Effect" إنَّها تواصلت مراراً مع رئيس البلدية نفسه ومكتبه وأعضاء مجلس البلدية في بيروت، لمتابعة سير العمل في هذا المشروع منذ الإعلان عنه لأول مرة، لكنهم لم يتلقوا أي رد.
عدالة التنقل
يواجه لبنان منذ أشهر حتى يومنا هذا أزمة وقود حادة، أدَّت إلى فترات انتظار طويلة للسيارات أمام محطات الوقود، وأغرق البلد المنهار اقتصادياً بالفعل في ظلام دامس.
يضطر العديد من اللبنانيين الآن في ظل هذا الوضع المذري إلى إعادة التفكير في كيفية التعامل مع أزمة التنقل الحالية بالبحث عن حلول بديلة صالحة للتطبيق.
وما زاد الوضع سوءاً هو إعلان البنك المركزي، في 11 أغسطس/آب، أنَّه سيُنهي دعم هذا المورد الشحيح، الأمر الذي على الأرجح سيؤدي إلى ارتفاع أسعار البنزين. دفعت أزمة الوقود وجائحة فيروس كورونا عدداً من الأشخاص إلى التحوّل إلى الانتقال بالدراجات بدلاً من الانتظار لساعات طويلة أمام محطات الوقود.
بدأ خالد العمري، مدير مختبرات مركز مراقبة الجودة، استخدام الدراجة الهوائية بدلاً من السيارة في يونيو/حزيران 2020، وخسر منذ ذلك الحين 35 كيلوغراماً من وزنه. قال العمري: "نصحت فريق عملي بشراء دراجة والذهاب بها إلى العمل بدلاً من شراء سيارة".
في السياق ذاته، قالت قمر الشعبان، مهندسة السير في بلدية طرابلس "أعتقد أنَّ الوقت المناسب قد حان لتوفير إمكانيات جديدة للنقل في المدينة".