غادر آخر عسكري أمريكي أفغانستان وأصبحت البلاد للمرة الأولى منذ 2021 خالية من القوات الأجنبية وعادت حركة طالبان للحكم من جديد، فماذا سيحدث الآن؟
انتهت أطول الحروب الأمريكية بصورة حزينة للولايات المتحدة وبانتصار لا ريب فيه لحركة طالبان، وكان مشهد مغادرة آخر طائرة أمريكية لمطار كابول الدولي أبرز تعبير عن نتيجة تلك الحرب، فالوجوم يخيم على وجوه العسكريين الأمريكيين بينما يطلق مقاتلو طالبان نيراناً كثيفة في الهواء احتفالاً وبهجة. هكذا لخصت صحيفة نيويورك تايمز الموقف في تقرير لها بعنوان "نهاية حزينة وبداية يكتنفها الغموض".
كانت آخر طائرة أمريكية قد غادرت مطار كابول عصر الإثنين 30 أغسطس/آب (بالتوقيت الأفغاني المحلي)، واستولى مقاتلو طالبان على المطار بشكل كامل، بعد أن استمرت عمليات الانسحاب الأمريكي والغربي نحو أسبوعين منذ استولت الحركة على العاصمة كابول.
وبين مشاهد سيطرة مقاتلي طالبان على المطار وفرحتهم الغامرة "بتحرير بلادهم بالكامل من الاحتلال الأجنبي، مقابل الغضب والمرارة والشعور بالهزيمة على وجوه وألسنة العسكريين والدبلوماسيين الأمريكيين والغربيين، بدأت على الفور تساؤلات حول "ماذا سيحدث الآن؟".
متى تتم إعادة تشغيل مطار كابول؟
يحمل هذا السؤال دلالة خاصة لعدد من الأسباب، أولها وجود أعداد غير محددة من المدنيين الأمريكيين والغربيين لم يتم إجلاؤهم بعد من أفغانستان، إضافة إلى الآلاف من الأفغان المتعاونين مع القوات الغربية طوال 20 عاماً ويرغبون في مغادرة البلاد. ونظراً لكون أفغانستان دولة حبيسة بلا شواطئ، يمثل مطار كابول الدولي المنفذ الوحيد تقريباً للمغادرة.
وفي هذا السياق، كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قد قالت إنها تتوقع أن تواصل حركة طالبان السماح للأمريكيين وغيرهم بمغادرة أفغانستان بأمان بعد إتمام الانسحاب العسكري الأمريكي. لكن المخاوف تتعلق بكيفية مغادرة هؤلاء إن لم يكن هناك مطار يعمل.
ويبقى بالبلاد عشرات الآلاف من الأفغان يواجهون الخطر، مثل المترجمين الذين عملوا مع الجيش الأمريكي والصحفيين ودعاة حقوق المرأة. مصيرهم غير واضح، لكنَّ المسؤولين يخشون أن تثأر طالبان منهم، بحسب تقرير لوكالة رويترز.
لكن طالبان كانت قد تعهدت بالسماح لكل الرعايا الأجانب والمواطنين الأفغان الذين يحملون جواز سفر من دولة أخرى بمغادرة أفغانستان وفقاً لبيان مشترك صادر عن بريطانيا والولايات المتحدة وغيرهما الأحد 29 أغسطس/آب.
وعلى مدى الأسبوعين الماضيين، تولى الجيش الأمريكي تأمين وتشغيل مطار حامد كرزاي الدولي في كابول بما يقرب من ستة آلاف عسكري، وأظهرت مشاهد مباشرة بثتها قناة الجزيرة الثلاثاء 31 أغسطس/آب من داخل المطار حجم التحطيم والتخريب الذي حل بصالات المغادرة وبكل مكان تقريباً كان تحت سيطرة الأمريكيين قبل الرحيل.
وقال مسؤولون في طالبان إن مقر المراقبة الجوية في المطار تعرض أيضاً لعمليات تخريب من جانب الأمريكيين، وهو ما يعني أن إعادة تشغيل المطار ربما تستغرق وقتاً أطول مما كان متوقعاً.
وتُجري طالبان محادثات مع حكومات دول مثل قطر وتركيا سعياً للمساعدة في استمرار عمليات الطيران المدني من المطار، وهو السبيل الوحيد المتاح أمام كثيرين لمغادرة أفغانستان. وقال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو يوم الأحد إن مطار كابول بحاجة لإصلاحات قبل إعادة فتحه أمام الرحلات المدنية.
وكانت تركيا مسؤولة -في إطار مهمة حلف شمال الأطلسي- عن أمن المطار طيلة السنوات الست الماضية. والإبقاء على المطار مفتوحاً بعد تسليم القوات الأجنبية المسؤولية عنه أمر ضروري ليس لبقاء أفغانستان متصلة بالعالم وحسب بل وللحفاظ على الإمدادات وعمليات الإغاثة.
كيف ستكون العلاقة بين طالبان والغرب؟
من المؤكد أن الحكم على شكل العلاقة بين الولايات المتحدة وأفغانستان تحت حكم طالبان سيظل مؤجلاً إلى ما بعد هدوء غبار الانسحاب والانتصار وكشف الحركة عن شكل وطبيعة الحكم الذي ستتبناه في فترتها الثانية، لكن الصورة الآن تحمل ملامح شكل تلك العلاقة -إن وُجدت- وهذه أبرز تلك الملامح.
وبحسب تقرير نيويورك تايمز، الآن انتهت الأمور بمغادرة أغلب السياسيين وأصحاب الأعمال والمؤثرين من الأفغان خلال العقدين الماضيين، وغادر آخر الجنود الأمريكيين، لكن لا يزال في أفغانستان أكثر من 100 ألف أفغاني كانوا يعملون مع القوات الأمريكية والحكومة الأفغانية ويحملون تأشيرات لدخول الولايات المتحدة.
وتمثل هذه المسألة بالتحديد عاملاً حاسماً في تشكيل العلاقة بين طالبان وواشنطن على المدى القصير، خصوصاً أن لقاءات عُقدت بالفعل بين مسؤولين أمريكيين وقيادات طالبان، أبرزها لقاء مدير الاستخبارات الأمريكية وليام بيرنز في قندهار مع عبدالغني برادر الزعيم السياسي للحركة خلال الأيام الماضية، بغرض الاتفاق على الخطوات المستقبلية دون الكشف عن تفاصيل.
لكن بعيداً عن مسألة سماح الحركة للأفغان الراغبين في المغادرة بالرحيل، تظهر التصريحات من الجانبين حرصاً –من حيث المبدأ– على وجود علاقات طبيعية وإن كان لكل جانب شروطه. الأمريكيون من جانبهم لا يفصحون بشكل مباشر عما يريدونه بالتحديد من طالبان، بعيداً عن العناوين العريضة مثل تعهد الحركة بألا تتحول أفغانستان لحاضنة للجماعات التي يصنفها الأمريكيون بالإرهابية وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
ونظراً للعداوة القائمة بالفعل بين طالبان وداعش-خراسان، فلا يبدو أن هناك مشكلة في هذه النقطة، أو الشرط إن جاز التعبير.
واليوم الثلاثاء قال ذبيح الله مجاهد المتحدث الرسمي لطالبان لقناة الجزيرة إن الحركة تريد أن تكون علاقاتها مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول علاقات طبيعية تقوم بالأساس على "عدم التدخل في شؤوننا وألا نتدخل في شؤونهم".
وكانت إدارة بايدن قد قالت إنها لا تعتزم ترك دبلوماسيين لها في أفغانستان وإنها ستقرر خطواتها القادمة بناء على أفعال طالبان. وهو نفس الموقف تقريباً الذي تتبناه الحكومة البريطانية، التي قالت إنها ستحدد طبيعة علاقتها مع طالبان بناء على أفعال الحركة وليس نواياها.
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فقد كان أكثر تشدداً في تصريحاته بشأن العلاقات المستقبلية مع طالبان، محدداً ثلاثة شروط، أولها: "يجب أن تحترم حركة طالبان أولاً الحقوق الإنسانية وتحمي كل الذين يحق لهم الحصول على لجوء".
أما الشرط الثاني فيتمثل في "اعتمادهم الوضوح تجاه كل الحركات الإرهابية لأنهم إن هادنوا الحركات الإرهابية في المنطقة سيكون الأمر غير مقبول من جانبنا جميعا" حسب ما أوضح الرئيس الفرنسي في تقرير لموقع فرانس 24، وأضاف "أما الشرط الثالث فهو احترام حقوق الإنسان وقيمنا ولا سيما احترام كرامة النساء الأفغانيات".
كيف سيؤثر تهديد داعش على ما يحدث في أفغانستان؟
وحتى الآن لم تكشف طالبان بعد عن الحكومة الأفغانية الجديدة، وعلى الأرجح أن ذلك لن يتأخر كثيراً الآن بعد أن انسحبت القوات الأجنبية بالفعل، ويرى كثير من المراقبين أن تلك الحكومة التي ستعلن عنها طالبان ستمثل عاملاً جوهرياً في شكل العلاقة بين الحركة والمجتمع الدولي بشكل عام.
وتتمثل تفاصيل هذه النقطة فيما إذا كانت الحركة -التي تنتمي لقومية البشتون التي تمثل نحو 40 إلى 50% من السكان- سوف تفرض حكومة خاصة بها وتستبعد باقي مكونات أفغانستان، وهي دولة تتميز بوجود أكثر من 85 عرقية وطائفة، أبرزها بعد البشتون الطاجيك والأوزبك.
وحالياً تسيطر الحركة بشكل شبه كامل على الأراضي الأفغانية، باستثناء ولاية بنجشير التي يتحصن في واديها أحمد مسعود نجل الزعيم الأفغاني السابق أحمد شاه مسعود وهناك أيضاً يوجد نائب الرئيس الأفغاني الهارب أشرف غني، وتدور الآن مفاوضات لتفادي اندلاع مواجهات دموية بين مقاتلي الحركة ومقاتلي أحمد مسعود.
لكن بعيداً عن هذه النقطة وما يمكن أن تسفر عنه، يوجد عامل آخر يراه المراقبون جوهرياً وقد يكون حاسماً في العلاقة بين طالبان والإدارة الأمريكية بشكل خاص والدول الغربية وروسيا والصين أيضاً بشكل عام، وهو الخطر الذي يمثله تنظيم داعش- ولاية خراسان المتواجد على الأراضي الأفغانية بالفعل، وقام بتفجيري مطار كابول الدمويين الخميس الماضي، وتبنى أيضاً إطلاق صواريخ على مطار كابول صباح أمس الاثنين.
وبالتالي فإن هناك مساحة قائمة بالفعل للتعاون بين الولايات المتحدة وطالبان تتمثل في مواجهة الخطر الذي يشكله تنظيم الدولة الإسلامية. وتدور أسئلة عن كيفية التنسيق بين واشنطن وطالبان بل وحتى كيفية تشارك المعلومات لمواجهة التنظيم.
وتنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان عدو عتيد لحركة طالبان، لكنَّ مسؤولي مخابرات أمريكيين يعتقدون أنه استغل انعدام الاستقرار الذي أدى لانهيار حكومة أفغانستان المدعومة من الغرب هذا الشهر في تعزيز وضعه وتجنيد أفراد محبطين من حركة طالبان.
وبحسب تقرير نيويورك تايمز وغيرها من وسائل الإعلام الغربية، هناك مؤشرات إيجابية تصب في صالح طالبان أبرزها الشعبية التي اكتسبتها الحركة من انتصارها على القوات الأجنبية في دولة تعرف بأنها "مقبرة الغزاة"، إضافة إلى التغيير الواضح في الحركة عما كانت عليه قبل عشرين عاماً، مثل تصريحات قادتها الخاصة بحق المرأة في التعليم والعمل -في إطار الالتزام بالمعايير الإسلامية والتقاليد الأفغانية- وإصدار الحركة عفواً عاماً عن منتسبي الحكومة الأفغانية وتعهدها بعهد جديد من المصالحة والسلام والعمل مع جميع أطياف المجتمع الأفغاني.
وربما يكون المؤشر الإيجابي الأبرز بالنسبة للمجتمع الدولي هو تعهد الحركة بألا تكون أفغانستان مصدراً للتهديد لأي دولة أخرى، وهو ما يعني -حال التزام الحركة بالفعل بهذا التعهد- أن العقبة الرئيسية في طريق اعتراف المجتمع الدولي بالحركة حاكماً لأفغانستان ربما تكون في طريقها للزوال.