يهدد تمديد الرئيس قيس سعيّد قراراته المثيرة للجدل وتجميد عمل البرلمان دون تعيين رئيس حكومة جديد أو الإعلان عن رؤية محددة مستقبل تونس، في ظل تحالفات إقليمية محفوفة بالمخاطر.
كان الرئيس التونسي قد أطاح مساء الأحد 25 يوليو/تموز الماضي بحكومة هشام المشيشي وجمّد عمل البرلمان لمدة 30 يوماً وانفرد برئاسة النيابة العمومية، مستنداً على الفصل الـ80 من الدستور، وهي الخطوة التي رفضتها الأحزاب الأربعة الكبار في البرلمان.
ومع انتهاء مهلة الثلاثين يوماً دون أن يعين سعيّد رئيساً جديداً للحكومة كما وعد، أصدر الرئيس بياناً مقتضباً أعلن فيه تمديد تجميد أنشطة البرلمان "لأجل غير مسمى"، وهو ما عمق المخاوف من أن تونس، التي أصبحت أول دولة عربية تتذوق الديمقراطية قبل عشر سنوات، ربما تكون في طريقها إلى مستقبل مجهول.
الغموض سيد الموقف في تونس
وتناول موقع Responsible Statecraft الأمريكي الموقف في تونس حالياً في تقرير له بعنوان "قيس سعيّد يدخل في تحالفات إقليمية محفوفة بالمخاطر"، محذراً من عدم امتلاك الرئيس سعيّد لرؤية واضحة لمستقبل البلاد.
وبعد أكثر من شهر من استخدام الرئيس التونسي الفصل 80 من الدستور لفرض ما يُمكن تسميته بـ"حالة استثنائية"، ما زال التونسيون ينتظرون خريطة ترسم ممراً للخروج من طريق محفوف بالأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والصحية.
وكان سعيّد قد قال في لقاء عقده في 14 أغسطس/آب إن ما فعله يتوافق مع الدستور التونسي ويستجيب للإرادة الشعبية الراغبة في معالجة الأزمات المستدامة والتصدي للفساد والرشوة، وفي رسالة طمأنة للخارج، أضاف أن "لا داعي للقلق على قيم الحرية والعدالة والديمقراطية التي تشارك فيها تونس المجتمعَ الأمريكي".
وعلى مدى الفترة الماضية، برهنت حالة الغموض المليئة بالتوتر التي تسود المشهد على احتلال سعيّد دورَ الصانع المطلق للقرارات، وذلك على خلاف خطابه المتكرر بأنه لا يأتي إلا بما يعكس رغبات الشعب التونسي.
لكن عاجلاً وليس آجلاً، سيتعيَّن على الرئيس مواجهة مهمة أساسية لا مفر لجميع "الزعماء الشعبويين" من مواجهتها: وهي كيفية الانتقال من مرحلة الترفُّع عما يعتبره صغائر سياسية حزبية إلى تبني سياسةٍ ما ومواجهة الواقع.
من جهة أخرى، تشير الحملة القضائية الجماعية المسلَّطة على السياسيين وطبقة رجال الأعمال -والتي تسير الأمور في اتجاه حسمها عن طريق محاكم عسكرية خاصة- إلى أن سعيّد يريد أن يكون قائداً يُقصي السياسة بوصمها والتنزه عن ألاعيبها، لكنه في الوقت نفسه سياسي لا يتورع عن استخدام مقدرات السلطة وقوتها.
هل يوظف سعيّد السياسة التي يترفع عنها؟
مع ذلك، فإن سعيّد لا يزال أمامه الكثير مما يتعين فعله لتحقيق هذه الرغبات. فلاستكمالِ هذا التحول، يجب عليه أن يذهب إلى ما هو أبعد من تشكيل التحالفات المحلية في ساحة مؤسسية قابلة للبقاء لم يضع ملامحها بعد.
إذ يتعين عليه أيضاً انتهاج الدبلوماسية الإقليمية التي من شأنها تعزيز سلطته على الجبهة الداخلية. ولمَّا كانت السياسة الداخلية لتونس أصبحت متشابكة مع علاقاتها الإقليمية (وتفاعلاتها مع الدول العربية خصوصاً)، فإن الاحتمال الأقرب أن يتطلع الرئيس التونسي إلى الإمارات والسعودية للحصول على الدعم، ودول عربية أخرى مثل مصر، حتى وهو يجهر بالحفاظ على السيادة الوطنية التونسية.
وكان تقرير لمنصة "أسباب" كشف نقلاً من مصادر متعددة أن الإمارات ومصر كانتا على علم بتحرك الرئيس التونسي بشكل مسبق، وأن لكل من البلدين قوات في تونس أتت مؤخراً بغطاء المساعدة الطبية لمكافحة كورونا، ساهم ضباط منها في إدارة الأزمة من قصر الرئاسة، خاصة ضباطاً مصريين. ووفق مصدر رسمي، فإن الولايات المتحدة طلبت من الرئيس التونسي بعد اتخاذه القرارات الاستثنائية أن تغادر القوات الإماراتية والمصرية تونس في أقرب فرصة.
ومع أن هذه السياسة الإقليمية لا تزال قيد التخطيط، فإن الخطوط العريضة لها بدأت تتكشف ببطء على نحو يبرز كلاً من المخاطر والفرص التي تكتنف الرئيس التونسي، وبطبيعة الحال لمختلف الأطراف الإقليمية الخارجية التي تسعى إلى تشكيل مسار الأحداث في تونس.
إذ حددت وثيقة قرطاج لعام 2016 شروط النظام القائم على التوافق بين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، رئيس حزب نداء تونس العلماني وحزب النهضة الإسلامي. وقد جاءت الوثيقة، التي شددت على الحاجة إليها هواجس ما بعد انقلاب 2013 في مصر، لتبرِز تونس -على ما في المسار من تقطُّع- بوصفها جزيرة ديمقراطية في بحر من الأنظمة الاستبدادية.
أصبحت تونس مضيفة لمجموعة كبيرة من منظمات دعم الديمقراطية الرسمية وغير الحكومية، مثل مكتب شمال إفريقيا التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمركز الإقليمي لمعهد السلام الأمريكي شبه الرسمي.
لكن في المقابل، بدأ قادة الإمارات والبحرين والسعودية ومصر في النظر إلى تونس على أنها تهديد، بحسب الموقع الأمريكي، ليس فقط لأنها كانت دولة ديموقراطية، وإنما بالأساس لأن تحالفها الحاكم ضمَّ حزب النهضة الإسلامي. ومن ثم فقد رأوا تجربة تونس في تقاسم السلطة أشبه بثغرة قد يتسرب منها التوسع الإسلامي الذي جعلوا التصدي له أو إيقافه في مساره شغلهم الشاغل.
هل ينسق سعيّد خطواته مع دول أخرى؟
أشارت بعض التقارير إلى أن قادة الإمارات حضُّوا الرئيس الراحل السبسي على الانقلاب والسيطرة على السلطة على غرار "النموذج المصري" في عام 2015، ومرة أخرى في يونيو/حزيران 2018. ومما لا شك فيه أن الإمارات حاولت خلال السنوات الثلاث الماضية التأثيرَ في مسار الأحداث في تونس، وهو ما يبرزه دعمها لخصوم النهضة الرئيسيين، مثل عبير موسي وحزبها الدستوري الحر، وأيضاً السعودية التي استعملت منافذها الإعلامية لتشويه سمعة الغنوشي، وتأجيج نيران الصراع الداخلي في المشهد السياسي المنقسم بالفعل في تونس.
اشتدت حدة هذه الحملة مع تصاعد الحرب الأهلية في ليبيا. وقد زاد الغنوشي الأمور سوءاً ببضع خطوات خاطئة اتخذها، مثل مقابلة رئيس الحكومة الليبية بعد تصديها الناجح -بدعم تركي- لحملة حفتر المدعومة إماراتياً. كما زيارة الغنوشي في يناير/كانون الثاني 2020 إلى أنقرة ومقابلة الرئيس التركي فاقمت الضغوط على حزب النهضة واستفزت قيس سعيّد، الذي هاجم الغنوشي بحدة، معتبراً أن تحركاته انطوت على تدخل في الشؤون الأمنية التي ادَّعى سعيد أنها من اختصاص السلطة التنفيذية.
وفيما يتعلق بإجراءات سعيّد التي وصفها البعض "بالانقلاب"، أشار تقرير لموقع Middle East Eye إلى أن الإمارات ومصر ساعدتا سعيد في تنفيذ خطواته التي آلت إلى إغلاق البرلمان وإجبار رئيس الحكومة على الاستقالة. ولمَّا كانت الكراهية المصرية الإماراتية لحكومة المشيشي والنهضة (وزعيمها) غير خافية على أحد، فيُحتمل جداً أن يكون سعيّد قد أبلغ قادة مصر والإمارات والسعودية بخطوته الوشيكة.
وبالفعل، كان قادة مصر والإمارات والسعودية في طليعة من أعربوا عن دعمهم لسعيّد، واحتفلت وسائل الإعلام الخليجية بخطوته معتبرةً إياها هزيمة للإخوان المسلمين. وأشاد سعيّد نفسه علانية بالدعم الذي تلقاه من دول "شقيقة وصديقة". وتشير تصريحاته إلى أنه يعتزم توطيد، بل وتوسيع نطاق الشراكات مع القادة العرب في الجبهة المعادية للديمقراطية في المنطقة.
فرص للدعم ومخاطر أيضاً
من جانب القاهرة وأبوظبي والرياض وتونس عموماً، فإن هذه الشراكات ذات أهمية سياسية واستراتيجية. فهي قد تعزز النفوذ الإقليمي لزعماء البلدان الأربعة مساهمةً في مزيدٍ من التشديد لقبضتهم على السلطة في الداخل.
أما أهمية هذه العلاقات لسعيد خصوصاً، فإنها قد تعوضه افتقاره إلى أي حلفاء صريحين في مؤسسات الدولة، ربما باستثناء الجيش وقوات الأمن الداخلي. لكن ذلك لا يعني أن سعيّد يمكنه الاعتماد على تلك المؤسسات التي في نهاية المطاف تفتقر إلى أي خبرة ملموسة في الساحة السياسية، ويُحتمل أن يكون ولاؤها مشروطاً بقدرته على صياغة استراتيجية سياسية قابلة للبقاء تتجاوز بالبلاد المنحدر الزلق لقمع الدولة والاستبداد.
وكما أشار أحد المحللين، كلما طال الوقت الذي يستغرقه سعيد لتحديد خارطة طريق سياسية واقتصادية فعالة، زادت فرصة خسارته لرأس المال السياسي والدعم الشعبي.
وعلى صعيد آخر، فإن احتمال أن يفقد الأتباع صبرهم لا بد أن تقلق أيضاً أصدقاء سعيد في أنظمة الاستبداد الإقليمية. فالواقع أن سعيد إذا تعثر أو واجه احتجاجات متصاعدة قرر التصدي لها بحملة قمع دموية، فإنه لن يبدو وقتها ديمقراطياً مقتدراً ولا حتى مستبداً مسيطراً، بل سياسياً مبتدئاً يفتقر إلى الوسائل والرؤية التي تكفل له الانتقال من صورة البطل الشعبوي إلى زعيم حاسم.
ومع ذلك، فإن الإشارات الواردة حتى الآن عن سعيد ومؤيديه المتحمسين غير مبشرة. فبدعوى أن "لا عودة إلى الوراء"، رفض قيس بإصرار أي حوار وطني مع ما يسميه "الخلايا السرطانية"، وهو مجاز يشير به إلى الطبقة السياسية التي يلومها على بلاء الفساد الذي وعد بالقضاء عليه (أي حزب النهضة). وقد أيَّد هذا التوجه عدد غير قليل من القادة ذوي التوجهات العلمانية، غير أن هذه المشاعر يظل انتشارها الأوسع في عالم وسائل التواصل الاجتماعي.
على نقيض ذلك، أثارت الدعوات إلى "تطهير" البلاد من الإسلاميين مخاوف وتحذيرات من سياسيين ليبراليين وصناع رأي انتقدوا شبكة القمع الآخذة في الاتساع، ولا سيما دعوات الانتقام من الإسلاميين، التي يمكن أن تقوض في النهاية أي جهد قد يبذله سعيد للضغط من أجل إصلاح عملي للدستور والنظام الانتخابي على نحوٍ يحافظ على بعض مظاهر الديمقراطية والاستيعاب للجميع. وسلطت هذه التحذيرات الضوء على الاحتمال الوارد جداً بأن تحركات سعيد قد تثير فتنة داخلية، وهو ما قد يُفقد تونس أي حيثية لتقديم نفسها طرفاً إقليمياً موثوقاً به.
تحديات الوضع الاقتصادي الضاغط
يشكِّل الوضع الاقتصادي المتدهور في تونس تحدياً إضافياً يبدو أن سعيد غير مستعد له. والواقع أنه محاصر بين الوعود الشعبوية التي قطعها بشأن محاربة الفساد والدفاع عن المواطنين التونسيين الكادحين، والضغوط المفروضة عليه من صندوق النقد الدولي وتلزمه إجراء إصلاحات سوقية صارمة للحصول على مليارات القروض الموعودة.
والحال أن تونس بدون هذه الأموال عاجزة عن زيادة رصيدها من العملة الأجنبية لتمويل ميزانيتها، أو سداد ديونها الخارجية البالغة 40 مليار دولار، أو دفع فاتورة القطاع العام الضخمة.
وتتصاعد في تونس بعض الهمهمات حول إمكانية التخلف عن سداد القروض الخارجية. ومع أن الصدمات الاقتصادية المزلزلة التي قد تولدها هذه الخطوات الجذرية قد يخفِّفها تدفقٌ ضخم للقروض أو التبرعات الخليجية إلى تونس، فإن هذا يظل حتى الآن احتمالاً في الأفق وليس ضمانة ملموسة تنعقد عليها اليد.
لكن في كل الأحوال، فإن هذا الدعم بمفرده لا يرقى إلى مستوى سياسة اقتصادية قابلة للاستدامة. بل إن هذا السيناريو قد يشير إلى أن سعيّد، الزعيم الذي وعد باستعادة كرامة الشعب والدفاع عن السيادة الوطنية، في طريقه إلى تحويل تونس إلى دولة شبه تابعة لأنظمة النفط العربية، أو كما أشار حمة الهمامي، زعيم حزب العمال التونسي: "إعلام السعودية والإمارات يتحدثون عن تونس وكأنها بلادهم".
في ظل تعهده السابق والخطير، بلا شك، بالتخلي عن النظام السياسي الذي ورثه عندما أصبح رئيساً في عام 2019، فإن خيارات سعيّد قليلة، إن وُجدت. وقد رفض بالفعل جهود إدارة بايدن لدفعه نحو الإعلان عن خارطة طريق سياسية. وبالطبع يمكنه تجاهل واشنطن والتعويل على دعم الإمارات والسعودية ومصر، لكن هذا السيناريو يحمل مخاطر جمة له ولشركائه الخليجيين.
الخلاصة أن هذه اللحظة الحرجة وما تحمله من مخاطر مهددة لجميع الأطراف الرئيسية تحتِّم على سعيد أن يتحلى على الأقل ببعض من المسؤولية التي تثقله بها عباءة البطل التي قدَّم بها نفسه، وأن يتخلى عن استخدام شعبيته الشخصية أداةً لحشد السخط العام، لا سيما وهو لم يقدم حتى الآن سوى القليل من سمات القيادة التي تنطوي على إنشاء رؤية مستدامة تدفع بلاده إلى الأمام.