وجود القواعد العسكرية يؤدي إلى الحرب، والحرب بدورها تؤدي لمزيد من القواعد العسكرية، فكم قاعدة أمريكية تبقت حول العالم بعد الانسحاب من أفغانستان؟ وماذا يعني ذلك؟
يرى كثير من الأمريكيين أن الانسحاب من أفغانستان، وقبلها قرار الانسحاب من العراق، يعكس وفاء بوعد الرئيس جو بايدن، وسلفه دونالد ترامب كذلك، بإنهاء الحربين اللانهائيتين اللتين أصبحتا تعريف "الحرب العالمية على الإرهاب" بعد 11 سبتمبر/أيلول. لكن الواقع يكشف أن تلك "الحروب الأبدية" لهذا البلد قد لا تنتهي أبداً، وبدلاً من ذلك، تُعاد تسميتها وتستمر عبر وسائل أخرى.
وهذا ما تناوله موقع Responsible Statecraft الأمريكي في تقرير له رصد قصة القواعد الأمريكية حول العالم، عدداً وموقعاً، وما يعنيه ذلك بالنسبة لحالة الحرب المستمرة طوال الوقت.
ماذا يعني الانسحاب بالنسبة لعدد القواعد العسكرية؟
بعد إغلاق المئات من القواعد العسكرية والمراكز القتالية في أفغانستان والعراق، سيتحول البنتاغون الآن إلى دور "الإرشاد والمساعدة" في العراق. في غضون ذلك، تنشغل قيادته العليا الآن بالارتكاز في آسيا سعياً وراء أهداف جيواستراتيجية جديدة تتمحور بالأساس حول "احتواء" الصين.
ونتيجة لذلك، ستحاول الولايات المتحدة الحفاظ على مكانة أقل بكثير في الشرق الأوسط الكبير وأجزاء مهمة من إفريقيا، بينما تظل منخرطة عسكرياً من خلال برامج التدريب والمتعاقدين الخاصين. لكن الحقيقة البسيطة تؤكد أنه ما لم تُفكَّك هذه القواعد في النهاية، فإنَّ الدور الإمبراطوري لأمريكا على هذا الكوكب لن ينتهي أيضاً؛ مما سيتسبب في كارثة لهذا البلد في السنوات القادمة.
تكشف "قائمة إغلاق القواعد الخارجية الأمريكية لعام 2021″، التي توصل إليها الموقع الأمريكي بعد التواصل مع ليا بولغر رئيسة منظمة World BEYOND War التي تنادي بإنهاء الحروب، أنَّ العدد الإجمالي لهذه القواعد على مستوى العالم قد تراجع تراجعاً ضئيلاً في الغالب خلال العقد الماضي.
واعتباراً من عام 2011، أُغلِق ما يقرب من ألف موقع قتالي وعدد متواضع من القواعد الرئيسية في أفغانستان والعراق، وكذلك في الصومال. وقبل أكثر من 5 سنوات بقليل، قدَّر ديفيد فاين أنَّ هناك نحو 800 قاعدة أمريكية رئيسية في أكثر من 70 دولة أو مستعمرة أو منطقة خارج الولايات المتحدة القارية. وفي عام 2021، تشير الإحصاءات إلى أنَّ الرقم انخفض إلى ما يقرب من 750 قاعدة. ومع ذلك، فقد زاد عدد الأماكن التي تحتوي على مثل هذه القواعد بالفعل في نفس تلك السنوات.
لماذا يسعى البنتاغون لإخفاء وجود بعض القواعد؟
ونظراً لأنَّ البنتاغون قد سعى عموماً لإخفاء وجود بعض منها على الأقل، فإنَّ وضع مثل هذه القائمة سيكون معقداً بالتأكيد، بدءاً من كيفية تعريف المرء لمثل هذه "القاعدة". والواضح أن أبسط طريقة هي استخدام تعريف البنتاغون الخاص لـ"موقع القاعدة"، حتى لو كانت سجلاته العامة عنها غير دقيقة.
لذلك، تُعرف مثل هذه القاعدة الرئيسية على أنها "أي موقع جغرافي محدد به قطع أرض فردية أو مرافق مخصصة له.. تكون خاضعة للولاية القضائية لأحد مكونات وزارة الدفاع نيابةً عن الولايات المتحدة، أو مملوكة لها، أو مُؤجَّرة لها".
يساعد استخدام هذا التعريف في تبسيط ما هو مهم وما هو غير مهم، لكنه يترك أيضاً الكثير خارج الصورة. إذ لا يتضمن عدداً كبيراً من الموانئ الصغيرة ومجمعات الإصلاح والمستودعات ومحطات الوقود ومنشآت المراقبة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، ناهيك عمّا يقرب من 50 قاعدة تمولها الإدارة الأمريكية مباشرةً لجيوش الدول الأخرى.
ويبدو أنَّ معظمها يقع في أمريكا الوسطى (وأجزاء أخرى من أمريكا اللاتينية)، وهي أماكن مألوفة بالفعل لوجود الجيش الأمريكي، الذي شارك طوال 175 عاماً من التدخلات العسكرية في المنطقة.
ومع ذلك، فإنَّ القواعد العسكرية الأمريكية في الخارج منتشرة الآن في 81 دولة أو مستعمرة أو منطقة في جميع القارات باستثناء القارة القطبية الجنوبية. وبرغم انخفاض عددها الإجمالي، يستمر نطاق انتشارها في التوسع. ففي الواقع، منذ عام 1989 وحتى اليوم، ضاعف الجيش عدد الأماكن التي يمتلك فيها قواعد بأكثر من الضعف من 40 إلى 81 موقعاً.
انتشار إمبراطوري غير مسبوق تاريخياً
ويظل هذا الوجود العالمي غير مسبوق؛ إذ لا توجد قوة إمبريالية أخرى امتلكت مثل هذا العدد من القواعد، بما في ذلك الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والإسبانية. وهي تشكل ما أشار إليه تشالمرز جونسون، مستشار وكالة المخابرات المركزية السابق الذي تحول إلى منتقد للنزعة العسكرية الأمريكية، بأنه "إمبراطورية القواعد" أو "عالم مُطوَّق بالقواعد".
وطالما يبقى هذا العدد عند 750 قاعدة عسكرية في 81 مكاناً حقيقة واقعة، فستظل حروب الولايات المتحدة كذلك. كما أوضح ديفيد فاين بإيجاز في كتابه الأخير "The United States of War – الولايات المتحدة الحربية": "كثيراً ما تولد القواعد حروباً، التي بدورها يمكن أن تجلب المزيد من القواعد… وهلُم جرا".
في حين أنَّ العدد الإجمالي للقواعد العسكرية الأمريكية في الخارج ينخفض مع إدراك فشل الحرب على الإرهاب، فمن المرجح استمرار الحروب اللانهائية، لكن بصورة أكثر سرية من خلال قوات العمليات الخاصة والمتعاقدين العسكريين الخاصين والضربات الجوية المستمرة، سواء في العراق، أو الصومال أو أي مكان آخر.
في أفغانستان، حتى عندما لم يتبقّ سوى 650 جندياً أمريكياً يحرسون السفارة الأمريكية في كابول، كانت الولايات المتحدة لا تزال تكثف ضرباتها الجوية في البلاد.
فقد شنت في يوليو/تموز وحده 12 غارة، وقتلت مؤخراً 18 مدنياً في ولاية هلمند في جنوب أفغانستان. ووفقاً لوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، فإنَّ مثل هذه الهجمات كانت تنطلق من قاعدة أو قواعد في الشرق الأوسط مجهزة "بقدرات فوق الأفق" -أي أبعد من نطاق الرادارات- التي يُفترَض أنها موجودة في الإمارات العربية المتحدة وقطر.
وفي تلك الفترة، سعت واشنطن أيضاً (حتى الآن دون نجاح) إلى إنشاء قواعد جديدة في البلدان المجاورة لأفغانستان لمواصلة المراقبة والاستطلاع والضربات الجوية المحتملة، بما في ذلك تأجير القواعد العسكرية الروسية في طاجيكستان.
عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، فإنَّ الإمارات العربية المتحدة وقطر ليستا سوى البداية؛ إذ توجد قواعد عسكرية أمريكية في كل دولة من دول الخليج العربي باستثناء إيران واليمن؛ بواقع 7 في عمان، و3 في الإمارات، و11 في السعودية، و7 في قطر، و12 في البحرين، و10 في الكويت، و6 في العراق. ويمكن لأي من هؤلاء المساهمة في أنواع الحروب التي تتطلب "قدرات فوق الأفق"، والتي يبدو أنَّ الولايات المتحدة ملتزمة بها الآن في دول مثل العراق، تماماً كما تمكّنها قواعدها في كينيا وجيبوتي من شن ضربات جوية في الصومال.
أين تتركز القواعد الجديدة؟
في غضون ذلك، وفي النصف الآخر من العالم تقريباً، تنشأ قواعد جديدة في المحيط الهادئ، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى الجهد المتزايد من أجل "احتواء" الصين على غرار الحرب الباردة.
وعلى أفضل تقدير، لا يوجد سوى حد أدنى من الحواجز في هذا البلد أمام بناء قواعد عسكرية في الخارج. إذا قرر مسؤولو البنتاغون أنَّ هناك حاجة إلى قاعدة جديدة بقيمة 990 مليون دولار في غوام "لتعزيز القدرات القتالية" في محور واشنطن في آسيا، فهناك طرق قليلة لمنعهم من فعل ذلك.
كانت كامب بلاز أول قاعدة مشاة بحرية تُبنَى في جزيرة غوام في المحيط الهادئ منذ عام 1952، وهي تشهد مزيداً من البناء منذ عام 2020 دون أدنى معارضة أو نقاش حول ما إذا كانت ضرورية أم لا من صناع السياسة والمسؤولين في واشنطن أو بين الجمهور الأمريكي.
ويُقترَح حتى إنشاء المزيد من القواعد الجديدة في الجزر المجاورة في المحيط الهادئ، وهي: بالاو وتينيان وياب. من ناحية أخرى، من المستبعد إكمال القاعدة الجديدة في هينوكو في جزيرة أوكيناوا اليابانية؛ بسبب الكثير من الاحتجاجات المحلية ضدها.
ولا يُعرَف سوى القليل عن أي من هذا في الولايات المتحدة، ولهذا السبب تعتبر القائمة العامة للمدى الكامل لمثل هذه القواعد في أنحاء العالم، سواء القديمة أو الجديدة، ذات أهمية، مهما كان من الصعب إنتاجها بناءً على سجل البنتاغون غير المكتمل.
إذ لا يمكنها فحسب إظهار المدى البعيد والطبيعة المتغيرة للجهود الإمبريالية لهذا البلد على مستوى العالم، بل تستطيع أيضاً العمل كأداة لتعزيز عمليات إغلاق القواعد المستقبلية في أماكن مثل غوام واليابان، حيث يوجد حالياً 52 و 119 قاعدة على التوالي – هل كان الجمهور الأمريكي يوماً ما يتساءل بجدية إلى أين تذهب أموال ضرائبهم حقاً، ولماذا؟
ومثلما لا توجد سوى القليل جداً من العراقيل أمام بناء البنتاغون قواعد جديدة في الخارج، فلا يوجد أساساً ما يمنع الرئيس بايدن من إغلاقها. وكما يشير "تحالف إعادة تنظيم وإغلاق القواعد الخارجية"، بينما هناك عملية تنطوي على تفويض من الكونغرس لإغلاق أي قاعدة عسكرية أمريكية محلية، فلا حاجة إلى مثل هذا التفويض حين يتعلق الأمر بالقواعد الخارجية.
لكن لسوء الحظ، لا توجد حتى الآن في هذا البلد حركة جوهرية لإنهاء "عالم القواعد" الذي نحن فيه الآن. ومع ذلك، في أماكن أخرى، صدرت مطالب ونُظمَت احتجاجات تهدف إلى إغلاق مثل هذه القواعد من بلجيكا إلى غوام، واليابان إلى المملكة المتحدة -فيما يقرب من 40 دولة- خلال السنوات القليلة الماضية.
ومع ذلك، في ديسمبر/كانون الأول 2020، حتى أعلى مسؤول عسكري أمريكي، وهو رئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي، وتساءل: "هل كل واحدة من هذه [القواعد] تتمتع بضرورة إيجابية للدفاع عن الولايات المتحدة؟".
الإجابة باختصار: لا. ومع ذلك، حتى اليوم، على الرغم من الانخفاض المتواضع في أعدادها، من المرجح أن يكون للقواعد الـ750 أو ما يقرب من ذلك دورٌ حيوي في أي استمرار لـ"حروب واشنطن اللانهائية"، مع دعم توسع الحرب الباردة الجديدة مع الصين. ومثلما حذر تشالمرز جونسون في عام 2009: "تخلت القليل من إمبراطوريات الماضي طواعيةً عن سيطرتها من أجل أن تظل كيانات مستقلة تتمتع بالحكم الذاتي… إذا لم نتعلم من هذه الأمثلة، فإنَّ انحطاطنا وسقوطنا أمر مُحتّم علينا مسبقاً".
في النهاية، القواعد الجديدة لا تعني إلا حروباً جديدة، وكما أوضحت السنوات العشرين الماضية تقريباً، فهذه ليست صيغة النجاح للمواطنين الأمريكيين، ولا لغيرهم، في جميع أنحاء العالم.