يحاول محمد شعبان ذو الثماني سنوات استيعاب الدرس من معلمه كالمعتاد، ولكن الأمر لم يعد ممكناً رغم أنه يصغي باهتمام إلى المعلم، محاولاً استيعاب الدرس في مدرسته بشمال غزة.
فمحمد يجلس في الصفوف بشكل مؤقت، ولكن يعد ممكناً أن يستمر في المدرسة وأن يواصل تلقي التعليم في الصف الثاني مع زملائه في مدرسة في بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
فوجوده الآن أصبح بصفة مؤقتة، إذ فقد محمد بصره خلال القصف الإسرائيلي المكثف على قطاع غزة، والآن ترفض إدارة المدرسة السماح له بمواصلة الدراسة فيها؛ لأنه لا تتوفر لديها الإمكانيات اللازمة للتعامل مع إصابته.
مأساة قبل عيد الفطر
في ذلك اليوم المشؤوم من شهر مايو/أيار، كان محمد قد انتهى لتوه من شراء مستلزمات عيد الفطر مع والدته وابن عمه حين سقط صاروخ في السوق وتطايرت شظايا بعضها أصاب وجهه.
وبعد ثلاثة أسابيع، انتقل إلى مستشفى في مصر لتلقي العلاج من الإصابة. وقال الأطباء لوالده إن حالة محمد "ميؤوس منها".
وقال والده هاني شعبان لموقع Middle East Eye: "الشظية دمرت إحدى عينيه، ولا أمل في شفائها على الإطلاق".
وأضاف: "والأخرى أصيبت بأضرار بالغة، وأخبرنا الأطباء أنه لن يتمكن من الرؤية بها مرة أخرى".
ومأساة محمد ليست فريدة من نوعها. فوفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، قُتل 66 طفلاً و40 سيدة من بين 256 فلسطينياً لقوا حتفهم خلال الهجوم الإسرائيلي الذي استمر 11 يوماً على القطاع المحاصر. وكان 51 من هؤلاء الأطفال طلاباً في سن المدرسة. وأصيب حوالي 470 طفلاً آخر في هذه الهجمات.
فقد زوجته وثلاثة من أبنائه
وفي مكان آخر في بيت لاهيا، تحدث محمد العطار، الأب لأربعة أبناء، عن اليوم الذي سجل فيه ابنته أميرة البالغة من العمر ست سنوات في الصف الأول.
وقال الأب لموقع Middle East Eye: "طلبت منها مديرة المدرسة أن تعدّ حتى 10 وأن تقول الحروف العربية. وفعلت أميرة ذلك وكانوا مبهورين بمدى ذكائها. ووافقوا على دخولها المدرسة وكانت غاية في السعادة".
ولم تطِق أميرة صبراً لإعلام والدتها بهذا الخبر فور وصولهما إلى المنزل، وكان شقيقها الأكبر إسلام (8 أعوام) قد بدأ بالفعل التخطيط ليومهما الأول في المدرسة معاً.
يقول محمد: "قال إسلام لأميرة إنه سيصطحبها إلى مدرستها في الصباح قبل أن يذهب إلى مدرسته، وسيعود بعد الظهر لاصطحابها معه إلى المنزل".
ولكن لم يكن مقدراً للشقيقين أن يذهبا للمدرسة معاً أبداً. وقال الأب: "كان القصف أسرع بكثير".
ففي 14 مايو/أيار، ضربت خمس غارات إسرائيلية الحي الذي يقطن به العطار دون سابق إنذار، ودمرت المبنى الذي كان يضم ست شقق سكنية بالكامل.
وفي وقت الهجوم، كانت زوجة العطار وأطفاله يجلسون جميعاً برفقة بعضهم في المنزل، بينما كان هو مع شقيقه في غرفة أخرى. وقُتلت زوجته وثلاثة من أبنائه، فيما أصيب هو بجروح طفيفة.
وبعد أسبوعين فقط من التحاقها بالمدرسة، فقدت أميرة حياتها مع والدتها لمياء (27 عاماً)، وشقيقيها إسلام، وزين البالغ من العمر 5 أشهر.
يقول محمد: "كل شيء حدث بسرعة شعرت معها أنني أحلم، ولا أحد معي الآن سوى طفل واحد يبلغ من العمر خمسة أعوام فقط".
ويضيف: "بصراحة ما زلت لا أعرف ما علي أن أفعله، وكل ما حدث بدا وكأنه كابوس مؤلم. لا أصدق أنني فقدت أربعتهم في يوم واحد".
دراسة: 90% من أطفال غزة مصابون باضطراب ما بعد الصدمة
في دراسة استقصائية شملت 530 طفلاً من أنحاء قطاع غزة، وجدت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان التي يقع مقرها في جنيف أن تسعة من كل 10 أطفال شملهم الاستطلاع مصابون بشكل من أشكال اضطراب ما بعد الصدمة المرتبط بالحرب.
فبعد الهجوم، تغير محمد، الصبي الصغير الذي فقد عينه، وأصبح يتجنب التعامل مع الآخرين ويفضل البقاء بمفرده، وفقاً لما قاله والده لموقع Middle East Eye.
يقول شعبان: "تتغير حالته المزاجية كل 15 دقيقة، أحياناً يبدأ في البكاء والصراخ، وأحياناً أخرى يجد شيئاً يسليه، لكنه في معظم الأحيان يكون انطوائياً ولا يتحدث إلى أشخاص من خارج أسرته".
ويقول: "كل صباح، حين يستعد إخوته للذهاب للمدرسة، يبدأ في البكاء ويطلب الذهاب معهم، لكنه لا يستطيع الذهاب إلى مدرسته القديمة بعد الآن".
وقال شعبان إنه تحدث مع إدارة المدرسة عن السماح لابنه الكفيف بمواصلة الدراسة هناك.
وقال: "أخبرتنا إدارة المدرسة أنه لم يعد بإمكانه الالتحاق بالمدارس العادية وأننا بحاجة إلى نقله إلى مدرسة خاصة للمكفوفين".
ومن باب التخفيف على الصبي المحطّم، سمحت المدرسة لمحمد بالجلوس بين زملائه في الفصل وشجعته على المشاركة في الدرس. وقال شعبان: "حالته تحسنت، لكنه الآن يريد أن يذهب إلى مدرسته القديمة كل يوم".
ولكنه لم يجد الشجاعة ليخبر ابنه المحب للرياضيات أنه لن يتمكن من القراءة أو الدراسة مرة أخرى.
يقول شعبان: "يسألني دائماً متى سيتمكن من الرؤية مرة أخرى وإن كان سيتمكن من المشي في الشارع والذهاب إلى المدرسة بمفرده.. لم يعد طالباً عادياً بعد الآن".