"أمريكا عادت".. كانت تلك العبارة الأكثر ترديداً على لسان الرئيس الأمريكي جو بايدن، مهاجماً سياسات سلفه دونالد ترامب الانعزالية وشعارها "أمريكا أولاً"، لكن يبدو أن أفغانستان ولقاحات كورونا والشرق الأوسط وغيرها تقول شيئاً آخر.
وقد يبدو للبعض أن الانتقادات التي تتعرض لها إدارة بايدن بسبب الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، والذي وصفه ترامب "بالهزيمة والاستسلام التام"، قد أدى إلى طرح تساؤلات بشأن إذا ما كان هناك اختلاف بين سياسات الرجلين من الأساس، بغض النظر عن الاختلاف الواضح في لغة كل منهما.
لكن الخطاب السياسي الذي كان بايدن قد ألقاه بمناسبة مرور 100 يوم على توليه منصبه كان لافتاً فيه تركيز الرئيس بنسبة تخطت 80% على الشؤون الداخلية للولايات المتحدة، بينما تقلصت مساحة قضايا السياسة الخارجية بشكل واضح، وتركزت على المنافسة- أو بمعنى أدق الصراع- مع الصين، إضافة إلى حديث عام عن قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية حول العالم.
"أمريكا أولاً" مرة أخرى؟
منذ تولى بايدن منصبه رسمياً يوم 20 يناير/كانون الثاني الماضي، يمكن القول إن حديثه المتكرر عن "عودة أمريكا" لقيادة العالم تناقضه، بحسب كثير من المحللين والمراقبين، سياسات الرئيس الفعلية على الأرض، سواء ما يتعلق بكيفية الانسحاب من أفغانستان وتبريره لتلك الفوضى، أو ما يتعلق بالأزمة الصحية الأسوأ والمتمثلة في وباء كورونا وتحديداً قضية اللقاحات، إضافة إلى قضايا حقوق الإنسان من قمع الإيغور في الصين، إلى اعتقال المعارضين في كثير من الأنظمة التي تدعمها واشنطن.
وتناولت صحيفة The Guardian البريطانية هذا النهج في تقرير لها بعنوان "هل يتبع بايدن خطى ترامب بشأن أفغانستان واللقاحات؟"، تناول كيفية اتباع بايدن لشعار "أمريكا أولاً"، الذي كان قد هاجم سلفه ترامب بسببه.
فقد كان دونالد ترامب مهووساً بترديد نغمة "أمريكا أولاً" بالفعل، وقال يوماً في خطاب أمام الأمم المتحدة: "المستقبل ليس لدعاة العولمة. وإنما للقوميين". لكن العام الماضي، رفضه الناخبون وصوتوا لصالح جو بايدن، وهو أحد دعاة العولمة الذي أكد أن: "أمريكا عادت".
لكن جو بايدن تسبب في زعزعة إيمان حلفائه القدامى الأسبوع الماضي ودفع بعضهم للتساؤل إن كان شعار "أمريكا أولاً" لا يزال حياً. ففي خطاب له، لم يُبدِ أسفاً على انسحاب أمريكا الفوضوي والمهين من أفغانستان، التي نجحت حركة طالبان في السيطرة عليها سريعاً، والمخاطرة بحياة آلاف الأفغان الذين عملوا لصالح القوات الأمريكية وخسارة ما روجت له واشنطن والغرب على مدى 20 عاماً على أنها مكاسب حقوق الإنسان لملايين النساء والفتيات.
وأكد الرئيس أنه إنما ينفذ إرادة الشعب الأمريكي ولم يتمكن من تبرير إهدار الكثير من الدماء والأموال الأمريكية. ووصف السياسي البريطاني توم توغندهات، الذي خدم في أفغانستان، محاولته تحميل الجيش الأفغاني المسؤولية لافتقاره لإرادة القتال بأنها "مخزية".
ويرى كثير من المراقبين داخل وخارج واشنطن أن تصريحات بايدن تتناقض مع ما قاله في خطابه بمناسبة مرور 100 يوم من رئاسته، عندما قال إن "أمريكا تمضي قدماً مرة جديدة. أمريكا مستعدّة للانطلاق. نحن نعمل مرّةً جديدة، نحلم مرّة جديدة، نكتشف مرّة جديدة، نقود العالم مرّة جديدة. لقد أظهرنا لبعضنا البعض وللعالم (أنّه) لا يوجد استسلام في أمريكا".
لقاحات كورونا "للأمريكيين أولاً"
ولم يكتفِ بايدن بتبريره للانسحاب الفوضوي من أفغانستان، بل أعلن يوم الأربعاء 18 أغسطس/آب أن الأمريكيين الذين تلقوا جرعتين من لقاحات كورونا سيكونون مؤهلين للحصول على جرعة ثالثة للتغلب على ضعف المناعة، ومتحور دلتا شديد العدوى وانتشار الإحجام عن تناول اللقاح.
وقد أدى تصريحه ذلك إلى تعرضه لهجوم عالمي آخر عنيف، إذ دعت منظمة الصحة العالمية (WHO) إلى وقف الجرعات المعززة حتى نهاية الشهر المقبل، على اعتبار أن الأولوية للأشخاص الذين لم يتلقوا أي جرعات بعد.
وقال توم هارت، الرئيس التنفيذي بالإنابة لحملة One، لوكالة Associated Press الشهر الماضي: "فكرة أن الشخص السليم أو من سبق وتلقى اللقاح يمكنه الحصول على جرعة معززة قبل أن تحصل ممرضة أو سيدة مسنة في جنوب إفريقيا على جرعة واحدة مخزية".
وأثار تركيز بايدن البارد على المصالح الأمريكية استياء كثيرين ممن كانوا يقدرون للرجل شعوره بالآخرين، وهو أمر كان سلفه ترامب يفتقده. لكن الأمر يتخطى مسألة الشعور بالآخرين، إذ يأتي أيضاً في سياق أجندة اقتصادية تتعارض مع العولمة بتأكيد بايدن على احتياجات العاملين الأمريكيين الذين يصنعون المنتجات على الأراضي الأمريكية.
وقد استخدم بايدن كلمة "أمريكا" أو "أمريكي" ما لا يقل عن 36 مرة خلال تصريحات له مطلع هذا الشهر عن دعم القيادة الأمريكية في مجال السيارات والشاحنات التي تعمل بالطاقة النظيفة. وقال بايدن: "حين نستثمر في بنيتنا التحتية، سنشتري المنتجات الأمريكية، والمواد الأمريكية، والخدمات من الشركات الأمريكية المصنوعة في أمريكا، على أيدي عمال أمريكيين".
وهكذا يبدو أن بايدن أعاد إنتاج خطاب "أمريكا أولاً" ولكن بشكل آخر. يقول لاري جاكوبس، مدير مركز دراسة السياسة والحوكمة في جامعة مينيسوتا: "(أمريكا أولاً) لغة ترامب ولا أظن أن أتباع بايدن سيستخدمونها. ويمكنني وصف توجه بايدن بأنه (قومية تقدمية) لأن الهدف هو تحويل الموارد عن أفغانستان، وعن مشكلات الصحة العالمية، وعن التجارة، وتركيزها بطريقة منضبطة على مساعدة الأمريكيين".
عادت أمريكا للمؤسسات الدولية، ولكن!
بايدن، على عكس ترامب، يستثمر في الاتفاقيات والمؤسسات الدولية، وفقاً لجاكوبس، لكن النهج الذي يتبعه واقعي وعملي أيضاً. إذ انسحب من أفغانستان لأن الاستمرار فيها لم يعد يخدم المصالح الأمريكية. ولم يحاول تقليد سلفيه جورج بوش الابن أو باراك أوباما باستثمار رأس المال السياسي في محاولة جلب الديمقراطية إلى الشرق الأوسط.
ويتابع جاكوبس للغارديان: "لا شك في وجود نزعة قومية وتركيز على تقديم المساعدة للأمريكيين من الطبقة الوسطى، لكنها في إطار أكثر انضباطاً وقوة يفوق ما رأيناه في عهد الرؤساء الديمقراطيين السابقين".
ويقول: "الكثير من الأشخاص المحيطين ببايدن فكروا طويلاً وعميقاً في سبب خسارة هيلاري كلينتون أمام ترامب واستنتجوا أن السياسة الخارجية الأمريكية والعلاقات الاقتصادية الدولية قد أبعدت الأنظار عن الأمريكيين العاملين من الطبقة الوسطى".
وكان جيك سوليفان (الذي أصبح مستشار الأمن القومي حالياً) مقتنعاً بشدة بأن ترامب قد ربح جزئياً بسبب تصريحاته العنصرية والمناهضة للهجرة، وأيضاً لأنه حدد نقطة ضعف حقيقية في السياسة الخارجية للديمقراطيين.
تقول ويندي شيلر، أستاذة العلوم السياسية في جامعة براون في بروفيدنس بولاية رود آيلاند: "الأمر لا يتعلق كثيراً بأيديولوجية (أمريكا أولاً) الشاملة. لقد اتخذ هذا الرئيس قراراً بأن تركز مهمته وأهدافه على تحسين الظروف في الولايات المتحدة الأمريكية وتفادي الخسائر في الأرواح".
وأضافت: "المدهش هو أنه ربما يكون أول رئيس ديمقراطي منذ فترة طويلة لا يشعر بالحاجة إلى شرح موقفه. وهذا هو ما يصعب على الصحافة التي تتناول هذا الأمر أو التي تدعو إلى مشاركة الولايات المتحدة في الشؤون العالمية استيعابه. فقد تتوقع هذا من جمهوري. وتتوقعه يقيناً من دونالد ترامب، الذي تحدث عنه بوضوح تام. لكنك لن تتوقعه من بايدن".
وأشارت ويندي إلى أن الرئيس ليس لديه الكثير ليقوله بخصوص القضايا الدولية الملحة مثل كوبا وأوكرانيا ومحنة الإيغور في الصين. وبشكل عام، انحصرت هذه الموضوعات في البيانات المكتوبة المُهدِّئة بدلاً من الخطب الحماسية.
كيف يدافع بايدن عن نفسه؟
ومع ذلك، تعهد بايدن بإعادة أمريكا إلى قمة الطاولة العالمية. وعاد من فوره إلى اتفاقيات باريس المناخية وشارك في اجتماعات مع الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وحلف شمال الأطلسي، في محاولة لرأب الصدع الذي فتحه ترامب. ومن المقرر أن يستضيف، في ديسمبر/كانون الأول، قادة النظم الديمقراطية في العالم في "قمة ديمقراطية" افتراضية.
أما فيما يتعلق بكارثة أفغانستان، فقد سارع بايدن بإرسال قوات أمريكية إضافية إلى مطار كابول لإجلاء المواطنين الأمريكيين وآلاف الأفغان المؤهلين وعائلاتهم، وإن كان استعداد أمريكا للترحيب بتدفق جديد للاجئين محل نقاش.
وفي اليوم التالي لتصريحاته بخصوص اللقاح، دافع بايدن عن قراره إعطاء الأمريكيين جرعة ثالثة من اللقاح قبل أن يتلقى كثيرون حول العالم جرعتهم الأولى. وقال إنه في شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز، أعطت أمريكا 50 مليون جرعة داخل الولايات المتحدة وتبرعت بـ100 مليون جرعة لدول أخرى، ما يعني أن أمريكا تبرعت بلقاحات لدول أخرى أكثر مما فعلت دول العالم مجتمعة.
يقول لورنس هاس، مدير الاتصالات السابق لنائب الرئيس آل غور، ومؤلف كتاب The Kennedys in the World: "أعتقد أن جو بايدن يظل داعماً للعولمة في داخله ومؤمناً بقوة بالقيادة الأمريكية. وهذا ما تلحظه في دفاعه عن المعارضين السياسيين في الخارج ودعمه للحرية وإعادة الولايات المتحدة إلى بعض الكيانات الدولية التي سحب ترامب أمريكا منها، وفي محاولته إحياء الاتفاق النووي مع إيران وكذلك في انشغاله الشديد بما أراه حرباً باردة ناشئة مع الصين".