مع اكتمال سيطرة حركة طالبان على أفغانستان مجدداً، ربما حان الوقت للتساؤل عن كيفية وقوع هذا التحوّل المذهل في الأحداث. فطيلة 20 عاماً، كان العالم يتعاطى جرعةً متواصلة من "إنجازات الغرب" فيما كان يسميه "بناء الأمة" داخل أفغانستان. ومن وجهة نظر الغرب، فقد اجتازت أفغانستان محنتها بفضل "تدخلهم" في البلاد.
ولم يتوانَ دعاة هذه الرواية عن تذكيرنا بـ"التقدم المذهل الذي حققه الأفغان في ما يتعلّق بتبنّي النظام الليبرالي الديمقراطي". بل طلبوا منا، في حال واجهت تلك القيم الجديدة أي تحديات، التصديق بأنّ قوات الشرطة والجيش الأفغاني لديهم القدرة على التصدي لأي معارضة بكل "شجاعةٍ وحماس".
ولكن تبيّن أنّ تلك الشعارات الليبرالية الرنانة كنت مجرد مظاهر فارغة تخفي في طياتها وضعاً لم يتغيّر فعلياً على الأرض في أفغانستان، كما تصف ذلك مجلة The National Interest الأمريكية، وإليكم الأسباب في هذا التقرير.
"الشعارات الليبرالية الرنانة في أفغانستان كانت مجرد مظاهر فارغة"
تقول المجلة الأمريكية، إنه لا يمكن التقليل أبداً من قيمة الدعم المدني الحاسم في التقدم الذي أحرزته حركة طالبان. فلماذا فعل الأفغان ذلك؟ ولماذا لم يقبلوا بالنظام الليبرالي الذي بناه الغرب لهم؟ قد يُمكن الإجابة عن هذا السؤال بحجج مثيرة للجدل، مثل أنّ قناعات الأفغان العميقة بأيديولوجية طالبان ونظرة الحركة للعالم كانت السبب وراء ذلك.
وفي ما يتعلّق برواية "غياب المقاومة المحلية لتقدم طالبان"، سنجد أنّ الجموع لم تقتنع بحق بمزاعم التحولات الاجتماعية الكبرى التي جلبتها مؤسسة بناء الأمم الغربية؛ حيث إن التجربة المباشرة الوحيدة التي مرّوا بها نتيجة تلك التحولات كانت ظهور طبقة من النخب الفاسدة. أما المزاعم المترددة حول إنفاق المليارات على إعادة إعمار أفغانستان وتدمير قوات التحالف لطالبان، فكانت كلها أشبه بالكلام الفارغ، كما تقول المجلة الأمريكية.
وبالتالي، حين وصل رجال طالبان من الجبال إلى المدن حاملين بنادق الكلاشينكوف على متن الدراجات النارية، وشاحنات تويوتا، وقف سكان تلك المدن ببساطة لتقديم التحية لهم. وهذا ما دفع العديد من المحللين والمراقبين في الغرب إلى التساؤل بتعجّب عن سبب وقوف الأفغان في صمت وهم يشاهدون فرض طالبان سيطرتها على البلاد.
إذ بدا وكأنّ الناس يرحبون برجال طالبان ويتطلّعون للعودة إلى نظامهم الذي دام 5 سنوات قبل أن تطيح به الولايات المتحدة الأمريكية والغرب. وفي ما يتعلّق بتخلي الجنود عن مواقعهم وانضمامهم إلى الحركة، فدعونا لا ننسَ أنّ العديد من جنود قوات الحكومة كانوا في الأصل من رجال طالبان.
وبالتالي فقد كانوا مع الحركة قلباً وقالباً. ويجب أن ننظر إلى رواية "استسلام" الأفغان بدون قتال من هذه الزاوية القوية، وإن كانت مثيرةً للجدل. فحين يفر زعيم البلاد مع كبار مسؤوليه بدلاً من الدفاع عن سلطته؛ يكشف هذا الكثير عن مستوى الالتزام بين الحكومة والشعب في المقام الأول.
ما لا يستطيع الغرب فهمه في أفغانستان
وربما نجد بعض المواساة في الحجة القائلة إنّ المجتمع وثقافته يقعون رهائن للنظام الحاكم والأيديولوجية السائدة. وربما تكون هذه الحجة صحيحة، أو ربما يكون السبب الحقيقي هو أنّ العديدين ممن يعيشون هناك ليس لديهم مانع في الحياة بهذا الأسلوب. فهل من الممكن برغم الإحباط الأجنبي أن يكون الأفغان راغبين حقاً في أن تحكمهم حركة طالبان بموجب دستورٍ إمارة أفغانستان الإسلامية وتحت قوانين الشريعة؟
ولا جدال على صحة حجة حركة طالبان التي تقول إنّها كانت تمتلك حكومة وتمت الإطاحة بها في تدخّلٍ خارجي أجنبي. فالعديد من الأفغان لا يُفضلون في الحقيقة وجود الأجانب ولا يعتنقون أفكارهم، رغم استفادتهم من الحوافز الاقتصادية الغربية.
"أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات"
والأفغاني مراقبٌ ذكي، حيث شاهد العديد من الإمبراطوريات تأتي وترجع بخفي حنين دون أن تنجح في السيطرة على الأفغان. إذ فشل الجميع، بدءاً من الإسكندر الأكبر وحتى الأمريكيين، في محاولاتهم لاحتلال هذا البلد الشرس. ولا عجب في أنّ الغرباء أنفسهم هم من أطلقوا على هذه الأراضي اسم "مقبرة الإمبراطوريات".
ودعونا لا ننسَ أنّ القاعدة الشعبية الأفغانية والمواطنين العاديين لم يكن لديهم أدنى شك في زوال الوجود الأجنبي على أراضيهم منذ اليوم الأول. واعتبروا أنّ الأفكار التي يقدمها الغرب مجرد أفكارٍ عابرة لا تناسب الأذواق المحلية.
ويبدو أنّهم تظاهروا بقبول تلك الأفكار والقيم في السابق من أجل المنافع المادية التي كانت تعود عليهم منها. لقد كان الأمر أشبه بمسرحيةٍ طوال الوقت. وبالتالي قد يصدق البعض الطرفة القائلة إنّ "حركة طالبان سلّمت أفغانستان للولايات المتحدة وحلفائها بعقد إيجارٍ مدته 20 عاماً، من أجل الاستفادة بالاستثمارات الأمريكية التي تصل قيمتها إلى ثلاثة تريليونات دولار داخل بلادهم". وهي طرفةٌ تروي الكثير عن مدى عدم جدوى التدخل الأجنبي في هذه الدولة التي لا ترحم.
"الغرب يعيش في العالم الذي اختلقه حول أفغانستان"
كما تقول "ناشيونال إنترست": "ربما كان الليبراليون الغربيون يرغبون في قتال (مفعم بالحيوية) من الأفغان ضد القوى التي تسعى إلى قلب النظام الليبرالي. ولكن ثبت أنه يوجد نقص في هذا التصميم والعزم بين الأفغان".
وبدلاً من الوقوف في وجه طالبان ذوي التسليح الخفيف، تخلى الجيش عن مهامه وهربت الحكومة من البلاد بشكل جماعي. وهذا هو السياق الذي ذكره الرئيس الأمريكي جو بايدن: "لقد منحناهم (الأفغان) كل فرصة لتقرير مستقبلهم. لم نتمكن من تزويدهم بالإرادة للقتال من أجل ذلك المستقبل"، أمر منطقي تماماً.
وتضيف المجلة الأمريكية أن العالم الذي يعيش فيه الغرب هو العالم الذي اختلقه. وأن فترة الـ20 عاماً، فترة زمنية جيدة إلى حد ما بالنسبة للأفغان لاحتضان نظام جديد، لكن تماهيهم مع عودة طالبان بشكل مذهل يدل على ضعف التزامهم بالأساس بالنظام الليبرالي الذي قدمه الغرب.
"حان الوقت لتغيير طريقة تفكيرنا كغربيين عن غيرنا"
تقول "ناشيونال إنترست": في الوقت نفسه، حين يحاول الغربيون وصف حركة طالبان، يتحدثون عنها كما لو كانت من المريخ. إنهم ليسوا كائنات من خارج الأرض، إنهم مزروعون في التربة الأفغانية وهم أبناء القبائل التي نشأ عليها هذا الشعب. إنهم نتاج رؤية أفغانية معينة للعالم. قد يجد الغرب وجودهم "مسيئاً" له، لكن لا يمكنه استبعادهم تماماً على أنهم غرباء عن أفغانستان.
وفي أي كتاب للقواعد القومية، يمكن تعريف مجموعة السكان الأصليين التي تقاتل لتخليص البلاد من القوات الأجنبية والغزو الخارجي على أنها قوة مقاومة قومية. وكقوة قومية، إذا قررت طالبان تغيير علم البلاد، وتسميتها إمارة أفغانستان الإسلامية، وفرض هيكل قانوني جديد قائم على القيم الدينية الأساسية للمجتمع، فهذا من صلاحياتهم. إذا كنا (الغرب) على ما يرام مع المملكة العربية السعودية التي تتبع أقل من غيرها ثقافة سياسية ديمقراطية، ونظاماً قانونياً قائماً على مفاهيمها الخاصة للشريعة الإسلامية، فلا ينبغي أن يكون لدينا أي مشكلة مع ممارسات طالبان الاجتماعية.
تضيف المجلة: وفي عزمنا المسيحي الليبرالي الشغوف على رؤية الأشياء بطريقتنا، في جميع أنحاء العالم، نسينا أنه قد يكون هناك أشخاص في أماكن ما لا يشاركوننا مخاوفنا ومعتقداتنا وقيمنا وتفسيرنا الخاص لـ"الحياة الجيدة أو المثالية". "ولا يعني عيشنا جميعاً في عالم مترابط بالضرورة أنه يجب على الجميع اتباع نفس القواعد والمبادئ الغربية".
ربما حان الوقت لأن نقبل الاختلافات بين المجتمعات والثقافات وطرقهم في فعل الأشياء. وعلى الرغم من محاولات الغرب تحويل الأفغان نحو أفكار وتطلعات العالم الخارجي، فإن غالبية الأفغان لا يزالون ملزمين بمفاهيمهم السابقة عن الشرف والثقافة، والصواب والخطأ، وما إلى ذلك. ربما حان الوقت لتغيير طريقة تفكيرنا كغربيين عن غيرنا وألا نتوقع العكس.