تسبّب صعود حركة طالبان في إعادة رسم الخريطة الدبلوماسية للولايات المتحدة وخصومها، بينما يتنافسون من أجل تشكيل مستقبل أفغانستان.
إذ بدأت الصين وروسيا التحرك بالفعل لبناء العلاقات مع طالبان، واستضافت كلٌ منهما مسؤولين من طالبان قبل حتى أن تُنهي القوات الأمريكية انسحابها بالكامل. وإقراراً من الولايات المتحدة بالنفوذ المتزايد لبكين وموسكو داخل كابول؛ اتّصل وزير الخارجية أنتوني بلينكن بوزراء خارجية الصين وروسيا يوم الإثنين 16 أغسطس/آب.
ويأتي هذا التواصل من إدارة بايدن بينما تعاني واشنطن من أجل العثور على وسيلةٍ للتأثير على التطورات السياسية والأمنية داخل الدولة الحبيسة في وسط آسيا، وهي الدولة التي سحبت منها كامل قواتها، بينما يحاول العديد من الأفغان الذين تعاونوا مع الولايات المتحدة عن قرب الفرار من البلاد، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
إدارة بايدن تقول إنها ستحاسب طالبان بناءً على مواقفها من حقوق المرأة
والتزاماً منها بوعودها حول سياسة حماية حقوق المرأة، كرّرت إدارة بايدن تحذيرها من حصار الحكومة التي تُديرها طالبان حال فشلها في حماية حقوق الإنسان الأساسية.
لكن تهديدات الإدارة المتكررة بتحويل أفغانستان إلى "دولةٍ منبوذة"- إذا انتهكت طالبان حقوق الإنسان- لن تكون ذات قيمة في حال لم تتعاون بكين وموسكو وفي حال عزّزت حكومة طالبان علاقاتها مع باكستان وإيران.
ومع فقدان نفوذ الجيش الأمريكي على الأرض، فلا شك أنّ الوعود برفع العقوبات القائمة أو فرض عقوبات جديدة ستكون على الأرجح الوسيلة الأساسية الوحيدة أمام واشنطن لمحاولة فرض نفوذها على الحكومة الجديدة التي تُهيمن عليها طالبان.
وكان رئيس الوزراء البريطاني طالب دول العالم، الأحد، بعدم الاعتراف بطالبان أحادياً، مؤكداً السعي للحفاظ على المكاسب التي تحققت في أفغانستان، في إشارة إلى نية الغرب استخدام الاعتراف والتلويح بالعقوبات أداة للضغط على الحركة.
ولكنها لا تستطيع معاقبة الحركة دون مشاركة الصين وروسيا
ونظراً لأنّ الولايات المتحدة وغيرها من الدول قد فرضت عقوبات بالفعل على طالبان، فإنّ سيطرة الحركة على العاصمة الأفغانية تعني تمديد عقوبات الإرهاب الحالية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، لتشمل المؤسسات الحكومية الخاضعة لسيطرة الحركة الآن بحسب مسؤولين في وزارة الخزانة ومحللين. كما تم تعليق غالبية الحسابات المالية لأفغانستان خارج البلاد.
وقال مسؤول أمريكي لوكالة فرانس برس، الإثنين، إن طالبان لن تتمكّن من استخدام الاحتياطات الأفغانية في الولايات المتحدة.
وبالتزامن مع عملية إجلاء تجريها القوات الأميركية من العاصمة الأفغانية إثر استيلاء طالبان السريع على السلطة، قال المسؤول إن "أي أصول للمصرف المركزي تملكها الحكومة الأفغانية في الولايات المتحدة لن تكون متاحة لطالبان".
ووفق صندوق النقد الدولي بلغت احتياطات المصرف المركزي الأفغاني في نهاية أبريل/نيسان 9.4 مليارات دولار.
لكان غالبية هذه الاحتياطات موجودة خارج أفغانستان، وفق مصدر مطّلع.
ولم يتّضح على الفور حجم الأصول الأفغانية الموجودة في الولايات المتحدة.
لكن أي مقترحات لفرض عقوبات جديدة من جانب الأمم المتحدة قد تواجه تحدياً من جانب الصين وروسيا، اللتين تحتفظان بحق الاعتراض (الفيتو) في مجلس الأمن، حسب تقرير Wall Street Journal.
إذ تحتفظ روسيا والصين وإيران بسفاراتها داخل أفغانستان، بينما يفر غالبية المسؤولين الأجانب من البلاد. وخلال الأشهر الأخيرة، سعت موسكو لبناء علاقات مع طالبان رغم مخاوفها المتعلقة بحلفائها في وسط آسيا.
أمريكا تحتاج روسيا لتشكيل مستقبل أفغانستان
وقال زامير كابولوف، المبعوث الرئاسي الخاص لروسيا في أفغانستان: "استقر رأيي منذ فترةٍ طويلة على أنّ حركة طالبان ستكون أكثر قدرةً على التوصل لاتفاقيات داخل كابول من حكومة دمية. ونحن نثق فيهم بالطبع، ولكن ليس بشكلٍ كامل. وسوف نراقب الخطوات المقبلة عن كثب".
من جهتها، أعلنت الخارجية الروسية، أمس الإثنين، أن موسكو لن تستعجل الاعتراف أو عدمه بالسلطة الجديدة، مؤكدة أن الأمر يعتمد على سلوكياتهم.
وقالت: "لا يمكن الحديث حالياً عن استبعاد طالبان من قائمة المنظمات الإرهابية، وهذا الإجراء يجب أن يبدأ من قبل مجلس الأمن الدولي".
كشف السفير الروسي لدى أفغانستان ديمتري جيرنوف عن انطباعاته للساعات الأولى بعد سيطرة حركة "طالبان" على كابول، مشيراً إلى حالة من الهدوء في المدينة.
وحسب السفير الروسي، فإن "المدينة أصبحت هادئة بشكل غير عادي، ليس هناك انفجارات ولا إطلاق نار ولا أي شيء من هذا القبيل، بات الهدوء يسود الموقف".
وتابع: "الحياة عادت إلى مجراها الطبيعي في المدينة".
وفي تصريحات أخرى، اعتبر السفير أن مقاتلي "طالبان" الذين سيطروا على كابول الأحد، دخلوها كـ"أصحاب" وليس كمحتلين، وقال إن أفراد مجموعاتهم الأولى عند دخول كابول سجدوا وقبلوا أرض المدينة. وأضاف: "الغزاة لا يفعلون هكذا، هم يقدمون على النهب والسطو، لكن لم يحدث شيء من هذا، وآمل أن يستمر الأمر على هذا النحو لاحقاً".
وأضاف: "بدأت المدارس بالعمل، حتى مدارس للبنات. حاول الغرب تخويفنا من أن أنصار طالبان سيأكلون النساء، لم يأكلوهن، وإنما فتحوا مدارس للفتيات".
وتُمثّل مكالمة بلينكن لنظيره الروسي- بشأن التطورات المتسارعة داخل أفغانستان- تحوّلاً في اللهجة الأمريكية التي سبق أن اتّهمت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتمويل عمليات الهجوم على الجنود الأمريكيين داخل أفغانستان خلال حملة بايدن الرئاسية عام 2020. ولكن بمجرد تولّي بايدن المنصب، قالت إدارته إنّ ثقة الاستخبارات الأمريكية في تلك الادعاءات "تتراوح بين الضعيفة والمتوسطة".
..والصين تتطلع إلى علاقات ودية معها
بينما لم تعترف بكين اعترافاً كاملاً بحركة طالبان في العلن على الأقل. حيث قال مستشارٌ للحكومة الصينية إنّ القيادة تنظر إلى سيطرة طالبان الحالية باعتبارها فترةً انتقالية.
وغداة سيطرة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول، أبدت الصين التي تتشارك حدوداً مع أفغانستان تمتدّ على 76 كلم، استعدادها، الإثنين، لإقامة "علاقات ودية" مع الحركة.
وأكدت متحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشونينغ، أمام الصحافة أن بكين "تحترم حق الشعب الأفغاني في تقرير مصيره ومستقبله".
وقالت المتحدثة هوا تشونينغ، خلال مؤتمر صحافي يوم الإثنين: "على أساس الاحترام الكامل لسيادة أفغانستان وإرادة جميع الفصائل في البلاد، حافظت الصين على الاتصال والتواصل مع حركة طالبان الأفغانية ولعبت دوراً بناء في تعزيز التسوية السياسية للقضية الأفغانية".
وبحسب هوا، ذكرت طالبان "في مناسبات متعددة" أنها "تتطلع إلى مشاركة الصين في إعادة إعمار أفغانستان وتنميتها".
وأوضحت هوا: "نحن مستعدون لمواصلة تطوير علاقات حسن الجوار والتعاون الودي مع أفغانستان ولعب دور بناء في السلام وإعادة الإعمار في أفغانستان".
وتستطيع إنقاذ الحركة اقتصادياً
وتستطيع الصين مدّ شريان حياةٍ اقتصادي لطالبان، سواء على وجه السرعة من خلال تقديم السيولة النقدية أو على المدى المدى البعيد من خلال الاستثمار في تطوير الموارد المعدنية تحت مبادرة الحزام والطريق.
وقدّرت مديرة ديون الأسواق الناشئة في شركة أليانس بيرنشتاين، شمايلة خان، قيمة الثروات المعدنية في أفغانستان بتريليونات الدولارات من المعادن النادرة، وقالت إن الدول- مثل الصين- التي قد تتطلع للانقضاض على أفغانستان يجب أن تتبع الشروط الدولية.
وتمتلك أفغانستان عناصر أرضية نادرة مثل اللانثانم والسيريوم والنيوديميوم وعروق الألمنيوم والذهب والفضة والزنك والزئبق والليثيوم، وفقاً لكاتوازاي. وتُستخدم العناصر الأرضية النادرة في كل شيء من الإلكترونيات إلى السيارات الكهربائية والأقمار الصناعية والطائرات.
وفي الشهر الماضي، أثارت نائبة وزير الخارجية الأمريكية ويندي شيرمان مسألة أفغانستان مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي. وقد ركّز وزير الخارجية الصيني في مجمل حديثه على حركة تركستان الشرقية الإسلامية، وهي الجماعة التي تعتقد الولايات المتحدة أنّها لم تعد موجودة، وذلك لقلق الصين إزاء عدم استقرار حدودها مع أفغانستان.
وبعد يومين من تشاور ويندي مع وانغ، التقى وزير الخارجية الصيني برئيس اللجنة السياسية في حركة طالبان الملا عبدالغني برادار. وقد انتقد وانغ الانسحاب الأمريكي السريع، ثم أعلن عن احترام بلاده "لسيادة واستقلال أفغانستان، ووحدة أراضيها".
باكستان سعيدة بالانسحاب الأمريكي والهند قلقة وإيران تحاول تحسين موقفها
في حين بدا رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، الذي انتقد من قبل وجود الولايات المتحدة داخل أفغانستان، مرحباً بسيطرة طالبان: "لقد كسروا أغلال العبودية داخل أفغانستان".
وفي أواخر يوليو/تموز، التقى مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جاك سوليفان نظيره الباكستاني مؤيد يوسف في واشنطن. كما اتصل بلينكن بنظيره الهندي يوم الإثنين.
وتعد الهند الأكثر قلقاً من سقوط الحكومة الأفغانية في ضوء توتر علاقتها مع طالبان، التي تحتفظ بعلاقة قوية مع باكستان.
وعلى جبهةٍ أخرى، علّقت إيران يوم الإثنين بانتقاد الولايات المتحدة دون التطرق إلى طالبان، رغم كون إيران حليفاً للحكومة التي تمت الإطاحة بها الآن؛ إذ قال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في تصريحه يوم الإثنين: "إنّ الهزيمة العسكرية والانسحاب الأمريكي من أفغانستان يُمثل فرصةً لإعادة الحياة والأمن والسلام الدائمين إلى البلاد. وتدعو إيران جميع الأطراف للتوصل إلى اتفاقٍ وطني، باعتبارها دولةً جارة وشقيقة لأفغانستان".
كما رحّب وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بإعلان الرئيس الأفغاني الأسبق حامد كرزاي تشكيل مجلس من القادة الأفغانيين للتفاوض على تسويةٍ مع طالبان.
إذ قال ظريف على تويتر: "نأمل أن يُؤدي ذلك إلى حوارٍ وتحوّلٍ سياسي سلمي داخل أفغانستان. وإيران جاهزةٌ لمواصلة جهودها من أجل السلام".