كان يفترض أن مدينة غزة الصناعية، تُعَد واحدة من أكثر الأماكن الآمنة التي يمكن تشغيل شركة منها في القطاع المحاصر.
هكذا كان يعتقد نعيم السكسك، وهو رجل أعمال فلسطيني يدير مصنعاً في مدينة غزة الصناعية.
ولكن أصبح مصنعه في 20 مايو/أيار الماضي واحداً من الضحايا الكثر للعملية الإسرائيلية الأخيرة في غزة.
قال السكسك، المدير التنفيذي لمصنع السكسك لتصنيع الأنابيب البلاستيكية، لموقع Middle East Eye البريطاني: "حين بدأت المدفعية الإسرائيلية استهداف مدينة غزة الصناعية، كان هناك 4 حراس شهدوا انتشار النار سريعاً في المواد الخام في المصانع، وقد حاولوا وقفها، لكنَّهم لم يستطيعوا".
وقال إنَّه بحلول الوقت الذي وصل فيه الدفاع المدني الفلسطيني، كان 15 مصنعاً على الأقل قد دُمِّرَت أو تعرَّضت لضرر شديد.
مدينة غزة الصناعية محمية بموجب اتفاقيات التأسيس
تأسست المنطقة الصناعية أو ما يعرف باسم مدينة غزة الصناعية القائمة على مساحة 123 فداناً عام 1996 بموجب اتفاقيات بدعم من البنك الدولي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وبنك الاستثمار الأوروبي والاتحاد الأوروبي، وتضم المنطقة العشرات من الشركات الفلسطينية.
قال السكسك: "لم نتوقع قط استهداف مدينة غزة الصناعية، لأنَّه من المُفتَرَض أنَّنا محميون بموجب اتفاقيات التأسيس، لكنَّ الواقع كان صادماً".
وأضاف: "خسائر مصنعنا وحده وصلت إلى 1.2 مليون دولار. والآن حتى لو أردنا تعويض الخسائر، سنحتاج لعامين على الأقل حتى نعمل بصورة عادية".
ووفقاً لوزارة الاقتصاد في غزة، تعرَّضت نحو 1500 مؤسسة اقتصادية للتدمير أو الضرر خلال الهجوم الإسرائيلي الأخير.
وأعلنت اللجنة العليا لإعادة إعمار غزة في يوليو/تموز الماضي أنَّ إجمالي الخسائر والأضرار الناجمة عن الهجوم تصل إلى 479 مليون دولار.
وقالت اللجنة إنَّ 33% من الأضرار لحقت بقطاع التنمية الاقتصادية، و61% بقطاع الإسكان والبنية التحتية، و7% بقطاع التنمية الاجتماعية.
الحصار يستكمل ما فعلته الحرب
وبعد أكثر من شهرين من توصل إسرائيل وحماس إلى وقف لإطلاق النار بعد حربٍ استمرت 11 يوماً وأسفرت عن مقتل 248 فلسطينياً في قطاع غزة و13 شخصاً في إسرائيل، ظلت حياة كثيرين في القطاع الفلسطيني المحاصر متوقفة، حسبما ورد في تقرير آخر لموقع Middle East Eye البريطاني.
إذ لا يزال المليونا فلسطيني الذين يعيشون في غزة يواجهون قيوداً إسرائيلية صارمة على دخول البضائع إلى القطاع الصغير؛ وهو ما يتسبب في ركود اقتصادي كبير يجعل إعادة الإعمار مستحيلة.
رغم نجاح الوساطة المصرية في وضع حد للقتل والدمار، لم تفلح جهود القاهرة بعد في إعادة الوضع في غزة إلى ما كان عليه قبل الحرب، الذي كان صعباً في الأصل على سكانها، الذين يعيشون بالفعل منذ 14 عاماً تحت الحصار الإسرائيلي.
ووسط إصرار إسرائيل على ربط مشكلة الواردات وإعادة الإعمار بالإفراج عن أربعة إسرائيليين يُعتقد أن حماس تحتجزهم، تختلف آراء المحللين حول إن كان استمرار هذا الشلل في غزة قد يؤدي إلى مواجهات جديدة في المستقبل.
لفت مسؤولون في غزة إلى أن القيود الإسرائيلية الصارمة كانت لها آثار سلبية على جميع مناحي الحياة في القطاع الفلسطيني المحاصر، وأدت إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات الفقر والبطالة.
قذائف حارقة على مصنع للبلاستيك
يشاطر السكسك في إحباطه الكثير من أصحاب الشركات والأعمال في قطاع غزة، الذين تعطَّلت أعمالهم بسبب آثار الهجوم الإسرائيلي.
إذ يقع مصنع أبوإسكندر للنايلون قرب مصنع السكسك في المنطقة الصناعية، وقد استهدفته القذائف الإسرائيلية الحارقة بصورة مباشرة وتضرر بشدة.
قال أحمد حرب، أحد مُلَّاك المصنع: "أطلق الاحتلال الإسرائيلي قذائف حارقة على مصنعنا، ما أدى إلى اشتعال نيران هائلة استمرت لخمس ساعات بسبب احتوائه على مواد خام قابلة للاشتعال".
وأضاف: "خسرتُ كل شيء. لن نتمكن من العمل مجدداً في المستقبل القريب. نحتاج إلى مئات آلاف الدولارات لإعادة بناء ما دُمِّر". وقد استغنت إدارة المصنع عن كل عماله.
فقال حرب: "كان 17 عاملاً يعملون بهذا المصنع، كلهم يعتمدون على وظائفهم هنا لكسب قوتهم ودعم عائلاتهم. وكلهم باتوا عاطلين الآن".
وقال السكسك: "كان 100 شخص يعملون هنا (في مصنعه)، والآن لدينا 40 عاملاً فقط يعملون بدوام جزئي، إمَّا لأنَّ الأقسام التي يعملون بها توقفت عن العمل، أو لأنَّ حجم الإنتاج تقلَّص إلى الحد الأدنى".
رأسمال يهرب من القطاع
لكنَّ محمد أبوجيّاب، الخبير الاقتصادي الفلسطيني، يقول إنَّ تداعيات الهجوم تتجاوز بكثير الخسائر المالية المباشرة.
فصرَّح للموقع البريطاني قائلاً: "القطاعات الأكثر تضرراً هي القطاع الصناعي والتجاري والزراعي. فالخسائر في هذه القطاعات ليست فقط خسائر مادية مباشرة، بل أيضاً خسائر استراتيجية ترتبط بأمان الاستثمار".
وأضاف: "تواصل السلطات الإسرائيلية إجراءاتها ضد القطاع الاقتصادي في غزة حتى بعد الهجوم. إذ تُمنَع المواد الخام من دخول غزة. وعلاوة على ذلك، فرضوا قيوداً على تصدير المنتجات منذ بدء الحصار الإسرائيلي في 2007. والهيكل الاقتصادي في غزة مُشوَّه بسبب الحصار الإسرائيلي والهجمات المتتالية".
وقال أبوجيّاب إنَّه قبل الهجمات الإسرائيلية الأربع الكبرى وفرض قيود صارمة على غزة، كان نحو 160 ألف فلسطيني يعملون في 13 اتحاداً صناعياً مختلفاً. لكن يمكن لهذه الاتحادات اليوم توفير 20 ألف فرصة عمل فقط.
لكن ما يؤثر على اقتصاد غزة على المستوى الاستراتيجي هو حقيقة أنَّ التوترات المستمرة أثَّرت بشدة على المعنوية الاقتصادية للقطاع.
وأوضح أبوجيّاب: "الأمر الخطر الآن بشأن الهيكل الاقتصادي في غزة هو أنَّ هناك حالياً هروباً عكسياً لرأس المال".
وأضاف: "تميل الشركات المشهورة للهجرة أو نقل أنشطتها إما إلى الضفة الغربية أو إلى بلدان أخرى. وهم يديرون أعمالهم هناك ويُصدِّرون بضائعهم لغزة؛ لأنَّ ذلك أكثر أماناً لهم من أن يكونوا دوماً في حالة غموض بسبب الهجمات والحصار الصارم".
استهداف مقرات الشركات عبر تدمير الأبراج
كان من بين المباني التي دُمِّرَت خلال الهجوم الإسرائيلي أربعة أبراج سكنية على الأقل تضم العشرات من الشركات الصغيرة ومكاتب وسائل الإعلام. وكان "برج الهنادي"، وهو أكبر مبنى في غزة، أول برج يُسوَّى بالأرض في اليوم الثاني من الهجوم.
قال نهاد الشنطي، مالك شركة للبرمجة وتصميم المواقع: "لم يمنحنا الاحتلال وقتاً كافياً لإخلاء المعدات القيِّمة بهدف تقليص حجم الخسائر، وقد استهدفوا المقر ودمَّروا مقرنا معه. وللأسف، خسرنا كل شيء".
كان لدى الشركة 36 موظفاً، لكن اضطررنا لتسريح 10 أشخاص بعد هدم المقر في الهجوم. ويعمل الموظفون الـ26 الآخرون حالياً عن بُعد من منازلهم.
قال الشنطي: "تصل خسائرنا إلى 30 ألف دولار، ولا نزال بحاجة إلى كثير جداً من الوقت لنبحث عن مكتب آخر والتجهيز لنكون قادرين على العمل بشكل طبيعي مجدداً".
ويستمر استهداف القطاع الاقتصادي، بما في ذلك المصانع والشركات الصغيرة، فضلاً عن الإغلاق المتكرر لحدود غزة، في دفع الآلاف من سكان القطاع الساحلي إلى البطالة والفقر.
ووفقاً لمنظمة العمل الدولية، يملك أقل من شخص واحد من بين خمسة أشخاص في سن العمل في غزة وظيفةً، في حين يبقى ثلثا النساء والشباب عاطلين.
قائمة طويلة من الممنوعات تدمر شركات غزة ببطء
وفقاً لمنظمة "غيشا"، وهي منظمة إسرائيلية غير ربحية تدعو لحماية حرية تنقُّل الفلسطينيين، فإنَّه على الرغم من إعلان "وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية" سلسلة من التغييرات في سياسة انتقال الأشخاص والبضائع من وإلى غزة، تظل الإجراءات الجديدة "بعيدة عن تلبية احتياجات سكان واقتصاد غزة".
ويوجد ضمن القائمة الطويلة من البضائع الممنوعة من دخول غزة مواد البناء المطلوبة لإعادة البناء عقب الهجوم الأخير.
قال أبوجيّاب للموقع البريطاني: "يؤثر تأخير إعادة الإعمار أيضاً بصورة غير مباشرة على معظم القطاعات الاقتصادية في غزة. وحين نتحدث عن عملية البناء نفسها، فإنَّنا نتحدث عن 30 مهنة مختلفة معنيّة، بما في ذلك المقاولون وعمال البناء والسبَّاكون والنجارون وغيرهم".
وختم قائلاً: "حين يجري وقف هذه العملية، يعني هذا أن يكون نحو 60 ألف عامل في قطاع البناء في قطاع غزة غير قادرين على العمل. وتواجه الشركات خسائر مُضاعَفة.. وأفضل السيناريوهات سيئ. فحتى لو نجحت كل الجهود الدولية والمحلية مجتمعة في القيام بأدوارها بصورة مثالية، سيحتاج القطاع الاقتصادي في غزة إلى 5 سنوات على الأقل للعودة إلى حالته الهشة التي كان عليها قبل الهجوم الأخير".