أثار حديث الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، عن وجود ضغوط خارجية تُمارس على السلطات التونسية، التساؤلات حول هل ما يمكن وصفه بـ"الانقلاب الدستوري" بات يحظى بتأييد دولي كبير، أم أن الأمر لا يجد له مؤيدين في الخارج؟
ولم يتحدث الرئيس الجزائري عن الجهات الخارجية التي تمارس ضغوطاً على نظيره التونسي قيس سعيّد، لكن مواقف عدة دول كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا كانت واضحة، وعبّرت عن قلقها مما يحدث في تونس.
كما أن الاتحاد الإفريقي قد يتحرك باتجاه تعليق عضوية تونس لديه، إذ توصل إلى قناعة بأن الإجراءات التي اتخذها سعيّد ترقى لأن توصف بـأنها "انقلاب".
ففي 25 يوليو/تموز الماضي، قرّر سعيد إقالة رئيس الحكومة، على أن يتولى هو السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة يعين رئيسها، وتجميد اختصاصات البرلمان لمدة 30 يوماً، ورفع الحصانة عن النواب، وترؤسه النيابة العامة.
دعوة أمريكية للحوار واحترام الديمقراطية
بعد يوم من الإجراءات التي اتخذها الرئيس التونسي، اتصل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، هاتفياً به، وحثّه على "الالتزام بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي تُعد الأسس التي يقوم عليها الحكم في تونس".
وشجّع بلينكن سعيد على "الاستمرار في الحوار المفتوح مع جميع الأطراف السياسية"، بحسب بيان للخارجية الأمريكية، نشرته سفارة واشنطن لدى تونس على موقعها.
لكن المكالمة الثانية لمسؤول أمريكي آخر مع الرئيس التونسي حملت لهجة قوية، وضغطاً أكبر من أجل تنفيذ خارطة طريق تعيد المسار الديمقراطي إلى سكته.
حيث شدّد مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، في اتصاله بسعيد، على "الحاجة الماسّة للقادة التونسيين لرسم الخطوط العريضة لعودة سريعة إلى المسار الديمقراطي".
وأكد سوليفان، على أن "من شأن ذلك أن يتطلّب تشكيل حكومة جديدة بسرعة، بقيادة رئيس وزراء متمكّن.. الإضافة إلى ضمان عودة البرلمان المنتخب في الوقت المناسب".
وأشار البيان إلى أن سوليفان نقل لسعيد دعم الرئيس الأمريكي جو بايدن القوي "للديمقراطية التونسية القائمة على الحقوق الأساسية، والمؤسسات القوية، والالتزام بسيادة القانون".
وهذا البيان رسم خريطة طريق أمريكية للرئيس التونسي للعودة إلى الوضع الدستوري، تتمثل في تشكيل حكومة في أسرع وقت، وعودة البرلمان المجمد إلى النشاط.
إذ تحتاج الحكومة إلى ثقة البرلمان للعمل بشكل دستوري، وقد يكون هذا السبب الذي يجعل الرئيس التونسي يتريث في تعيين رئيس وزراء جديد رغم مرور أكثر من أسبوعين على إقالة هشام المشيشي.
وقد تختلف خطة سعيّد عن خارطة الطريق الأمريكية الموضوع أمامه، وهذا ما يفسر تجاهل الموقع الرسمي للرئاسة التونسية وحساباتها على شبكات التواصل الاجتماعي أي إشارة لاتصاله بسوليفان.
إلا أنه بعد أيام قليلة، أنهت الرئاسة التونسية مهام سفيرها لدى واشنطن نجم الدين الأكحل.
فرنسا تضغط من أجل خارطة طريق
ومع ذلك لم تصف واشنطن، حتى الآن، ما حدث في تونس بـ"الانقلاب"، وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي، في 26 يوليو/تموز، إنه "حتى الآن لا يمكن وصف ما إذا كانت قرارات الرئيس التونسي انقلاباً".
وفي 6 أغسطس/آب، اتصل وزير الخارجية الأمريكي بنظيره الجزائري رمطان لعمامرة، الذي كان أول مسؤول أجنبي يلتقي الرئيس التونسي عقب قرارات 25 يوليو/تموز، وناقش معه عدة ملفات بينها الوضع في تونس.
لذلك من المرجح أن تكون الولايات المتحدة مَن قصدها الرئيس الجزائري عندما قال إن بلاده لن تقبل بأن تمارس جهات خارجية أي ضغوط على السلطات التونسية، وإن سعيد أبلغه "أموراً لا يمكن البوح بها".
فالوضع الاقتصادي التونسي هشّ جداً بسبب حجم الديون المترتبة عليها، والمقرر دفع جزء منها قبل نهاية 2021، ناهيك عن تعثر مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي للحصول على حزمة جديدة من الديون.
إضافة إلى الوضع الصحي المأساوي الذي تعاني منه البلاد بسبب جائحة كورونا، والتي جعلتها في أعلى قائمة الدول العربية من حيث عدد الإصابات والوفيات، رغم قلة عدد سكانها.
الضغط الفرنسي على قيس سعيد تماهى مع الضغوط الأمريكية بشأن تعيين رئيس حكومة في أسرع الوقت، لكنه كان أقل كثافة وأكثر حذراً قبل أن يرتقي إلى أعلى مستوى بعد الاتصال بين الرئيسين الفرنسي والتونسي.
ففي 28 يوليو/تموز، دعا وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، إلى "تعيين رئيس وزراء جديد على وجه السرعة، وتشكيل حكومة تلبي تطلعات التونسيين".
وشدد لودريان، في اتصال مع نظيره التونسي عثمان الجرندي، على ضرورة "الحفاظ على الهدوء وسيادة القانون بالبلاد، من أجل عودة المؤسسات الديمقراطية (البرلمان) إلى عملها الطبيعي بشكل سريع".
وتضاعف ضغط باريس على السلطات التونسية عندما اتصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بسعيّد، في 7 أغسطس/آب الجاري.
وأفاد بيان للرئاسة الفرنسية، أن الرئيس التونسي تعهد لماكرون "بتقديم خارطة طريق للمرحلة المقبلة وبأسرع وقت"، مشدداً على إعطاء "الأهمية للشرعية الشعبية".
والغريب أن الرئاسة التونسية لم تُصدر أي بيان بشأن هذا الاتصال، بل تجاهلته بشكل متعمد، رغم تأكيد ماكرون "وقوف فرنسا إلى جانب تونس وشعبها".
فرغم هذا التعهد فإن سعيد لم يعلن بعد عن خارطة طريق لحل الأزمة التونسية، ولم يعين رئيس حكومة كما أعلن في السابق، وعودة البرلمان للنشاط بعد تجميده مازالت محل شك، ودعوات حركة النهضة للحوار لم يستجب لها، ولا حتى اقتراحات بانتخابات مسبقة.
فالغموض سيد الموقف، والوقت يضيع من الرئيس التونسي، خاصة أن تعليق نشاط البرلمان لمدة 30 يوماً لم يبق منه الكثير، والوضع الصحي والاقتصادي "كارثي"، والدول الغربية تملك عدة أوراق ضغط ضد سعيد، لذلك فهامش المناورة لدى سعيد محدود، مقارنة بنظام عبدالفتاح السيسي في مصر، رغم الدعم المعلن للثلاثي الخليجي (الإمارات والسعودية والبحرين).
ألمانيا والاتحاد الأوروبي يدعوان لاحترام الدستور
لم يختلف الموقف الألماني عن الموقف الأمريكي والفرنسي، حيث دعت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الألمانية ماريا أديبهر، إلى "إعادة البلاد لحالة النظام القانوني الدستوري".
إلا أن برلين على غرار واشنطن، لم تر أن ما حدث في تونس "انقلاب"، ما يعني رغبة غربية في منح الرئيس سعيد الفرصة للعودة إلى الوضع الدستوري دون إراقة للدماء.
وموقف الاتحاد الأوروبي جاء متسقاً مع الموقفين الفرنسي والألماني، إذ حثّ "جميع الأطراف في تونس إلى احترام الدستور ومؤسساته وسيادة القانون".
ودعا الاتحاد الأوروبي جميع الأطراف إلى "التزام الهدوء، وتجنب اللجوء إلى العنف، حفاظاً على استقرار البلاد".
فالمواقف الأمريكية والأوروبية جاءت متسقة مع رفض خطوة الرئيس التونسي واعتبارها غير دستورية، لكنها تفادت وصفها بالانقلاب، ودعت بالمقابل إلى الإسراع في تعيين رئيس حكومة وعودة البرلمان إلى النشاط.
والضغوط الأمريكية والأوروبية على تونس مؤثرة جداً، إذ إن أكثر من 60% من التجارة الخارجية التونسية تتم مع دول الاتحاد الأوروبي فقط.
وبحسب موقع الاتحاد الأوروبي، فإن تونس تعتبر "المستفيد الرئيسي من البرنامج الإطاري الذي يدعم التقدم المحرز في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان".
وأوضح الاتحاد الأوروبي أنه "إذا اعتبرنا المنح (أكثر من 1.2 مليار يورو) والمساعدة الماكرومالية (800 مليون يورو) والاعتمادات (بما فيها اعتمادات البنك الأوروبي للاستثمار بقيمة 1.5 مليار يورو) ستبلغ قيمة الدعم الممنوح لتونس بين 2011 و2016 ما يناهز 3.5 مليار يورو.
كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تقدم دعماً مالياً وعسكرياً ليس بسيطاً، ويمكن الإشارة فقط أنه بفضل ضمانات القروض التي تمنحها لها واشنطن، تمكنت تونس من الحصول على قروض بنكية من الأسواق الدولية بفوائد مخفضة.
فمن شأن تخفيض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية دعمهما المالي لتونس تعميق أزمتها الاقتصادية، لذلك فليس أمام "انقلاب" قيس سعيد "أفق للنجاح"، إلا إذا أراد قيادة البلاد إلى الهاوية.
وهذا ما قصده الرئيس الجزائري عن رفضه لأي ضغوط خارجية على تونس، لأن من شأن ذلك تأزيم الوضع السياسي والاقتصادي فيها بشكل أخطر، وسينعكس ذلك سلباً على بلاده، من خلال زيادة أعباء إضافية على الجزائر ومؤسساتها.
الاتحاد الإفريقي قد يتدخل
لم يصنف الاتحاد الإفريقي ما جرى -حتى الآن- في تونس على أنه انقلاب، كما لم يعلق عضوية تونس لديه كما فعل مع مالي، إلا أنه دعا إلى "الاحترام الصارم" للدستور التونسي.
فرئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي، قال إنه يتابع عن كثب الأحداث الجارية في تونس، خلال اتصاله بالجرندي، بعد يومين من قرارات قيس سعيد.
وشدد فكي على ضرورة "الحفاظ على السلام، ونبذ كل أشكال العنف، وتعزيز الحوار السياسي لحل القضايا في تونس".
وموقف الاتحاد الإفريقي يشكل ضغطاً إضافياً على الرئيس التونسي، وإحراجاً له على المستوى الشخصي والدبلوماسي، خاصة إذ صعّد الموقف إلى تجميع مقعد تونس في الاتحاد.
بينما لا يريد الرئيس الجزائري أن يتدخل فكي في الملف التونسي، كما انزعج من قبل من تدخل المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس) في مالي.
الرؤية الجزائرية للحل
فالرئيس تبون لديه قناعة بما سمّاه "العبقرية التونسية" لحل الأزمة، لذلك لا يريد تدخلاً خارجياً من شأنه تعميقها، ومع ذلك يقترح تقديم المساعدة للتونسيين.
وسبق للجزائر أن توسطت لحل الأزمة التونسية التي بدأت بعد اغتيال النائب محمد البراهمي، في 25 يوليو/تموز في 2013، حيث استقبلت زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، وزعيم حزب نداء تونسي الباجي قايد السبسي، بشكل منفصل، قبل أن يلتقيا بباريس في 2014، ومهد ذلك إلى تحالف بين الغريمين.
ومن غير المستبعد أن يحاول الرئيس تبون تقريب وجهات النظر بين سعيّد والغنوشي، بما يساعد على عقد لقاء تاريخي بين الرجلين، يفضي إلى توافق حول المرحلة المقبلة.
وبرأي تبون، فإن جوهر الأزمة في تونس يتعلق بطبيعة النظام الحالي الذي لا يتناسب مع دول العالم الثالث.
وتتبنى تونس نظاماً شبه برلماني، إذ إن أغلب الصلاحيات التنفيذية بيد رئيس الوزراء، الذي يمنحه البرلمان الثقة، بينما تقتصر صلاحيات الرئيس على تحديد السياسة الخارجية والدفاعية.
ولم يُخفِ قيس سعيد رغبته في العودة إلى دستور 1959، الذي تبنى نظاماً رئاسياً مطلقاً، فيما دافع الغنوشي طيلة المرحلة التأسيسية (2011 -2014) عن النظام البرلماني، لكنه يبدي حالياً استعداداً لتقديم تنازلات، ما يعطي فرصة لفتح حوار مباشر بين الطرفين، قد يفضي إلى قيام جمهورية ثالثة، بعد تعديل الدستور وإجراء انتخابات مسبقة.