هل يكون مصير الحكومة الأفغانية الحالية مماثلاً لحال الحكم الشيوعي للبلاد الذي كان مدعوماً من الاتحاد السوفييتي والذي سقط بعد انسحاب القوات السوفييتية الغازية للبلاد بنحو ثلاثة أعوام، أم يكون حال الحكومة الحالية أسوأ حتى من الشيوعيين؟!
منذ بدء إعلان الولايات المتحدة عزمها الانسحاب من أفغانستان، والمراقبون والمسؤولون الغربيون يقارنون بقصد أو بدون قصد حال الحكومة الأفغانية الحالية بالحكم الشيوعي السابق بعد الانسحاب السوفييتي، وكانت الأغلبية تميل إلى اعتبار أن وضع الحكومة الأفغانية الحالية أفضل من وضع الشيوعيين بعد الانسحاب السوفييتي، وأن كابول لن تسقط بعد عامين في يد طالبان كما حدث مع المجاهدين الأفغان.
ولكن توالي سقوط المدن الأفغانية وخاصة عواصم الأقاليم التي بلغت خمساً بسرعة تجعل من الصعب متابعة تطورات الوضع الأفغاني بالنسبة للمهتمين من كثرة تلاحق انتصارات طالبان، بات القلق بشأن مصير الحكومة الأفغانية الحالية جدياً، فهل تكرر هذه الحكومة ما حدث للشيوعيين أم يكون حالها أسوأ أم أفضل؟
تجدر الإشارة إلى أن الانسحاب السوفييتي من أفغانستان قد اكتمل في فبراير/شباط 1989، بينما سقط نظام محمد نجيب الله الشيوعي في ربيع 1992.
مقارنة بين وضع الحكومة الأفغانية الحالية وبين الحكم الشيوعي عشية الانسحاب السوفييتي
وما زالت الحكومة الأفغانية الحالية تسيطر على مساحة كبيرة من البلاد أكبر في الأغلب من تلك التي كان تسيطر عليها الحكومة الشيوعية عند الانسحاب السوفييتي، ومع ذلك هناك أوجه تشابه لافتة بين وضع الحكومة الأفغانية الحالية وبين الحكومة الشيوعية عشية الانسحاب السوفييتي.
منها التالي:
– على غرار ما حدث من القادة العسكريين الغربيين، عارض القادة العسكريون والاستخباراتيون السوفييت قرار الانسحاب الذي اتخذته ميخائيل غورباتشوف سكرتير الحزب الشيوعي وزعيم البلاد في ذلك الوقت، وحاولوا تأخيره، ولكن الرجل مضى في قراره.
– على غرار الحكومة الأفغانية، لم يصدق الرئيس الشيوعي للبلاد محمد نجيب الله في ذلك الوقت حتى آخر لحظة أن السوفييت سوف ينسحبون، وظل يحاول الاستفادة منهم لمحاربة المجاهدين الأفغان، دون أن يؤهل قواته للاستقلال عنهم، ولكن في النهاية انسحب السوفييت.
– على غرار طالبان قبل الانسحاب السوفييتي سيطر المجاهدون على مساحات واسعة من الريف الأفغاني، وبدأوا يسيطرون على المدن، وبالأخص عواصم الأقاليم بعد الانسحاب.
– استمر دعم الاتحاد السوفييتي للحكومة الشيوعية لفترة بعد انسحابه، وظل هذا الدعم يلعب الدور الأساسي في حماية النظام، ومع استمرار توالي أزمات روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي توقف الدعم؛ مما ساعد على انهيار النظام الشيوعي في أفغانستان.
بعض الاختلافات بين الوضع الحالي والوضع عشية الانسحاب السوفييتي
– خلال عملية الانسحاب السوفييتي لم يلتزم المجاهدون الأفغان بالاتفاق بضرورة وقف الهجمات على القوات السوفييتية، بل واصل بعضهم شن الهجمات عليها أثناء انسحابها، وعلى العكس من ذلك فإن طالبان التزمت حتى الآن بعدم مهاجمة القوات الأجنبية حتى عندما أخَّر الأمريكيون انسحابهم.
– كان الحكم الشيوعي في أفغانستان يحظى بدعم الاتحاد السوفييتي بشكل أساسي فقط، وهو قوة عظمى كانت قد شاخت وفي نهاية عمرها وستنهار بالفعل بعد فترة قليلة من الانسحاب من أفغانستان وعلى العكس فإن الحكومة الأفغانية تحظى بدعم كبير من الولايات المتحدة التي هي أقوى دولة في العالم وفي ذروة قوتها وازدهارها الاقتصادي، كما تحظى بدعم دول غربية غنية ومتقدمة مثل ألمانيا وبريطانيا.
– في المقابل كان المجاهدون الأفغان، يحظون بدعم غربي وعربي واسع النطاق نكاية في الاتحاد السوفييتي، بينما طالبان تعتمد على نفسها بشكل كبير، وحتى لو صدقت الاتهامات لباكستان بدعمها فإنه يظل دعماً محدوداً بالنظر إلى أنه سري إلى حد كبير ويأتي من دولة فقيرة وليست غنية، وهي دولة حريصة على علاقتها مع الولايات المتحدة التي كانت تحارب طالبان.
طالبان أضعف من المجاهدين الأفغان
يعني ذلك أن توازن الدعم الخارجي لصالح الحكومة الأفغانية ضد طالبان مقارنة بالحال عشية الانسحاب السوفييتي؛ حيث كانا الطرفان يتلقيان دعماً خارجياً.
ولكن قد يعني ذلك أن انسحاب القوات الأجنبية ووقف الدعم الخارجي قد يؤدي إلى اختلال كبير في موازين القوى لصالح طالبان في مواجهة الحكومة الأفغانية التي تعتمد بشكل أساسي على الدعم الخارجي.
ويجب ملاحظة أنه كان هناك ميزة لصالح المجاهدين مقارنة بطالبان هي أن المجاهدين كانوا يمثلون طيفاً واسعاً للشعب الأفغاني يشمل الإسلاميين والمحافظين وزعماء القبائل، والفلاحين والتجار وأصحاب رؤوس الأموال الذين خشوا من الحكم الشيوعي، وكان معظم قوميات البلاد ممثلة في فصائل المجاهدين، وهذا الطيف تحول جزء كبير منه ليصبح حالياً جزءاً من الحكومة الأفغانية الحالية.
في المقابل طالبان تمثل تياراً أفغانياً واحداً يعبر عن الفئة الأكثر تشدداً من الناحية الدينية ويحظى بالأساس بدعم القطاعات الأكثر محافظة من السكان.
ولكن هذا التنوع للمجاهدين تحول لعيب بعد الانسحاب السوفييتي، لأن فصائل المجاهدين المتعددة تصارعت على الحكم وخاصة على من يدخل كابول، خاصة بعد أن حاول الأمريكيون الإعلاء من شأن حليفهم الطاجيكي أحمد شاه مسعود، وهو الأمر الذي أخر هزيمة الشيوعيين.
على العكس من ذلك فإن طالبان تبدو موحدة وتخضع لقيادة تراتبية ودرجة من الشورى، وهي لم تشهد أية انقسامات خطيرة في ذروة هزائمها أمام الأفغان.
والحكومة الحالية قد تكون في موقف أضعف من الشيوعيين
توازن القوى على الورق بين طالبان وقوات الحكومة الأفغانية يبدو في صالح الأخيرة بشكل كبير، وطالبان على الورق أضعف من المجاهدين عشية الانسحاب السوفييتي.
ولكن سرعة هزائم قوات الحكومة الأفغانية الحالية حتى قبل إتمام الانسحاب الأمريكي تبدو مثيرة للقلق ومؤشراً على أن صمود هذه الحكومة قد يكون أقل من التوقعات السابقة، بل يكون أقل من الحكومة الشيوعية التي استمرت عامين في كابول بعد الانسحاب السوفييتي.
ويساعد على ذلك أن هناك نقاط قوة لدى الحكومة الشيوعية أكثر من الحكومة الحالية.
أبرزها أن الحكم الشيوعي رغم أنه كان غريباً عن الطبيعة الأفغانية ومقسماً لفصائل وأحزاب ويعاني خلافات تاريخية إلا أنه يظل على الأقل يتوفر له الحد الأدنى من التجانس الفكري مقارنة بالطيف الحالي الواسع للحكم الذي يضم خليطاً من المجاهدين السابقين وأمراء الحرب المتورطين في الفساد، وتكنوقراط وزعماء قبليين وإسلاميين سابقين، وليبراليين مفترضين لا يعرف هل هم ليبراليون حقاً أم ليبراليون طمعاً في الدعم الغربي.
فكل ألوان الطيف الممثلة في الحكومة الأفغانية الحالية لا يجمعهم شيء سوى العداء لطالبان والرغبة في الاستفادة من الدعم الغربي.
كما أن الشيوعيين بطبيعتهم تاريخياً مثل الإسلاميين لديهم أيدولوجيا صلبة تمثل دافعاً قوياً لهم للقتال، ومثلت هذه الأيديولوجيا سبباً لتماسك نسبي لفترة للحكومة الأفغانية، بينما تفتقد الحكومة الأفغانية مثل هذه الأيديولوجيا.
على المستوى العسكري، فإن الأساليب والأسلحة السوفييتية الأكثر قدماً نسبياً من نظيراتها الغربية، قد تكون مناسبة لجيش دولة متخلفة كأفغانستان مقارنة بالأسلحة الغربية التي يستخدمها الجيش الأفغاني حالياً ويظهر هذا في معاناة القوات الجوية الأفغانية مع طائرات بلاك هوك المروحية الأمريكية جراء صعوبة صيانتها وعدم كفاءتها في جبال أفغانستان الشاهقة مقارنة بالمروحيات الروسية التي كان يستخدمها الجيش الأفغاني من قبل مثل مروحيات ميل مي 24 التي كان الفنيون الأفغان يجيدون التعامل معها.
وبصفة عامة قد يواجه الجيش الأفغاني كارثة محققة إذا توقف الدعم الفني الغربي لأسلحته لأن جيشاً بدائياً مثله لن يستطيع صيانة الأسلحة الغربية المعقدة على عكس الأسلحة الروسية التي تستطيع حتى جماعات مثل طالبان صيانتها.
أزمة سلاح الجو الأفغاني
في بلد جبلي التضاريس ومعروف بتمرد قواه المحلية ضد الحكومات المركزية، لا سيما المدعومة من قوى أجنبية، يمثل الطيران الحربي أهمية بالغة للحكم المركزي.
وأحد الفوارق الكبيرة بين حال الحكومة الشيوعية الموالية للسوفييت وحال الحكومة الحالية الموالية للغرب هو وضع سلاح الجو.
كان السوفييت ينظرون إلى أفغانستان تحت الحكم الشيوعي كدولة مهمة ليس فقط في مواجهة المعارضة المحلية، بل أيضاً في مواجهة حلفاء الغرب في المنطقة كباكستان وإيران، ولذا قدموا للقوات الجوية الأفغانية دعماً كبيراً.
وكانت القوات الجوية الأفغانية في أقوى حالاتها في الثمانينيات وأوائل التسعينيات؛ مما أثار بعض القلق من جانب الدول المجاورة. كان لدى القوات الجوية ما لا يقل عن 7000 فرد بالإضافة إلى 5000 مستشار أجنبي في ذروتها.
وكان لدى القوات الجوية الأفغانية ما لا يقل عن 240 طائرة مقاتلة ثابتة الجناحين (مقاتلات، قاذفات مقاتلة، قاذفات خفيفة)، و150 طائرة هليكوبتر، وربما 40 أو أكثر من طائرات أنتونوف المخصصة للنقل من طرازات مختلفة.
تدمرت أغلب هذه الطائرات خلال حروب أفغانستان الطويلة.
والآن بعد سنوات طويلة من قيام الحكم الموالي للغرب في أفغانستان، ما زالت عملية بناء القوات الجوية الأفغانية متعسرة وتتم ببطء، ويعود ذلك إلى مشكلات عدة أهمها الحاجة لعملية طويلة معقدة لتدريب الطيارين، ولكن أيضاً هناك مشكلة تعقد المعدات الغربية، والخيارات السياسية الأمريكية التي باتت تستبعد الأسلحة الروسية الأبسط والأرخص.
وقبل الانسحاب الغربي من أفغانستان، كان الطيران لا سيما الأمريكي هو الأداة الرئيسية في مواجهة طالبان، واستخدمت واشنطن طائرات متنوعة لتحجيم وضرب الحركة الإسلامية، ولكن أبرزها الطائرات المسيرة وقاذفات بي 52 الثقيلة والتي لا تمتلك أي دولة في العالم مثيلاً لها سوى روسيا.
ورغم وعود الولايات المتحدة باستمرار الدعم الجوي للحكومة الأفغانية ضد طالبان، فقد يتراجع هذا الدعم بعد الانسحاب.
وبالتالي فستنتقل هذه المهمة بأكملها تقريباً لسلاح الجو الأفغاني الضعيف.
ويترك الأمريكيون أفغانستان وسلاحها الجوي خالياً من أي طائرات نفاثة ويعتمد إما على الطائرات المروحية الهليكوبتر أو على الطائرات ثابتة الأجنحة المزودة بمراوح في مقدمتها، وهي طائرات أرخص وأبسط من الطائرات النفاثة.
وهما نوعان من الطائرات أكثر فالعية ودقة في تنفيذ الهجمات في الحروب منخفضة الكثافة مثل الحرب الدائرة في أفغانستان، ولكنهما أيضاً أكثر عرضة للإسقاط من جانب طالبان، كما أن الحركة حتى لو تستطيع إسقاط الطائرات، فإنها تستهدف الطيارين والمطارات نفسها.
أما المشكلة الكبرى كما سبق الإشارة فهي في حال غياب الدعم الفني الغربي لهذه الطائرات فإنه من المشكوك فيه قدرة الفنيين الأفغان على صيانتها، ووفقاً للاتفاقات الأمريكية مع طالبان يجب أن تسحب واشنطن فنييها، أما في حال الاعتماد على فنيين أجانب بدعم مالي أمريكي فلقد يكونون هم أنفسهم عرضة لهجمات طالبان.
الحكومة الأفغانية على خطى الشيوعيين
يبدو الأمريكيين والحكومة الحالية الأفغانية أمام نفس ورطة الحكومة الشيوعية أو أسوأ.
قد تكون طالبان أضعف من المجاهدين، ولكنها أكثر وحدة وتماسكاً وتشدداً وتصلباً، وأقل تأثراً بالمشكلات العشائرية والقبلية، وأقل ميلاً للاستجابة لإغراءات الأموال والمساعدات وحتى السلام.
وقد تكون الحكومة الأفغانية الحالية ممثلة لطيف اجتماعي أوسع من الشيوعيين ولديها إمكانيات أكبر في بعض النواحي ولكنها في المقابل أشد تفتتاً وأكثر اعتماداً على الدعم الخارجي، وتفتقد قيادة قوية، حيث إن الرئيس أشرف غاني لا يتمتع بكاريزما ولا تاريخ سياسي كبير، ولا هو شخصية ذات تاريخ عسكري أو ديني ليحظى بالاحترام في مجتمع يقدر القوة أو الدين كالمجتمع الأفغاني.
ويكاد يغيب لدى الحكومة الأفغانية أي شكل من أشكال الأيديولوجيا التي تمثل دافعاً مهماً للقتال.
كما أن تركيبة الحكم في أفغانستان كائتلاف من قوى مفتتة صديقة للغرب، يمثل عيباً في مواجهة المشكلات، إذ تفتقد هذه الائتلافات للحزم، والقدرة على اتخاذ القرارات الصارمة، كما أن مكوناهاتها تنافس من أجل مصالحها ومصالح الأحزاب والقوميات التي تمثلها إضافة إلى أن أغلبها يركز على علاقته مع الخارج.
يميل الغرب والأمم المتحدة، إلى تشجيع تشكيل مثل هذه الائتلافات الواسعة النطاق في الدول التي يتدخل فيها سواء مثلما حدث في العراق، أو مثلما شجع المعارضة في سوريا، وهي تشكيلات يترأسها شخصيات تقوم بدور المنسق، وليست القائد.
وطبيعة المجتمعات حتى الغربية المتقدمة تحتاج إلى قادة وليس منسقين.
وهذه الائتلافات تكون ضعيفة أمام القوى الموحدة الصلبة التي تميل للحزم أو الحسم بالعنف، وهذا ما حدث للحكم الائتلافي في العراق أمام داعش والمعارضة السورية المفتتة أمام نظام الأسد.
يريد المقاتلون في أي جيش أو ميليشيات قائداً يثقون فيه وليس بالضرورة أن يحبوه، والأهم أن أي جيش أو قوة يجب أن يعلم مقاتلوه أنهم سوف يعاقبون بشدة إذا أخطأوا أو انسحبوا دون أوامر.
وهذا ما يبدو واضحاً في فرار القوات الأفغانية أمام طالبان رغم تفوقها في العدد والعتاد.
لا يعني ذلك بالضرورة أن مصير الحكومة الأفغانية هو نفس مصير الحكومة الشيوعية السابقة، ولكن سرعة هزائمها في الأقاليم تعطي مؤشرات سلبية.
الجانب الإيجابي الوحيد المحتمل في الصراع هو أن الفجوة الأيديولوجية بين طالبان والحكومة الأفغانية أقل من الفجوة الأيديولوجية بين المجاهدين والحكم الشيوعي السابق، مما قد يسمح بشكل من أشكال الاتفاق، خاصة أن طالبان إذا انتصرت ليس أمامها فرصة للحكم في ظل عزلتها الدولية.
فالحكومة الأفغانية الحالية جزء رئيسي من مكوناتها التركيبة العشائرية والمجاهدين الأفغان السابقين بمن فيهم الإسلاميون، وهي تركيية محافظة، وحتى من يعتبرون ليبراليين في الحكومة الأفغانية ليسوا علمانيين متطرفين.
وقد يكون المفارقة أن الحكومة الأفغانية الحالية تقدم نفسها للعالم ولا سيما الممولين الغربيين باعتبارها مدافعة عن القيم الليبرالية الغربية أمام تطرف أفغانستان.
ولكن الواقع أن المجال الذي يمكن أن تقبل فيه الحكومة الأفغانية أن تقدم بعض التنازلات هو مجال الحريات باعتبار أن مكوناتها محافظة بالأساس كسائر المجتمع الأفغاني، وهي ليست معنية بحقوق النساء كثيراً كما تقول بقدر ما هي معنية بمصالحها وبقائها في السلطة.
فجوهر الصراع في أفغانستان هو السلطة وليس الحريات، كما يصور الأمر في الغرب.