مثّلت القرارات الأخيرة التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد بخصوص إقالة الحكومة وتجميد نشاط مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن النواب الذين علقت بهم قضايا فساد وغيرهم، وترؤس النيابة العمومية، مثّلت كلها قمّة جبل الجليد الذي يخفي خلفه برنامجاً وأجندة أوسع من تلك القرارات. خصوصاً أن الغموض لا يزال يخيّم على الخطوة القادمة للرئيس التونسي حول الحكومة البديلة، والإجراءات التي سيتخذها خلال 30 يوماً، والتي وعد التونسيين بتغيير كبير خلالها.
ماذا سيفعل قيس سعيد لتونس خلال 30 يوماً؟
حددّ سعيّد فترة 30 يوماً لتنفيذ تدابيره وإجراءاته التي اتخذها يوم 25 يوليو/تموز مستنداً في ذلك إلى الفقرة الثالثة من الفصل الـ80 للدستور التونسي التي تنص على أنه: "..وبعد مضيّ ثلاثين يوماً على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه.. وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوماً.. ويُنهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها. ويوجه رئيس الجمهورية بياناً في ذلك إلى الشعب".
وإن حدّدت هذه الفقرة المدة الزمنية التي سيطبق فيها سعيّد قراراته إلا أنها قدمت في نفس الوقت المسوغات الدستورية التي تسمح لرئيس الجمهورية بأن يستمر في الحالة الاستثنائية التي وضع فيها الدولة ويمددها، لكن بشرط إحالتها عبر رئيس مجلس نواب الشعب على المحكمة الدستورية صاحبة الكلمة الفصل في ذلك، إلا أن المحكمة الدستورية غائبة والبرلمان تم تعليق نشاطه.
وهو ما يجعل من هذه الفترة الانتقالية مفتوحة على العديد من الفرضيات خاصة أن فترة الثلاثين يوماً غير كافية منطقياً لتنفيذ الإجراءات التي أقرها سعيّد؛ خصوصاً أن فيها قضايا فساد واستغلال نفوذ وتمويلات مشبوهة للأحزاب، بحسب تقرير محكمة المحاسبات تقدر بالعشرات وغير ممكن لهذه الفترة الزمنية المحددة بشهر أن تأتي عليها كلها، فما بالك بباقي الملفات المتعلقة بالتهرب الضريبي والفساد الإداري وغيرها من الملفات الثقيلة التي تتطلب معالجتها الكثير من الوقت؟!
وخلال اجتماعه بقادة الجيش والأمن الأسبوع الماضي، وعد سعيّد بإصدار قانون لاسترجاع الأموال المنهوبة التي تبلغ قيمتها 13.5 مليار دينار (نحو 4.8 مليارات دولار). وأردف قائلاً: "عدد الذين نهبوا أموال البلاد 460 شخصاً وفق تقرير صدر عن اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد".
ويقول سعيّد إنه يسعى إلى إجبار من تورطوا في نهب الأموال العامة بتمويل مشاريع في المناطق الفقيرة بحسب درجة تورطهم وقيمة الأموال التي نهبوها، بحيث يتم إلزام من كانت في رقبته القيمة الأكبر من الأموال المنهوبة بتعمير المناطق الأكثر فقراً وخاصة من خلال بناء مستشفيات وطرقات وبنية تحتية بقيمة الأموال التي تم الاستيلاء عليها من الدولة.
من بين القرارات الأخرى التي بدأ سعيّد بتنفيذها هي فتح تحقيقات من خلال النيابة العمومية التي قام بترؤسها ضد هيئة الحقيقة والكرامة، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وشركة الخطوط التونسية. وقد تمت إحالة المحامي وعضو حزب حركة الشعب خالد الكريشي ووزير سابق مبروك كورشيد إلى القضاء بخصوص ملفات فساد مالي، وصفقات، وتزييف وثائق، بحسب وكالة تونس إفريقيا للأنباء.
وتنفيذاً لقرارات سعيّد المتعلقة برفع الحصانة عن النواب، تم فتح تحقيقات ضد النواب: سيف الدين مخلوف وماهر زيد وراشد الخياري عن ائتلاف الكرامة، وإيقاف النائب ياسين العياري وإصدار قرار بمنع جميع النواب من السفر.
وبجمعه كلا السلطتين التنفيذيتين بين يديه وترؤسه للنيابة العمومية، حصل قيس سعيد على صلاحيات واسعة يستطيع من خلالها إثارة الملفات القضائية ومحاسبة رجال الأعمال وكبار موظفي الدولة ومحاكمة أحزاب بتهم التمويل الأجنبي والتي يترتب عليها إسقاط لقوائم نيابية موجودة في البرلمان حالياً وفرض عقوبات مالية وأحكام أخرى تصل للسجن خمس سنوات.
حكومة قيس سعيد البديلة
سياسياً، من المتوقع أن يعيّن رئيس الجمهورية رئيس حكومة ذا خلفية اقتصادية موالياً تماماً لتوجهاته، سيكون دورها تنفيذ قرارات رئيس الدولة والتسيير الإداري للمؤسسات دون أن تكون له سلطة تنفيذية حقيقية كما يرى مراقبون.
يرى المحلل السياسي، صلاح الدين الجورشي، أن رئيس الجمهورية دخل في مغامرة عندما دخل إلى منطقة الفصل الثمانين من الدستور، وسيكون من الصعب الخروج منها بدون أن تكون هنالك تداعيات سياسية على الواقع، حسب تعبيره.
وأشار الجورشي، في حديث لـ"عربي بوست"، إلى أن رئيس الحكومة المقال هشام المشيشي ليست لديه الصلاحيات لإيقاف قرارات رئيس الدولة بتجميد البرلمان ومحاسبة النواب الفاسدين وحل الحكومة، كما أن اعتماد الرئيس على المؤسسة الأمنية والعسكرية في تنفيذ قراراته من المسائل التي تثير "المخاطر والمخاوف".
وخلال الأيام المقبلة، من المتوقع أن يقوم سعيّد بإقالة العديد من الرؤساء والمديرين العامين والتنفيذيين الموجودين في مؤسسات عمومية مثقلة بملفات فساد مالي وإداري.
لكن الواضح حتى الآن أن برنامج رئيس الجمهورية خلال الثلاثين يوماً لن يكون ذا قبول لدى الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني إذا لم يقدم خارطة طريق واضحة خلالها، وهو أمر صعب التحقق ليس على مستوى ضمان خارطة الطريق المنتظرة ولكن على مستوى المدة الزمنية التي تكفي لتنفيذ قرارات سعيد ولا لطموحاته في قلب الأوضاع أو "تصحيح المسار" كما يقول.
بين الحوار والتصعيد.. مستقبل الأزمة التونسية
لم تلح لحد الآن معالم مستقبل العملية السياسية في ظل القرارات الدستورية الثقيلة التي اتخذها قيس سعيد خصوصاً أنه لم يكشف إلى حد الآن عن أجندته السياسية للفترة القادمة المحددة بشهر من تاريخ اتخاذه لهذه القرارات. وهو ما يفتح الباب على العديد من التأويلات السياسية حول ما يمكن أن يخطط له سعيّد خصوصاً أن تصرفاته وقراراته وسياساته غير متوقعة.
في هذا السياق، يرى المفكر والباحث صلاح الدين الجورشي أن مستقبل البلاد مرتبط ببقية الإجراءات التي سيتخذها رئيس الجمهورية بعد أن أغلق البرلمان وأوقف الحديث مع الأحزاب السياسية.
وأشار الجورشي في حديث مع "عربي بوست" إلى أن "سعيد سيضع حكومة جديدة لا ندري ملامحها، وتحديد هذه الحكومة وأعضائها وبرنامجها سيكون عنصراً مؤثراً في الأحداث القادمة".
وتساءل: "ثم ان تشكلت هذه الحكومة كيف ستتصرف الأطراف الأخرى معها من أحزاب ومنظمات؟ هل ستساعدها أم تعارضها أو تحاول أن تحاصرها؟ هل البرلمان سيعود لنشاطه الطبيعي بعد ثلاثين يوماً أم أن هنالك تغييرات هيكلية سيقوم بها رئيس الجمهورية لتغيير موازين القوى".
وفي هذا الإطار، فإن بيان الاتحاد العام التونسي للشغل يرى أن رئيس الدولة لم يسقط في التصنيف والانقلابات في القرارات التي أقدم عليها، ويمكن لما جاء فيه من نقاط أن يشكل نواة لإيجاد نوع من التوافق السياسي في هذه المرحلة.
يأتي ذلك في الوقت الذي تدعو فيه حركة النهضة في بيانها وتصريحات قياداتها لحوار وطني مع رئيس الجمهورية ومختلف الفرقاء السياسيين حول العديد من النقاط الخلافية التي أدت للأزمة السياسية التي تعيشها البلاد في الوقت الحالي.
وحتى اللحظة "لم يتطور الصراع السياسي للحالة العنفية"، لأن العنف بحسب الجورشي "لن يخدم حركة النهضة إذا ما قررت أن تلجأ إليه، بل سيورطها في مسار خاطئ وسيكلفها كثيراً على المستوى السياسي".
وقال المحلل السياسي: "صحيح أن حركة النهضة التقت مع العديد من الأحزاب حول رفض تجميد البرلمان، لكنها على المستوى الحركي الديناميكي لم تجد من يقف معها في هذه المعركة التي تعتبرها معركة مفصلية على المستوى الميداني".
إلا أنه على مستوى المواقف، هناك تقاطعات مع العديد من الأحزاب والشخصيات الأخرى الرافضة لقرارات الرئيس. كما أن الأحزاب التي تقاطعت معها معظمها تسعى للتغيير عبر العمل المدني السلمي.
ويرى الجورشي أن حركة النهضة "مطالبة الآن بأن تعيد النظر في العديد من الأشياء الأساسية وأن تدخل في فترة تأمل لهضم ما حصل والتخطيط للمستقبل".
وبالنسبة للحوار الوطني، فإن الدعوة التي أطلقتها النهضة للحوار غير متوفرة حالياً؛ لأن الرئيس قيس سعيد "حتى وإن قرر الحوار فإنه سيجريه بعد أن يعيد ترتيب البيت الداخلي"، على حد تعبير الجورشي.
خيارات حركة النهضة التونسية
من جهته، اعتبر الأكاديمي والباحث عبداللطيف الحناشي، أن المطلوب حالياً من الرئيس هو استكمال الشوط الثاني لما بدأه وطرح خارطة طريق للـ30 يوماً القادمة تتضمن حكومة جديدة وبرنامج عمل وخريطة طريق تحافظ على الحقوق والحريات.
وأضاف الحناشي لـ"عربي بوست"، أنه من المفترض أن تتكيف النهضة مع الوضع الحالي باستخدام الوسائل القانونية، دون أن تتدحرج نحو العنف؛ لأنه في غير مصلحتها، بحسب تعبيره. وذلك بالتوازي مع الدور الذي ستلعبه منظمات المجتمع المدني للمساعدة في إيجاد مخارج تكون نتائجه مفيدة لجميع الأطراف في الفترة القادمة.
وكانت حركة النهضة قد رفضت إجراءات الرئيس التونسي قيس سعيد وخرجت قيادات الحركة للتنديد بما حصل باعتباره "انقلاباً" على الدستور، بما أن الفصل الـ80 من الدستور الذي ارتكز عليه رئيس الجمهورية لاتخاذ قراراته لا ينص صراحة على تجميد عمل البرلمان لمدة ثلاثين يوماً مثلما فعل ذلك قيس سعيد في تأويله الدستوري لهذا الفصل.
ويقول خليل البرعومي، الناطق الإعلامي باسم حركة النهضة، لـ"عربي بوست"، إن قرارات قيس سعيد فيها خروقات دستورية ترتقي لانقلاب دستوري على المؤسسات الشرعية، مضيفاً أن "هناك اجماعاً دوليا ووطنياً من أحزاب ومنظمات وجمعيات لإدانة قرارات رئيس الجمهورية وعليه تلقي هذه الرسالة".
معرباً عن أمله "في احتكام رئيس الجمهورية إلى العقل وإخراج البلاد من أزمتها السياسية في ظل أجواء ديمقراطية"، مشيرا إلى أن "النهضة مع حل سياسي للحفاظ على المسار الديمقراطي والحقوق والحريات".
وطالبت حركة النهضة من خلال بيان يوم 27 يوليو/تموز رئيس الجمهورية بـ"التراجع عن الانقلاب على الشرعية الدستورية وإلغاء قراراته اللادستورية والذهاب لحوار وطني شامل يتناول جميع الخلافات السياسية والدستورية بالنقاش من أجل التوصل لتوافق وحل يضمن الاستقرار للبلاد".