جاء إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد عن خططه لمكافحة الفساد، ضمن الإجراءات التي نفّذها مؤخراً، ليشير إلى محاولته اكتساب شعبية عبر الملف الأكثر إثارة لغضب الرأي العام، فهل يؤدي ذلك إلى جذب مزيد من التأييد لقراراته، وهل تؤدي خططه هذه لتعافي الاقتصاد التونسي؟
قال الرئيس التونسي قيس سعيد، في تصريحات، الأربعاء 28 يوليو/تموز 2021، إن مئات التونسيين سرقوا 13.5 مليار دينار (4.8 مليار دولار) من المال العام، واقترح عليهم "صلحاً جزائياً" إذا أعادوا تلك الأموال، وقد حدد عدد هؤلاء بـ"460 شخصاً"، على حد قوله.
وشدد سعيد، خلال لقاء عقده الأربعاء مع رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، سمير ماجول، وتم بث مقطع فيديو منه، على أنه يُعد حملة ضد الفساد، لكن "لا نية لإيذاء أو إساءة معاملة" رجال الأعمال.
كشف أن لديه تقارير بأسماء 460 شخصاً سرقوا 13.5 مليار دينار (4.8 مليار دولار) من أموال الشعب التونسي.
وقدم الرئيس عرضاً بالموافقة على "تسوية جزئية" مقابل إعادة الأموال المنهوبة. وقال: "أقترح مصالحة جزائية مع رجال الأعمال المتورطين في نهب أموال الشعب والتهرب الضريبي… بدلاً من ملاحقتهم وسجنهم".
ولم يوضح الرئيس، وهو أستاذ قانون سابق تولى المنصب في 2019 في حملة ضد الفساد والنخبة السياسية الثرية، تفاصيل اقتراحه.
وهدد بقوة بأن "أي محاولة للمضاربة أو الاحتكار للمواد في هذه الظروف الصعبة ستُواجَه بتطبيق كامل وصارم للقانون".
وأضاف سعيد: "نحن دولة لا نتسول، هناك ضغوط مالية نتيجة لجملة من الاختيارات الاقتصادية، لماذا أنت تدفع الضرائب والضمان الاجتماعى والآخر لا يدفع الضرائب؟ فضلاً عن القروض التي تحصل عليها من البنوك ولم تدفعها، يجب أن تعود إلى الشعب التونسي، لأنها أمواله".
هذا التوجه جاء بعد تصاعد المعارضة لقرارته
يذكر أن الركود الذي يعاني منه الاقتصاد التونسي مع عدم قدرة الحكومات المتعاقبة على التوفيق بين المطالب المتعارضة للمقرضين الأجانب واتحاد العمال القوي أسهم في تنامي الغضب العام قبل قرارات سعيد.
يأتي قرار سعيد في وقت بدا أن أغلب أحزاب البلاد، وطيفاً واسعاً من القانونيين والحقوقيين، إضافة إلى المجلس الأعلى للقضاء، يرفضون قرارات سعيد، ويشعرون أنها ستقضي على الديمقراطية التونسية.
ورغم الخلافات التي تفصل بين أغلب القوى المشار إليها وحركة النهضة، التي يستهدفها قيس سعيد بالأساس، فإنه يبدو أن هذه القوى تشعر بأنها ستخسر من محاولات الرئيس تجميع كل السلطات في يديه.
القرارات على الأرض لا علاقة لها بمكافحة الفساد
وبينما قد يشير تصريح قيس سعيد إلى رغبة حقيقية في مكافحة الفساد، ولكن يلاحظ أن أغلب قراراته الفعلية تسير في اتجاه تجميد المؤسسات الدستورية للبلاد، وتجميع السلطات في يديه، وإبعاد أي شخص يمكن أن يعرقل هذا التوجه.
فعلى سبيل المثال، أقال سعيد 25 مسؤولاً، بينهم محمد لسعد الداهش، من مهامه مديراً عاماً للتلفزة الوطنية، علماً أنه أقاله بعد شكاوى من منع إعلاميين وشخصيات عامة من الظهور على شاشة التلفزيون الرسمي، فيما يؤكد الرجل أنه فعل ذلك بناء على أوامر قائد الجيش.
ولا يعرف علاقة هذه الإقالات بمكافحة الفساد، كما أن أغلب مناصب المقالين لا علاقة لها بمسألة الفساد، بل على العكس بعضها مناصب استُحدثت لردّ المظالم بعد الثورة، مثل رئيس الهيئة العامة لشهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية عبدالرزاق الكيلاني.
وقد يؤشر فتح سعيد لملف الفساد إلى الرغبة في الاستفادة من أكثر الملفات إثارة لغضب الناس، لتقوية موقفه، في ظل تزايُد القلق داخل النخب السياسية من انفراده بالسلطة.
ويظهر ذلك من الكشف عن تحقيق القضاء التونسي مع ثلاثة أحزاب بشبهة تلقّي تمويل من الخارج، هم حزب النهضة، وقلب تونس، وعيش تونسي، والأخير في الأصل كان جمعية تنشط في مجال الرياضة والثقافة، قبل أن تقرر دخول غمار السياسة بخطاب مناهض للأحزاب التقليدية.
ومن المعروف أن حزب النهضة وقلب تونس متحالفان، وهما أشد الأحزاب معارضة لتحركات قيس.
ورغم أن قلب تونس اتهم بالفساد، حيث سجن رئيسه نبيل القروي بسبب شبهات فساد لم تثبت، فإن عدم إدراج الحزب الدستوري الحر الذي تترأسه النائبة عبير موسى في التحقيق يشير إلى انحياز واضح وتركيز على الأحزاب الأكثر معارضة لقيس، وليس تلك التي عليها شبهات قوية.
فمن المعروف أن هناك اتهامات قوية لعبير موسى، التي تجاهر بعدائها للثورة التونسية، بتلقي تمويل من الإمارات لمناصب حزب النهضة العداء، ولا تخفي وسائل الإعلام الإماراتية والسعودية، وأحياناً المصرية، دعمَها لعبير موسى، وتغطية كل تحركاتها بشكل واسع، لا يتلاءم مع الوزن النسبي لحزبها.
هل تؤدي تحركات قيس سعيد إلى إنقاذ الاقتصاد التونسي؟
من اللافت أن قيس سعيد لم يحدد مصادر التقارير حول حجم الأموال المنهوبة، ومن أين جاءت الأسماء، ولماذا لم يحقق القضاء التونسي فيها من قبل، كما أنه لم يهدد بمصادرة الأموال، بل وعد بالتصالح مع المتهمين.
وهذا نهج عقلاني ومرن إلى حد كبير، ولكن في ظل الأزمة المالية الخانقة التي يعاني منها الاقتصاد التونسي، أصلاً، فإن هذا الأمر قد يخيف رجال الأعمال الذين قد يسحبون أموالهم من السوق، أو يحاولون تهريبها للخارج، خاصة بعد الإجراءات التي اتخذها سعيد، فليس هناك ضمانات بأن تكون المحاسبة شفافة.
وقد يؤدي ذلك إلى مزيد من الاختناق في الاقتصاد التونسي المختنق أصلاً، فالتعافي الاقتصادي يتحقق من خلال ضخ رجال الأعمال والتجار أموالهم في الاسواق، ولكن حالة الخوف التي تخلقها تصرفات قيس سعيد تؤدي إلى العكس.
ورغم أنه لا يمكن إنكار أن الفساد له تأثير سلبي على الاقتصاد التونسي أدى إلى الوضع الحالي، فإن الحديث عن الفساد في تونس، كما في أغلب الدول النامية، تختلط فيه الحقائق بالكلام الشعبوي.
كما أن هناك عوامل لا تقل أهمية في تدهور الاقتصاد التونسي، من بينها الأزمات السياسية وكورونا وتراجع السياحة تحديداً، ولكن أحد العوامل التي لا يتم التركيز عليها هي كثرة الإضرابات الفئوية، التي لم تؤدِ فقط إلى تخويف رأس المال الأجنبي من القدوم إلى البلاد، ولكن أيضاً أدت إلى إضعاف أداء مؤسسات البلاد، سواء خاصة أو عامة.
وما يتم تجاهله أيضاً دور النقابات، ولاسيما الاتحاد التونسي العام للشغل والقوى اليسارية في تشجيع هذه الإضرابات، التي تسبب إيذاءً شديداً لاقتصاد البلاد.
وقد يكون ذلك أحد أسباب التحالف بين حزب قلب تونس الذي يمثل جزءاً من رجال الأعمال في البلاد والنهضة، رغم التناقض بينهما، إذ يميل الطرفان إلى التحفظ على فكرة كثرة الاضطرابات، ويرون أن لها دوراً لا يمكن تجاهله في تدهور اقتصاد البلاد المتداعي أصلاً.