جاء الإعلان عن تكليف نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة اللبنانية ليفتح الباب لبصيص أمل ضئيل لحلحلة الأزمة اللبنانية في وقت غرقت فيه البلاد في الظلام والفوضى حرفياً، فلماذا بدا أن هناك توافقاً دولياً ومحلياً على ميقاتي ومن سيحاول عرقلة مسيرته؟
كان رئيس الوزراء السابق، حسان دياب، قد استقال من المنصب في أغسطس/آب 2020، وبقي منذ ذلك الوقت يترأس حكومة تصريف أعمال في وقت يشهد فيه لبنان تدهوراً متواصلاً للأوضاع المعيشية والاقتصادية.
وكلّف رئيس الجمهورية اللبنانية، العماد ميشال عون، السياسي ورجل الأعمال الثري نجيب ميقاتي، بتشكيل حكومة جديدة عقب دعم واستشارات نيابية، بعد عدم تمكن سعد الحريري وقبله مصطفى أديب من ذلك.
وأسفرت نتائج الاستشارات النيابية الملزمة عن تسمية 72 نائباً لنجيب ميقاتي لتولي مهمة تشكيل حكومة "المهمات الصعبة" وحكومة "الإنقاذ".
ويواجه رئيس الحكومة اللبنانية المكلف نجيب ميقاتي مهمة صعبة في التوصل إلى تأليف حكومة تدعمها القوى الغربية التي تشترط حكومة اختصاصيين يوكل إليها مهمة الانكباب على الإصلاحات الاقتصادية العاجلة، ويتوقف تشكيل الحكومة اللبنانية على موقف العهد (التيار الوطني الحر وحزب الله) الذي عرقل تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري للشروط نفسها التي يتبناها ميقاتي.
ميقاتي وعقب إعلان تكليفه، قال إن مهمة حكومته الأساسية هي تنفيذ المبادرة الفرنسية، وأكّد أنه "بالتعاون مع الرئيس عون نستطيع تشكيل الحكومة التي من مهامها الأولية تنفيذ المبادرة الفرنسية والتي هي لمصلحة لبنان ولمصلحة الاقتصاد اللبناني".
وزارة الخارجية الفرنسية من جهتها، أصدرت بياناً أشارت فيه إلى أن "فرنسا أحيطت علماً بتسمية مجلس النواب اللبناني للرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل حكومة"، مؤكدة أن "الحاجة الملحة الآن هي تشكيل حكومة كقوة قادرة على تنفيذ الإصلاحات الضرورية للنهوض بالبلد"، داعية "جميع القادة اللبنانيين إلى التحرك في هذا الاتجاه في أسرع ما يمكن، وتشارك مسؤوليتهم".
وحصل ميقاتي على دعم الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي، شرط أن يلتزم ببرنامج التعاون الفوري مع صندوق النقد الدولي ويؤلف حكومة تضمن إطلاق برنامج الإصلاحات وأن تكون مستعدة تماماً للإشراف على انتخابات نيابية في موعدها.
وتضغط الحكومات الغربية على الساسة اللبنانيين لتشكيل حكومة يمكنها بدء إصلاح مؤسسات الدولة التي تعاني من الفساد وقد هددت بفرض عقوبات وقالت إن الدعم المالي لن يتدفق قبل بدء الإصلاحات.
ووضعت الجهات الدولية منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي برنامج عمل الحكومة الجديدة وتشترط المؤسسات الدولية والدول الغربية من خلاله تطبيق إصلاحات قبل السماح بإعطاء أي قروض للبنان.
وبالنسبة إلى الأوروبيين، فإنّ الاتفاق مع صندوق النقد يبعث برسالة ثقة إلى بقية المُقرضين- دولاً ومؤسسات- لإعادة ضخّ العملة الصعبة في البلاد، وتفعيل المشاريع الإنمائية، تحديداً تلك التي اتُّفق عليها في مؤتمر باريس 4 (يُعرف باسم "سيدر" وقد انعقد عام 2018 في فرنسا).
من هو نجيب ميقاتي؟
يعتبر ميقاتي أغنى رجل في لبنان وواحد من أغنى أغنياء الشرق الأوسط، حيث تبلغ ثروته 2.7 مليار دولار وفقاً لمجلة فوربس.
ونجيب ميقاتي قيادي سني لديه كتلة صغيرة في البرلمان تضم ثلاثة نواب هو أحدهم، علماً بأن الدستور اللبناني يشترط أن يكون رئيس الحكومة من الطائفة السنية.
في عام 2019 اتهم المدعي العام اللبناني، ميقاتي، السياسي المسلم السني، الذي ينحدر من طرابلس، واحدة من أفقر مدن شمال لبنان، بتهمة الإثراء غير المشروع- وهي تهمة ينفيها ميقاتي.
لماذا قبل الفرقاء اللبنانيون بتكليف ميقاتي؟
وعلى العكس من الكثير من الساسة اللبنانيين، لا ينحدر ميقاتي من الأسر المعمرة والمتنفذة بالسياسة اللبنانية، الأمر الذي يجعل منه مرشحاً توافقياً بامتياز.
وهو رئيس حكومة سابق لمرتين، وتتسم انحيازاته السياسية بالهدوء والالتباس؛ وهذا قد يكون سبباً من أسباب تكليفه بتشكيل الحكومة.
إذ جاء اختيار ميقاتي بدفع فرنسي كبير من خلف الستار وبتأييد أمريكي وبتشجيع روسي، وأعلنت مصر دعمها لميقاتي، وكذلك فعل الأردن الذي شارك في اتصالات لتأمين الدعم الدولي له، إضافة إلى عدم ممانعة سعودية، وتأييد من عدد من الكتل الكبيرة أبرزها الغريمان تيار المستقبل وحزب الله، فيما أعلن حزب القوات اللبنانية الأقرب للسعودية حالياً أنه لن يسمي منافساً له، وهذا موقف متقدّم لناحية عدم تسمية شخصية أخرى، كما كان حدث سابقاً مع تسمية الحزب لنواف سلام.
وباستثناء التيار الوطني الحر التابع لعون الذي قال إنه لن يشارك في تشكيل الحكومة، يبدو هناك تأييد لميقاتي أو عدم ممانعة، من قبل القوى الخارجية والداخلية على تنافر توجهاتها.
سر اكتساب ترشيحه لهذا الزخم
أول الأسباب أن الوضع في لبنان قد وصل إلى أكثر من الانهيار، فوفقاً للبنك الدولي فإن الأزمة في لبنان هي من أسوأ الأزمات في تاريخ العالم الحديث منذ 150 عاماً، الأخطر أنها مرشحة لمزيد من الانهيار مع وصول شح الوقود والغذاء وانقطاع الكهرباء لمستويات صادمة.
وبالتالي فإن الدول المهتمة بلبنان والقوى الداخلية على مصالحها المتبانية تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ولوحت فرنسا التي تقود الحراك الدولي حول لبنان بممارسة ضغوط على القوى السياسية لحل الأزمة السياسة، بما في ذلك قبول بميقاتي، وفي هذا الإطار عمد وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لو دريان إلى عقد اجتماع طارئ فور وصوله إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الأمم المتحدة مع نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن، خُصّص في جزء أساسي منه للتطورات اللبنانية، حيث تمّ الاتفاق على إرسال رسالة شفهية باسم كل واحد منهما عبر سفيرتيهما في لبنان، إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، قبل ساعات من دفع الحريري للاعتذار عن عدم تشكيل الحكومة.
الهدف الفعلي من الرسالتين كان للتحذير من مغبة عدم ولادة حكومة لبنانية. وليس تفصيلاً أيضاً أن تتحضّر الدول الأوروبية الأساسية للبدء في تطبيق سياسة العقوبات بحق شخصيات لبنانية، حسب صحيفة الجمهورية اللبنانية.
ولكن هناك أسباب أخرى لهذا التوافق النسبي ترتبط بشخص ميقاتي.
ميقاتي تقليدياً هو بديل للحريري في حال عدم رضاء حزب الله عن الأخير، فالرجل الذي يتسم بمواقف سياسية عادة باهتة ولكنه قريب تقليدياً وواقعياً من سوريا قديماً ومن حزب الله حالياً، ولكنه لا يقدم نفسه كجزء من المحور الإيراني-السوري، ويراعي في مواقفه وتصرفاته المزاج السني المعادي لهما، كما يراعي أيضاً محاولة عدم إغضاب السعودية، واسترضائها أحياناً، وحتى في منافسته مع زعامة آل الحريري، فهو لا يصعد ولا يتحداها بقوة، ويعلم صعوبة انتزاع مكانة رفيق الحريري من قلوب سنة لبنان.
كما أنه على عكس أغلب الحلفاء والمقربين لحزب الله وسوريا وإيران، فإنه رجل أعمال شديد الثراء، مما يجعله على اتصال بالنخب المالية اللبنانية والعربية والدولية.
إذاً ميقاتي نقطة تقاطع غريبة بين العالم الشيعي الذي تقوده إيران وقبلها سوريا الأسد، وبين المحيط العربي السني الذي تقوده السعودية والعالم الرأسمالي الغربي.
كل ذلك جعل الرجل مرشحاً دائماً للحكومة إذا أراد حزب الله وإيران أو سوريا معاقبة الحريري.
ولكن هذه المرة جاء ميقاتي بمباركة وتأييد واضح من سعد الحريري، الذي يبدو أنه بالإضافة للضغط الخارجي يئس من إمكانية تشكيل الحكومة لأسباب عديدة، وللمفارقة ليس منها حزب الله الذي كان يميل إلى أن يشكل سعد الحكومة، ولكن الممانعة ضد الحريري تظهر بالأساس من قبل التيار العوني برئاسة جبران باسيل، صهر الرئيس ميشال عون، والسعودية بقيادة الأمير محمد بن سلمان الذي يبدو أن غضبه على الحريري لا يهدأ.
يبدو تأييد سعد الحريري لميقاتي أمراً غريباً، ولكن الحريري منذ فترة يتبنى خطاباً ترفعياً تُرجم إلى سلوك واقعي في كثير من الأحيان، بهدف تيسير الأمور في لبنان؛ وتضمن ذلك إبداء زهد في السلطة وتقديم تنازلات لخصومه، مثلما فعل مع جبران باسيل في قانون الانتخابات الأخير، الذي أدى إلى فقدان كتلة المستقبل بوضعها كأكبر قوة برلمانية، لصالح كتلة التيار الوطني الحر "التيار العوني".
يبدو الحريري معتمداً على طبيعة المزاج السني الكاره في جزء منه لميقاتي باعتباره أقرب لحزب الله، وبالتالي فحتى لو نجح ميقاتي في حلحلة الأزمة فإن ذلك لن يعني حلوله محل تيار المستقبل في زعامة السنة، بل سيتذكر السنة للحريري دعم ميقاتي وإن فشل الأخير، فإن ذلك قد يحرقه ويرفع أسهم الحريري.
أما حزب الله فيبدو ميقاتي بالنسبة له خياراً جيداً، فهو صديق وحليف حتى لو لم يكن مقرباً، وكونه يأتي بتأييد من الحريري يرفع عن الحزب الحرج سنياً، وبتأييد دولي يعني ذلك أن الغرب قد يساهم في دفع الأموال لإنقاذ لبنان، والضغط على الدول العربية لتفعل الأمر نفسه.
كما أن حزب الله يبدو قلقاً من حجم الأزمة الاقتصادية والمالية والحياتية التي تسحق المواطنين اللبنانين وتدفع بهم إلى الفوضى في الشارع. هو يدرك أنّ الناس بحاجة الى "تنفيسة" تسمح بترتيب بعض الأمور على عجل، خصوصاً أنّ الشارع بات مفتوحاً بالكامل للانتفاض، إضافة إلى تطورات مرتقبة سترفع من لهيب الشارع، مثل ذكرى انفجار تفجير مرفاً بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020.
ومعظم القوى السياسية الأخرى تراوحت مواقفها إزاء ميقاتي من التأييد إلى عدم الممانعة، مع ملاحظة أن الشيطان في لبنان يكمن دوماً في التفاصيل، وبالأخص تفاصيل تشكيل الحكومة.
الوريث أكبر مشكلة أمام تشكيل ميقاتي للحكومة
تبقى المشكلة في موقف التيار الوطني الحر "التيار العوني" برئاسة صهر الرئيس عون جبران باسيل الذي يطمح في أن يكون وريثه في قصر الرئاسة.
فموافقة "حزب الله" على خيار ميقاتي ولّدت اعتراضاً لدى رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل.
فالأخير كان يراهن على تسمية رئيس للحكومة يدور بالكامل في فلكه السياسي، ليذهبا سوياً إلى حكومة يُطلق عليها حكومة الأخصائيين المحايدين، فيما هي فعلياً حكومة يحظى فيها باسيل ومعه "حزب الله" ضمناً بقرارها، حسب تقرير صحيفة الجمهورية اللبنانية.
فهي الحكومة التي ستشرف على الاستحقاقات المنتظرة مثل الانتخابات النيابية، والأهم الاستحقاق الرئاسي الذي قد لا يعقد بسبب الخلافات السياسية، وفي هذه الحالة هذه الحكومة قد تحكم بلا رئيس جمهورية في حال انتهاء ولاية عون دون بديل.
كما أن هذه الحكومة سيصبح تأثيرها أساسياً في تحديد اسم الرئيس الذي يطمح أن يكون باسيل هو هذا الاسم.
وتفيد تقارير بأن باسيل يريد السيطرة على الحكومة المقبلة، ويتمسك بشرطين لتشكيلها: الثلث المعطّل وحقيبة الداخلية، والثلث المعطّل يقصد به ثلث الحقائب الوزارية زائد واحد، وهو ما يمكن أن يمتلكه من تعطيل الحكومة، ووزارة الداخلية التي تمسك قانوناً بالمفاصل الأمنية في البلاد، وتشرف على الاستحقاق النيابي، والأهم حين سيصبح وزير الداخلية في مرحلة الفراغ الرئاسي الحاكم الفعلي للبلد، وحيث تخضع له كافة المؤسسات الأمنية والعسكرية العاملة داخل الحدود.
في المقابل، لا يبدو ميقاتي مستعداً لتلبية أي من هذين الشرطين، رغم المرونة التي يوحي بها، إلّا أنّ ترؤسه لحكومة العام 2011 أظهرت صعوبة التحكّم بقراراته، حسب صحيفة الجمهورية.
لذلك لا يبدو مشوار تشكيل الحكومة ميسراً، والمرونة الظاهرة اليوم قد تكون تهدف إلى تسجيل نقاط إعلامية والتزوّد بالأعذار والذرائع لمرحلة الاشتباك والطلاق.
وقال رئيس كتلة "لبنان القوي" جبران باسيل في تصريح له بعد لقائه رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي في إطار الاستشارات النيابية غير الملزمة في مجلس النواب، إن قرار التيار الوطني هو عدم المشاركة في الحكومة وعدم التدخل بعملية التأليف.
وأضاف: "ميقاتي تكلف من دون موافقتنا وتسميتنا وهذا دليل إضافي على أننا لسنا الأكثرية في المجلس النيابي ولا في الحكومة، أما وقد تكلف ميقاتي فنحن اليوم في الموقع المساعد ولن نكون في موقع النكد السياسي، وأؤكد أن واجبنا تقديم كل الدعم للتكليف والإنجاز، وأبدينا رغبتنا وقرارنا بعدم المشاركة في الحكومة وعدم تدخلنا بعملية التأليف إطلاقاً".
وقال ميقاتي، الثلاثاء 27 يوليو/تموز 2021، إنه ناقش مع رئيس البلاد ميشال عون، ملف تأليف الحكومة الجديدة، "وكانت الآراء متطابقة بنسبة كبيرة، وإن شاء الله تتشكل قريباً"، منوهاً إلى وجود "إجماع" من كل نواب البرلمان على ضرورة الإسراع في عملية تشكيل الحكومة.
وسبق أن قال ميقاتي، 65 عاماً "إنه لا يملك عصا سحرية"، وأضاف أنه يعوّل على تضافر الجهود للنجاح في مهمة "إخماد الحريق المتمدد في لبنان"، حسب وصفه.
كل هذه الصورة جعلت الطريق معبّدة أمام تكليف ميقاتي، الذي سمع التزاماً فرنسياً واضحاً بتحريك المساعدات فور تشكيل حكومة تحظى بالمواصفات الفرنسية والدولية المعروفة، وبعد بدء التعاون مع صندوق النقد الدولي حول الإصلاحات المطلوبة. لكن التكليف شيء والتأليف شيء آخر.
وذكر موقع النشرة اللبنانية أن لديه معلومات أن الضمانات الدولية لميقاتي تتضمن ضخ 4 مليارات دولار بالسوق بسرعة قياسية.
ويرى مراقبون أن تسهيل حصول ميقاتي على أغلبية كافية لتكليفه وتخطيه مرحلة التسمية، أسوة بما فعل الحريري، لا يضمن مسبقاً قدرته على تشكيل حكومة بأسرع وقت، وخصوصاً أنه يريد الانطلاق في حواره مع الرئيس عون من النقطة التي وصل إليها الرئيس سعد الحريري، بينما لا توجد مؤشرات على نية عون إدخال تعديلات جوهرية على موقفه من طريقة تشكيل الحكومة ومن برنامج عملها، ما يعني أنه لا توجد ضمانة بتوافر عناصر تشكيل الحكومة.