أعلنت إثيوبيا قبل أيام انتهاء عملية الملء الثاني لسد النهضة، فهل يعني ذلك أن مصر فقدت ورقة الخيار العسكري بالفعل؟ وهل أصبحت المفاوضات اللانهائية هي المخرج لحفظ ماء الوجه فقط لدولتي المصب؟
وكان الملء الثاني لسد النهضة يمثل مفترق طرق في الأزمة المحتدمة بين إثيوبيا من جهة ومصر والسودان من جهة أخرى، على أساس أن اكتمال الملء الثاني يعني تخزين نحو 13.5 مليار متر مكعب إضافية في البحيرة خلف السد العملاق، إضافة إلى نحو 5 مليارات أخرى تم حجزها بعد الملء الأول في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وهو ما يعني أن تدمير السد من خلال ضربة جوية ربما يعني غرق السودان وأجزاء من مصر أيضاً، بحسب آراء الخبراء.
وعلى هذا الأساس، وجّه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تهديدات متكررة لإثيوبيا منذ آخر مارس/آذار الماضي من أن أي مساس بمياه النيل – شريان الحياة الأساسي لمصر – سينتج عنه حالة غير مسبوقة من عدم الاستقرار في المنطقة بأكملها.
لكن إثيوبيا لم تكترث للتهديدات وأبلغت القاهرة والخرطوم رسمياً في 5 يوليو/تموز الجاري بأن الملء الثاني للسد قد بدأ بالفعل، وتقدمت مصر والسودان بشكوى رسمية – للمرة الثانية – إلى مجلس الأمن، الذي عقد جلسة عاصفة يوم الخميس 8 يوليو/تموز، كشفت مجرياتها أن غالبية دول العالم، وخصوصاً الدول الكبرى، لا تريد التورط في الأزمة من الأساس.
ماذا حققت إثيوبيا من الملء الثاني؟
من المهم هنا أن نتوقف عند وجهة النظر التي تبنتها إثيوبيا على لسان رئيس وزرائها آبي أحمد وغيره من المسؤولين في حكومته من وراء التمسك بتنفيذ الملء الثاني للسد، قبل التوصل لاتفاق قانوني ملزم تطالب به القاهرة والخرطوم بشأن تعبئة وتشغيل السد.
وركزت وجهة النظر الإثيوبية على أن خطط تشييد وتشغيل السد لا يمكن تأجيلها لأن الهدف هو تشغيل التوربينات والبدء في توليد الكهرباء، وهو الهدف الرئيسي من وراء السد الذي بلغت تكلفته نحو 5 مليارات دولار وتم تشييد 80% منه بالفعل. وبالتالي كرر آبي أحمد في أكثر من مناسبة أن الملء الثاني يعني تشغيل اثنين من التوربينات وتوليد الكهرباء هذا العام بالفعل.
لكن، وبصورة مفاجئة، أعلنت هيئة الإذاعة الإثيوبية الحكومية، في 19 يوليو/تموز، الانتهاء من المرحلة الثانية من ملء سد النهضة، الذي تبنيه على النيل الأزرق، الرافد الرئيسي لنهر النيل.
أي أن عملية الملء الثاني للسد استغرقت فقط نحو أسبوعين، وقدم آبي أحمد تطميناته للمصريين والسودانيين – بتلك المناسبة – مؤكداً أن عملية الملء الثاني تمت بهدوء ودون أي تأثير على دولتي المصب، لكنه لم يتطرق إلى السؤال الأهم وهو: هل بدأ عمل التوربينات وتوليد الكهرباء بالفعل كما وعد من قبل؟
وكانت صحيفة The Independent البريطانية قد تناولت "النزاع الخطير بشأن السد الإثيوبي على النيل"، في تقرير لها رصد ما وصلت إليه الأمور، في ظل تنفيذ إثيوبيا لسياسة فرض الأمر الواقع وكيف أن "مصر قد تخسر النزاع وتفقد مستقبلها".
وانطلق تقرير الصحيفة من أنه لا يبدو أن "المفاوضات الدائمة"، كما يسميها الكثيرون في مصر والسودان، مع إثيوبيا على وشك الانتهاء. ومع استمرار ارتفاع منسوب المياه ببطء خلف سد النهضة الإثيوبي الضخم على النيل الأزرق، يتزايد الإحباط بين المسؤولين في عاصمتَي دولتَي المصب.
موقع Al Monitor الأمريكي تناول الموقف بعد إعلان إثيوبيا بشأن الملء الثاني في تقرير بعنوان "مصر تدرس خطواتها التالية بعد أن أكملت إثيوبيا الملء الثاني"، رصد المعلومات المتاحة بشأن الملء الثاني وما يعنيه ذلك لخيارات مصر في المرحلة المقبلة.
ماذا حدث خلال أسبوعي الملء الثاني؟
صلاح حليمة، نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الإفريقية، قال لموقع Al Monitor إن التعبئة الثانية لم تكتمل، مثلما زعمت إثيوبيا، ما يعني أن أديس أبابا لا تزال تروج لمزاعم كاذبة بشأن عملية ملء وتشغيل سد النهضة وفي التعامل مع دولتي المصب.
وأشار حليمة إلى أن إثيوبيا فشلت في ملء 13.5 مليار متر مكعب مثلما زعمت؛ وأنها ملأت أقل من ذلك بكثير بسبب ارتفاع الممر الأوسط الذي وصل إلى 574 متراً وليس 595 متراً كما كان مخططاً. وأضاف حليمة أن إثيوبيا سعت لاستكمال التعبئة الثانية لتشغيل اثنين من التوربينات لتوليد الكهرباء.
ومن جانبه، قال وزير الري المصري الأسبق، محمد نصر الدين علام، للموقع الأمريكي إن مصر تتابع عن كثب جميع التطورات المتعلقة بأزمة سد النهضة، وإنها على دراية بكافة الخطوات المتخذة في هذا الصدد. وقال إن إثيوبيا فشلت في تحقيق هدفها في توليد الكهرباء من الملء الثاني، موضحاً أنها فشلت سابقاً خلال الملء الأول العام الماضي بسبب مشكلات فنية ومشكلات أخرى في بناء السد.
ماذا يعني ذلك لخيارات مصر إذن؟
علام يرى أن عدم تمكن إثيوبيا من إكمال عملية الملء الثاني كما كان مخططا لها يعني أن أديس أبابا لم تخزن ما يكفي من المياه لحماية السد من أي تحرك عسكري محتمل قد تقدم عليه دولتي المصب في حال قررتا ذلك بالفعل.
وفي حديثه عن الخيارات المتاحة لمصر، أشار علام إلى أن القاهرة تنتظر موقف المجتمع الدولي من أزمة السد، مضيفاً أن مجلس الأمن الدولي لا بد وأن يتبنى [مشروع القرار] المقدم من تونس والذي ينص على ضرورة استئناف مفاوضات سد النهضة بشرطين: الأول تحديد جدول زمني لاستئناف المفاوضات، والثاني تدخل خبراء ومراقبين دوليين.
"وإذا فشل المجتمع الدولي في استئناف المفاوضات بناءً على هذين الشرطين واستمرت إثيوبيا في العمل من جانب واحد، فستتحرك القاهرة للدفاع عن حقها في الحياة باستخدام القوة العسكرية".
وفي هذا السياق، تحدث وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يوم 20 يوليو/تموز، عبر الهاتف مع رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي (AU)، عن ضرورة التوصل إلى حل لأزمة سد النهضة، وقالت وزارة الخارجية الأمريكية في بيان: "بلينكن أكد أهمية دور الاتحاد الإفريقي في الحد من الصراع والتوسط في نزاع سد النهضة الإثيوبي".
لكن ربما يكون الموقف الروسي من أزمة السد هو الأكثر خذلاناً للقاهرة والخرطوم، في ظل الإعلان عن اتفاقيات عسكرية بين موسكو وأديس أبابا الأسبوع الماضي، وبيان الخارجية الروسية اليوم الأحد 25 يوليو/تموز، بضرورة التزام الدول الثلاث بإعلان المبادئ الموقع بينها عام 2015 بشأن السد.
فإعلان المبادئ الذي تم توقيعه في الخرطوم قبل أكثر من ست سنوات من جانب السيسي والرئيس السوداني المخلوع عمر البشير وديسالين رئيس وزراء إثيوبيا السابق، هو الورقة التي تتمسك بها إثيوبيا وترى أنها تعطيها الحق في بناء ما تريده من سدود على أراضيها دون الرجوع لدولتي المصب.
ومن جانبه، شدد حليمة على أن القاهرة والخرطوم ترفضان رفضاً قاطعاً الإجراءات الأحادية التي تتخذها أديس أبابا وجهودها لفرض الأمر الواقع، حيث تتعارض أفعالها مع كافة القوانين والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، التي منها اتفاقية إعلان المبادئ. وأشار إلى أن مخاوف مصر والسودان تتركز على العواقب الخطيرة لسد النهضة على دول المصب، فضلاً عن عدم الاستغلال العادل والمنصف للمياه.
هل انتهى الخيار العسكري؟
وقال حليمة للموقع الأمريكي: "الخيار الحالي المطروح على الطاولة الآن هو ضرورة استئناف المفاوضات في إطار قرار لمجلس الأمن [إذا تبنى واحداً]. والجولة الجديدة من المفاوضات ستعقد وفق نهج مختلف، لكنه يظل تحت رعاية الاتحاد الإفريقي مع إعطاء دور أكبر للأطراف الدولية والخبراء والمراقبين من أجل التوصل إلى اتفاق ملزم قانوناً يخدم مصالح جميع الأطراف".
وأضاف حليمة: "على إثيوبيا أن تستجيب للمطالبات الإقليمية والدولية بتغيير آلية التفاوض، وهذا الخيار تدعمه القاهرة والخرطوم بقوة. ولكن إذا استمرت إثيوبيا في تبني مواقف متشددة، فستلجأ القاهرة إلى الخيار العسكري للدفاع عن حقها في الحياة لأن المياه مسألة حياة أو موت بالنسبة لمصر".
ومن جانبه، قال هاني رسلان، رئيس وحدة دراسات حوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، لموقع Al Monitor إن مصر والسودان تعوّلان على نتائج تدخل المجتمع الدولي في حل أزمة سد النهضة، مؤكداً أنه تهديد وجودي لمصر. وأشار إلى أنه في حال فشل مجلس الأمن في حل الأزمة بالطرق السلمية وتحقيق مصالح الأطراف الثلاثة والحفاظ على الأمن المائي لمصر، فستلجأ القاهرة للدفاع عن أمنها المائي حتى لو كان ذلك باستخدام القوة العسكرية.