"أفضل مصرفي في العالم"، هكذا كان يوصف رياض سلامة حاكم مصرف لبنان "البنك المركزي" لسنوات أو على الأقل يوصف بأنه واحد من أفضل المصرفيين في العالم، قبل أن يتحول اليوم لأحد أبرز المُلامين عن الأزمة المالية اللبنانية.
فلعقودٍ من الزمن، كان رياض سلامة، رئيس مصرف لبنان المركزي، يُشاد به في الداخل والخارج باعتباره ساحراً مالياً حافظ على استمرار الاقتصاد واستقرار العملة رغم الحروب والاغتيالات والاضطرابات السياسية المتكرِّرة التي مرت بها البلاد، لكن الأمر لم يعد كذلك.
إذ يشتبه الرأي العام اللبناني بأن سلامة على غرار مسؤولين كبار آخرين في البلاد، نقل بشكل سرّيّ مبالغ مالية طائلة إلى الخارج بالتزامن مع الحراك الشعبي في تشرين الأول/أكتوبر 2019، رغم القيود الصارمة التي كانت تفرضها المصارف، حسبما ورد في تقرير لموقع "فرانس 24".
ويعاني لبنان لبلد الواقع على مفترق طرقٍ في الشرق الأوسط من انهيارٍ تاريخي: بنوكه متعثِّرةٌ إلى حدٍّ كبير، والبطالة آخذة في الارتفاع، وعملته انهارت، ويلقي الكثير من اللبنانيين اللوم على رياض سلامة في معاناتهم من أجل شراء الطعام، وهم يتدافعون للحصول على الأدوية، وينتظرون في طوابير طويلة لتزويد سياراتهم بالوقود.
والآن، يُتَّهَم سلامة بارتكاب خطيئة لا تُغتَفَر، ألا وهي إثراء نفسه ودائرته الداخلية على مدار سنواتٍ من الفساد، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
تحقيق بشأن ثروة رياض سلامة في فرنسا وسويسرا
وفتح قضاة مكافحة الفساد في باريس تحقيقاً هذا الشهر، يوليو/تموز، في مزاعم جنائية تفيد بأن رياض سلامة، أحد رؤساء المصارف المركزية الأطول خدمةً في العالم، جمع ثروةً طائلةً في أوروبا عن طريق إساءة استخدام سلطته. ويأتي التحقيق القضائي في أعقاب تحقيقٍ أوَّلي أجراه مكتب المُدَّعي المالي الوطني الفرنسي.
وطلب المُدَّعون العامون في سويسرا من السلطات اللبنانية المساعدة في تحقيقٍ منفصل في الاختلال المُشتَبَه به وغسيل الأموال المرتبطين بالسيد رياض سلامة ومعاونيه.
أثارت هذه المزاعم ضجةً كبيرةً في بلدٍ يعاني من أزمةٍ قال عنها البنك الدولي مؤخَّراً إنها يمكن أن تحتل المرتبة الأولى من بين أسوأ ثلاث أزماتٍ على مستوى العالم في الـ150 عاماً الماضية، وهو انكماشٌ اقتصادي "وحشي" وهائل الحجم "يرتبط عادةً بالصراعات أو الحروب".
ورغم الانهيار، لم يواجه سلامة، مهندس السياسة النقدية في لبنان منذ العام 1993، أيَّ دعواتٍ جادة لإطاحته، رغم أنه أشرف على إستراتيجيةٍ تتطلَّب المزيد من الاقتراض لدفع أموال الدائنين الحاليين، الأمر الذي وصفه بعض النقَّاد بأن "أكبر سلسلة بونزي" في العالم " سلسلة بونزي هي نظام بيع هرمي، وشكلا من أشكال الاحتيال من قبل فرسان تعمل على شكل كرة الثلج، والتي تتمثل في وعد بالربح كبير، ويمول هذا الربح من تدفق رأس مال نفسها لتستثمر تدريجيا حتى انفجار فقاعة المضاربة".
ما يحمي سلامة من التدقيق في الداخل هو دوره المركزي في شبكة المصالح التجارية والسياسية الفاسدة في لبنان، حسب New York Times.
تقول الصحيفة الأمريكية "ترسم أكثر من 20 مقابلة مع مسؤولين لبنانيين وغربيين، ومسؤولين نقديين واقتصاديين، وزملاء سابقين لسلامة، صورةً لهذا المهندس النقدي اللامع والماكر الذي عمل في الخفاء لبناء إمبراطورية داخل المصرف المركزي واستخدمها ليجعل نفسه ضرورياً للأثرياء واللاعبين الأقوياء عبر الطيف السياسي اللبناني".
قال جميل السيد، عضو مجلس النواب والرئيس السابق لجهاز الأمن العام اللبناني، وهو الهيئة التي تشرف على جزء من الأمن الداخلي وإصدار بطاقات الهوية وجوازات السفر: "لم يعد رئيس المصرف المركزي. إنه محاسبٌ لهذه المافيا. يحميهم، وهم يحمون أنفسهم من خلال حمايتهم له".
وخلال العام الماضي، أفادت تقارير إعلامية بأن رئيس مجلس النواب نبيه بري "شيعي" الذي يوصف بأنه عراب النظام اللبناني وزعيم تيار المستقبل رئيس الوزراء السابق سعد الحريري يتصديان لتوجّه هدفه إقالة حاكم مصرف لبنان
ولم تشكِّل التحقيقات في فرنسا وسويسرا تهديداتٍ جديدة لمكانة رياض سلامة.
إذ يحقِّق القضاة الفرنسيون في شكوى قدَّمتها مجموعة شيربا الفرنسية لمكافحة الفساد، والتي تتهم سلامة وشقيقه، رجاء سلامة، وأقارب آخرين، وماريان الحويك، التي تترأس المكتب التنفيذي للمصرف المركزي، باختلاس أموال بطريقة غير مشروعة من لبنان إلى البنوك الفرنسية، ثم غسل الملايين في فرنسا من خلال شراء عقاراتٍ راقية، بما في ذلك عقارات فاخرة بالقرب من برج إيفل. ويتمتَّع القضاة بصلاحياتٍ واسعة تشمل السعي للتعاون من جانب السلطات اللبنانية وتجميد الأصول إذا كان مصدر تمويلها يبدو غير قانوني.
ويُفترض أن تسمح هذه التحقيقات الفرنسية المقامة بالتوازي مع تحقيقات أخرى في سويسرا فُتحت قبل أشهر، بتوضيح مصدر الثورة العقارية الضخمة التي يملكها سلامة الذي أصبح شخصية مكروهة في الشارع اللبناني في وقت يغرق البلد في أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه.
والمدعيان في التحقيق هما منظمة "شيربا" التي تنشط في مكافحة الجرائم المالية الكبرى و"جمعية ضحايا الممارسات الاحتيالية والجرمية في لبنان" التي أنشأها مودعون خسروا أموالهم في الأزمة التي تشهدها البلاد منذ 2019.
قال المحامي الخاص بسلامة في فرنسا، بيير أوليفييه سور، إن سلامة عارض مجمل الادِّعاءات.
شركة وساطة يترأسها شقيقه تتعامل مع سندات المصرف المركزي اللبناني
وبشكلٍ منفصل، يفحص مكتب المدَّعي العام السويسري شبكةً من الحسابات المصرفية من سويسرا إلى بنما، ويقول إن سلامة وشقيقه ربما استخدما هذه الشبكة لإيواء "الاختلاس المُحتَمَل" لأموال المصرف المركزي و"القيام بغسل الأموال".
ويقول المُدَّعون السويسريون، الذي يعتمدون في تحقيقهم على شكوى قدَّمتها منظمة "المحاسبة الآن"، وهي منظمةٌ تأسَّسَت عام 2020 من قِبَلِ نشطاءٍ حقوقيين لبنانيين وسويسريين، إن الوثائق تُظهِر أن سلامة استأجَرَ شركة Forry Associates، وهي شركة وساطة مملوكة لشقيقه، للتعامل مع مبيعات المصرف المركزي من السندات الحكومية، وذلك من عام 2002 إلى 2015.
وقام المصرف المركزي بتحويل ما لا يقل عن 330 مليون دولار من العمولات إلى الحساب السويسري للشركة، فيما قال سلامة إن العقد كان قانونياً.
عقارات بملايين الدولارات في أوروبا
وقال ممثِّلو الادِّعاء السويسريون إن مبالغ كبيرة في حساب شركة Forry Associates نُقِلَت إلى حساباتٍ سويسرية يملكها سلامة، واستُخدِمَ جزءٌ من الأموال في نهاية المطاف لشراء عقاراتٍ تُقدَّر بملايين الدولارات في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وسويسرا.
وبخلاف العقارات، يبحث المدَّعون السويسريون في مزاعم بأن رجاء سلامة حوَّلَ أكثر من 200 مليون دولار من حسابٍ فوري شركة Forry السويسري إلى حساباته في البنوك اللبنانية ذات الروابط السياسية القوية. وكان من بينهم بنك ميد، المملوك لعائلة رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني السابق الذي عيَّن سلامة رئيساً للمصرف المركزي، وابنه سعد الحريري هو أبرز سياسي سني في البلاد.
ولم تُوجَّه الاتهامات لسلامة ولا لأخيه أو معاونيه من قِبَلِ النيابة العامة السويسرية أو الفرنسية. ومن غير الواضح كم من الوقت ستستغرق التحقيقات.
تُتداوَل الأحاديث عن اختلاسات سلامة منذ سنوات. وفي البرقيات الدبلوماسية التي سرَّبها موقع ويكيليكس، وصف السفير الأمريكي السابق في لبنان، جيفري فيلتمان (المبعوث الخاص الآن للقرن الإفريقي)، سلامة عام 2007 بأنه "يُشاع عنه سلوكٌ فاسد، وميل للسرية غير القانونية في المصرف المركزي".
ثروتي 23 مليون دولار، جمعتها من راتبي شركة تمويل عالمية
ورفض سلامة، 70 عاماً، إجراء مقابلة لإعداد هذا المقال، ولم يرد على أسئلةٍ مكتوبة، ونفى ارتكاب أيِّ مخالفات. وقال مراراً إنه جمع ثروةً شخصية بلغت 23 مليون دولار خلال 20 عاماً من العمل كمصرفي في شركة ميريل لينش للخدمات التمويلية العالمية، قبل أن يُعيَّن لرئاسة المصرف المركزي.
وقال رياض سلامة لشبكة CNBC العام الماضي، قبل إعلان التحقيقات، إنه لن يستقيل بسبب مشكلات لبنان المالية، لأن لديه "إستراتيجية للخروج من هذه الأزمة". ودافَعَ عن سجله قائلاً إنه أبقى لبنان "واقفاً على قدميه فيما كان يعيش حروباً واغتيالاتٍ وحروب أهلية وما إلى ذلك".
وقال: "من غير العدل حقاً أن نحكم على لبنان وكأنه السويد".
لكن بعض اللبنانيين يتساءلون كيف يمكن لسلامة أن يظل في منصب رئاسة المصرف المركزي. قال البنك الدولي إن التضخُّم ارتفع إلى 80%، والمستثمرين الأجانب غادروا، وربما يعيش أكثر من نصف السكان البالغ عددهم 6.7 مليون نسمة تحت خط الفقر.
وقال هنري شاول، المستشار السابق لوزير المالية اللبناني الذي استقال العام الماضي: "إنه مسؤولٌ عن السياسة النقدية وقد فشل فشلاً ذريعاً. بأيِّ قاعدةٍ للقانون والحوكمة لا يزال موجوداً؟".
دافع رياض سلامة عن نفسه عبر وسائل الإعلام معتبراً أنه "كبش فداء" الأزمة الاقتصادية.
بحسب صحيفة "لوموند"، يوضح حاكم مصرف لبنان أن "أصوله الشخصية كانت تبلغ 23 مليون دولار" حين تسلّم منصبه عام 1993، وأن "زيادة ثروته مذاك ناجمة عن استثمارات لا تتعارض مع الالتزامات المرتبطة بمهامه"، وهو ما ينفيه خبراء قانون لبنانيون.