عادت قضية القاعدة الروسية بالسودان لتثار مجدداً، بعد الزيارة التي قادت وزير الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي إلى موسكو، في 11 يوليو/تموز الجاري، والتي جاءت بعد أيام من جلسة مجلس الأمن بشأن سد النهضة، والتي جاء الموقف الروسي فيها مخيباً لآمال مصر والسودان.
وجاءت زيارة المهدي لموسكو بالتزامن مع إعلان إثيوبيا عن توقيع اتفاقية تعاون عسكري مع روسيا، لرفع كفاءة الجيش في ختام منتدى شراكة بين البلدين.
وأعلنت الوزيرة السودانية أن بلادها تدرس اتفاقية إنشاء المركز اللوجستي الروسي على ساحل البحر الأحمر، وذلك بعد أن عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مجلس الدوما مشروع قانون للمصادقة على اتفاقية بين روسيا والسودان بشأن إنشاء مركز لوجستي للبحرية الروسية.
كما قال وزير الدفاع السوداني ياسين إبراهيم خلال زيارته لموسكو مؤخراً إن الظروف المحيطة بعملية التشريع في السودان تغيرت؛ حيث بات يجب أن يتم التشريع عبر مجلسي الوزراء والسيادة، مؤكداً أن المصادقة عليها بصورة نهائية تتطلب كثيراً من الترتيبات.
وقالت وزيرة الخارجية السودانية إن موضوع المركز "جزء من اتفاق وقعته الحكومة السابقة، ولكن لم تتم المصادقة عليه بعد من قبل المجلس التشريعي (البرلمان)".
وهذه الحجة لجأت إليها الخرطوم للتملص من الضغوط الروسية بشأن البدء في تنفيذ الاتفاق، في الوقت الذي أثار فيه إنشاء قاعدة روسية على البحر الأحمر غضب دول أخرى على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بحسب مراقبين.
فتشكيل المجلس التشريعي السوداني ما زال في "رحم الغيب"، حيث تأخر تشكيله رغم مرور أشهر على توقيع وثيقة دستورية لحكم البلاد بين المجلس العسكري المنحل، وقوى إعلان الحرية والتغيير، في 17 أغسطس/آب 2019، عقب الإطاحة بالرئيس عمر البشير، في 11 أبريل/نيسان من نفس العام.
تردد سوداني وإصرار روسي
تصريحات المهدي جاءت بعد شهرين من الضجة التي أثارتها تصريحات مسؤولين سودانيين، لم يُكشف عن هويتهم، أعلنت تجميد الاتفاقية العسكرية مع روسيا بما فيها القاعدة العسكرية، بينما نفت موسكو أن تكون الاتفاقية جُمدت.
وفي مايو/أيار الماضي، نقلت وسائل إعلام إقليمية ودولية أن الخرطوم جمدت اتفاقياتها مع روسيا بما فيها إنشاء قاعدة عسكرية شمالي مدينة بورتسودان (شرق)
وفي 2 يونيو/حزيران، أعلن رئيس أركان الجيش السوداني، محمد عثمان الحسين، أن بلاده بصدد مراجعة الاتفاقية العسكرية مع روسيا بما فيها القاعدة العسكرية على البحر الأحمر.
وفي اليوم ذاته، أعلن نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، أن السلطات السودانية يجب أن توضح بالضبط ما تريد مراجعته في الاتفاق الخاص بإنشاء قاعدة للبحرية الروسية. وقال في تصريحات لوكالة "إنترفاكس": "أعتقد أننا بحاجة إلى توضيح كيفية مواصلة تنفيذ تلك الاتفاقات. يجب على ما يبدو إجراء اتصالات إضافية". كما أشار إلى أن هناك قنوات مناسبة للتواصل، عبر السفارات والملحقين العسكريين، قائلاً: "إذا كان هناك حاجة إلى توضيح شيء ما، فنحن مستعدون دائماً لذلك".
وفي 6 يونيو/حزيران 2021، نقلت صحيفة الشرق الأوسط السعودية عن مسؤول رفيع في الحكومة السودانية أن بلاده لم تلغ أو تنسحب من الاتفاق مع روسيا في إقامة قاعدة عسكرية بالقرب من الميناء الرئيسي بورتسودان في البحر الأحمر، في تعليق للسودان على حديث نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، أن السودان لم ينسحب من اتفاق مع روسيا بشأن إقامة القاعدة.
وذكر المسؤول السوداني، الذي فضل حجب اسمه، أن القرار صدر عن مجلس السيادة الانتقالي بوقف التفاهمات والنقاش مع الجانب الروسي في هذه المسألة لعدم وفائه بما تم الاتفاق عليه من شروط بين البلدين، ورفض المسؤول الكشف عن المزيد من التفاصيل لحساسية المعلومات.
وأضاف المسؤول أنه متى ما أوفت روسيا بالشروط سنعود للنقاش مرة أخرى حول الاتفاقيات العسكرية بشأن القاعدة، مشيراً إلى أن حديث رئيس هيئة أركان الجيش السوداني، محمد عثمان الحسين، في مقابلة تلفزيونية الأسبوع الماضي، بالنظر في مراجعة محتملة للاتفاقية مع روسيا، يتسق تماماً مع الموقف الرسمي للحكومة. وأوضح المسؤول أن "ما تم هو تجميد النقاش وليس الانسحاب من الاتفاقية كما يذهب البعض".
ويرى مقدم متقاعد في البحرية السودانية، عمر أرباب، أن هنالك حلقة مفقودة في الأمر، وأنه قبل الانتهاء من الإجراءات لاعتماد الاتفاقية من الجانب السوداني وفقاً للإجراءات المتعارف عليها بالمصادقة في أجهزة الدولة الرسمية أصبح الوجود الروسي في البحر الأحمر أمراً واقعاً.
وأشار إلى أنه في فبراير/شباط الماضي بدأت روسيا فعلياً في الوجود في قاعدة فلامنجو بوصول قوات عسكرية، ورسو بعض القطع الحربية للجيش الروسي للقاعدة خلال الأشهر الماضية.
وأضاف أن هناك قفزاً في المراحل التي تتطلب أن تكون هناك لجان فنية مشتركة من الجانبين تعمل على بروتوكول الاتفاق، ومن ثم إجازة الاتفاق في البرلمان، والمصادقة عليه في مجلس السيادة. ولا يستبعد أرباب أن يكون هناك تواصل تم بين البلدين في هذا الجانب، إذ لا يمكن قانونياً إنشاء قاعدة روسية قبل استكمال المراحل المعروفة في الاتفاقيات الدولية.
واللافت أنه في ظل محاولات السودان للتملص من الاتفاقية، فإن موسكو سرّعت خطواتها لتحويل الوثيقة إلى اتفاق مُلزم، إذ أمر الرئيس فلاديمير بوتين، أمس، بإحالة الاتفاقية إلى مجلس الدوما (النواب) للمصادقة عليها، في ثاني خطوات الإقرار النهائي للاتفاقية بعد مصادقة الحكومة عليها الأسبوع الماضي.
ورغم الموقف السوداني، أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن الاتفاق يبقى ملزماً للطرفين، لأن "هذا الاتفاق تم توقيعه في الخرطوم يوم 23 يوليو/تموز 2019 من قبل مسؤول مكلف للمجلس العسكري الانتقالي في السودان، أي بعد تغيير النظام السياسي في السودان"، وفقاً لتعليق الناطقة باسم الوزارة ماريا زاخاروفا التي أضافت أن "الوثيقة لم تجرِ حتى الآن المصادقة عليها من قبل الطرف السوداني، لأنه لا يوجد حالياً في البلاد جهاز سلطة تشريعية يتمتع بمثل هذه الصلاحيات".
وأبلغ مصدر روسي صحيفة الشرق الأوسط أنه بعد إحالة الوثيقة للمصادقة في مجلسي الدوما والشيوخ فإن موسكو "تسعى إلى منحها قوة قانونية كاملة، من أجل تعزيز قدراتها على التفاوض لاحقاً مع الجانب السوداني لإدخال بعض التعديلات عليها بما يلبي مصالح الطرفين".
السودان ينفي إلغاء القاعدة
في 9 يونيو/حزيران 2021، نفى رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، عبدالفتاح البرهان، إقدام الخرطوم على إلغاء فكرة إنشاء قاعدة بحرية روسية في البحر الأحمر.
وقال البرهان، حينها، إنه يجري التفاهم على كيفية صياغة هذا الاتفاق (حول القاعدة الروسية)، في كيفية اعتماده بواسطة الجهات المسؤولة، كالمجلس التشريعي والسلطات الأخرى المشاركة في الفترة الانتقالية.
وفي 1 يوليو/تموز 2021، عين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نائب وزير الدفاع، نيكولاي بانكوف، ممثلاً له في مجلس الدوما ومجلس الفيدرالية الروسيين للتصديق على الاتفاقية مع السودان، بشأن إنشاء مركز دعم بحري على البحر الأحمر.
وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمر صحفي مع نظيرته السودانية مريم المهدي، في موسكو، في 12 يوليو/تموز أن السودان يعدّ لعملية التصديق على اتفاقية لإنشاء مركز لوجيستي روسي على ساحل البلد العربي بالبحر الأحمر، قد يضم 300 موظف عسكري ومدني بحدّ أقصى، وكذلك 4 سفن، بما في ذلك التي تعمل بالطاقة النووية.
وأثار توقيت الزيارة وأيامها الثلاثة والحديث عن القاعدة الاستغراب، لأنه جاء بعد أيام قليلة من جلسة مجلس الأمن التي كان موقف روسيا فيها الأقوى ضد مصر والسودان مقارنة بباقي الدول، حيث حذر المندوب الروسي من اللجوء للتهديدات في أزمة سد النهضة، وهو ما فهم بأنه تحذير موجة للسودان ومصر ولاسيما الأخيرة، في ظل المناورات العسكرية الضخمة التي أجرتها البلدان، وتهديد الرئيس المصري من المساس بمياه النيل، وتحركات الجيش السوداني لاستعادة منطقة الفشقة المحتلة.
وأثار ذلك تساؤلات حول هل يصادق السودان على "القاعدة الروسية" مقابل مساعدة في أزمة سد النهضة أم أنه يحاول توجيه رسالة للحصول على مزيد من الدعم الأمريكي، أم أن موسكو تورط الخرطوم في الأمر التي تبدو لا تستطيع الفكاك منه في ظل اعتماد الجيش السوداني على الأسلحة الروسية.
واتجهت الخرطوم لروسيا خلال الفترة التي تم وضعها على قائمة الدول الراعية للإرهاب (1993-2019)، لتوطيد العلاقات معهما في مجالات بينها النفط والتعاون العسكري.
وتزامن تطور العلاقات مع روسيا خوض السودان حينها حرباً ضد ما كان يسمى "الجيش الشعبي لتحرير السودان" بقيادة جون قرنق، وتوقف القتال بتوقيع اتفاق سلام في 2005 انتهى بانفصال جنوب السودان في 2011.
كما تخوض القوات الحكومية قتالاً في إقليم دارفور (غرب)، منذ 2003، ضد حركات مسلحة.
أصل قصة القاعدة الروسية بالسودان
تعود قصة القاعدة العسكرية إلى زيارة الرئيس السوداني المعزول عمر البشير إلى موسكو في نوفمبر/تشرين ثاني 2017، وتوقيعه اتفاقيات تعاون عسكري مع روسيا تتعلق بالتدريب وتبادل الخبرات ودخول السفن الحربية إلى موانئ البلدين.
وحينها، أعلن البشير أنه ناقش مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووزير دفاعه سيرغي شويغو، إقامة قاعدة عسكرية روسية على ساحل البحر الأحمر، وطلب تزويد بلاده بأسلحة دفاعية.
ولدى السودان ساحل مطل على البحر الأحمر يمتد على مسافة تتجاوز 700 كلم، وأكبر ميناء لديه بورتسودان، الذي يعتبر الميناء الرئيسي للبلاد، بل يمثل منفذاً بحرياً استراتيجياً لعدة دول مغلقة ومجاورة مثل تشاد وإثيوبيا وجنوب السودان.
وصادق بوتين في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، على إنشاء قاعدة بحرية روسية في السودان قادرة على استيعاب سفن تعمل بالطاقة النووية.
ونشرت الجريدة الرسمية الروسية، في 9 ديسمبر/كانون الأول 2020، نص الاتفاقية حول إقامة قاعدة تموين وصيانة للبحرية الروسية على البحر الأحمر، بهدف "تعزيز السلام والأمن في المنطقة"، ولا تستهدف أي طرف آخر، بحسب مقدمة الاتفاقية.
وستضم القاعدة نحو 300 فرد من عسكريين ومدنيين، ويمكن استخدامها في عمليات الإصلاح والتموين وإعادة الإمداد لأفراد أطقم السفن الروسية، ويحق للجانب السوداني "استخدام منطقة الإرساء، بالاتفاق مع الجهة المختصة من الجانب الروسي".
وتحدد الاتفاقية إمكانية بقاء 4 سفن حربية كحد أقصى في القاعدة البحرية، ويحق لروسيا أن تنقل عبر مرافئ ومطارات السودان "أسلحة وذخائر ومعدات" ضرورية لتشغيل تلك القاعدة في ميناء بورتسودان الاستراتيجي.
ومدة الاتفاقية 25 عاماً قابلة للتمديد 10 سنوات إضافية، بموافقة الطرفين.
ما الذي يمكن أن تقدمه روسيا للسودان، وماذا عن موقف أمريكا؟
ثمة أحاديث عن صراع أمريكي روسي على إقامة قاعدة بحرية عسكرية في السودان، في ظل رغبة البلدين في تعزيز نفوذهما بالقارة الإفريقية، التي تمثل مصدراً كبيراً للثروات الطبيعية وسوقاً ضخمة للسلاح.
كما يقع السودان في منطقة تتسم بالاضطرابات بين القرن الإفريقي والخليج العربي وشمال إفريقيا، ما يمثل أهمية لمساعي كل من واشنطن وموسكو للحفاظ على مصالحهما في تلك المناطق الحيوية.
ويقول أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية حاج حمد محمد خير إن الأسلحة الموجودة في السودان روسية وصيانتها وقطع غيارها روسية أيضاً، لذلك موسكو مهمة بالنسبة للحكومة وجيشها، ولا تريد أن تفقدها.
ويضيف خير، في حديثه للأناضول: "لا تريد الحكومة الانتقالية في ذات الوقت أن تغضب الأمريكيين، الذين رغم التطورات الأخيرة في العلاقات بين البلدين لم يقدموا شيئاً يذكر حتى الآن".
ويوضح أن "الروس يرون أنهم قدموا خدمات للسودان طوال السنوات الماضية، ومن حقهم أن ينالوا قاعدة لوجستية لصيانة قطعهم البحرية المتواجدة في البحر الأحمر".
ويرى خير أن "المهدي، ناورت في موسكو، فهي تريد أن توضح لشركائها في السلطة من العسكريين أن المدنيين يطالبون بتحقيق مصالح الجيش في صيانة وإصلاح آلياتهم وأسلحتهم الروسية الصنع".
ويضيف: "وكذلك حاولت المهدي من خلال حديثها إلى لفت نظر الأمريكيين الذين لم يقدموا بشكل كبير مساعدات للحكومة الانتقالية لتجاوز أزماتها الاقتصادية والسياسية".
وبدأت بالسودان في 21 أغسطس/آب 2019 مرحلة انتقالية تستمر 53 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات، ويتقاسم خلال هذه الفترة السلطة كل من الجيش وتحالف إعلان قوى الحرية والتغيير، قائد الحراك الشعبي.