من بين كل جيران أفغانستان، تبدو دول آسيا الوسطى الأكثر قلقاً من صعود طالبان مع تسارع الانسحاب الأمريكي من البلاد.
فهذه الدول هي الأضعف عسكرياً واقتصادياً من بين كل جيران أفغانستان، وهي دول فقيرة ومستبدة تحكمها أنظمة من بقايا الشيوعية، تتسم بالقلق من التوجهات الإسلامية المعتدلة والمتشددة على السواء.
والأهم أن بعض هذه الدول تركيباتها العرقية امتداد لعرقيات أفغانستان، فنحو 22% من سكان أفغانستان من الطاجيك، و9% من الأوزبك، و3% من التركمان، مما يجعل أي تطورات في أفغانستان تؤثر على هذه البلدان التي كانت تاريخياً على علاقة وثيقة مع العالم الإسلامي عبر إيران وأفغانستان، لكن انقطعت هذه الصلة بعد احتلال الروس لهذه البلاد في القرن التاسع عشر.
وحين انهار الاتحاد السوفييتي عام 1991، ظهر من حطامه 15 بلداً. وفي وسط سلسلة من الأزمات العالمية التي انشغلت بها واشنطن في التسعينيات، من رواندا إلى البلقان، لم ترتقِ دول آسيا الوسطى المستقلة حديثاً قط في قائمة اهتمامات السياسة الخارجية الأمريكية، واستمر النظر إليها، إلى حدٍّ كبير، من خلال السياق الأوسع نطاقاً للعلاقات مع روسيا.
لكنَّ كل هذا تغيَّر حين ذهبت الولايات المتحدة لخوض الحرب في أفغانستان عام 2001. إذ أصبحت آسيا الوسطى ركيزة مهمة للشبكات العسكرية واللوجيستية التي أُقِيمَت لدعم الحرب والجهود الأمريكية لتدمير الشبكات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
وقالت بريان تود، الأستاذة المساعدة بمركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية بجامعة الدفاع الوطني الأمريكية: "إن كنا نظرنا إلى آسيا الوسطى عبر منظور روسيا في التسعينيات، فإنَّ الأمر تحوَّل بشكل كبير إلى منظور أفغانستان في العقد الأول من الألفية الثالثة".
الآن فيما تنهي الولايات المتحدة عملياتها في أفغانستان بعد قرابة 20 عاماً من الحرب، توجد آسيا الوسطى في موضع يُخوِّل لها الاضطلاع بدور رئيسي في مساعي إدارة بايدن لاحتواء تداعيات الانسحاب، في ظل شق طالبان طريقها سريعاً في شمال أفغانستان، حيث حققت مكاسب غير مسبوقة وسيطرت على نحو ثلثي حدود البلاد الطويلة والمليئة بالثغرات مع طاجيكستان في الشمال.
وقالت المبعوثة الخاصة للأمم المتحدة ديبورا ليونز لمجلس الأمن، إن المتمردين -في إشارة إلى طالبان- سيطروا على أكثر من 50 منطقة من أصل 370 مقاطعة منذ مايو/أيار الماضي، محذرةً من "سيناريوهات رهيبة".
إدارة بايدن تحاول تعزيز العلاقات مع دول آسيا الوسطى
وتشن إدارة بايدن حملة جذب دبلوماسي في آسيا الوسطى، وتفيد تقارير بأنَّها تخوض مباحثات مع طاجيكستان وأوزبكستان وكازاخستان حول الاستقبال المؤقت للاجئين الأفغان الذين عملوا مع الحكومة الأمريكية وربما يواجهون الآن أعمالاً انتقامية في ظل توسع طالبان. الأمر المهم هو أنَّ إدارة بايدن تسعى أيضاً لإعادة تأسيس موطئ قدم عسكرية في المنطقة لدعم جهود الحكومة الأفغانية لكبح الحركة المسلحة.
وفي حين وضع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، تنافس القوى الكبرى وحقوق الإنسان والديمقراطية على رأس أجندة سياسته الخارجية، ليس واضحاً ما هو المنظور الذي سيبلور السياسةَ الأمريكية في آسيا الوسطى بينما تبدأ الحرب بأفغانستان في أن تصبح أمراً من الماضي بالنسبة لواشنطن، خاصةً أنَّ سجل هذه الدول في حقوق الإنسان من أسوأ السجلات عالمياً.
كان وزيرا خارجية أوزبكستان وطاجيكستان في واشنطن هذا الشهر (يوليو/تموز)، للقاء وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن. وأعلن البيت الأبيض الأربعاء 14 يوليو/تموز، أنَّ مستشارة الأمن الداخلي للرئيس الأمريكي، إليزابيث شيروود راندال، إلى جانب زلماي خليل زاد، الشخصية الرئيسية في العلاقات الأمريكية الأفغانية، سيترأسان وفداً أمريكياً إلى أوزبكستان؛ للمشاركة في مؤتمر حول الربط الإقليمي.
أمريكا تؤسس منتدى دبلوماسياً جديداً بالمنطقة
وذكرت المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، إيميلي هورن، في بيان، أنَّه من المقرر أن يلتقي الوفد القادة الإقليميين؛ لـ"مناقشة كيفية تعزيز السلام والأمن والتنمية في أفغانستان، وتعزيز المصالح الأمنية الإقليمية المشتركة، وضمن ذلك التعاون في مكافحة الإرهاب". وأعلنت الخارجية الأمريكية، الجمعة 16 يوليو/تموز، إنشاء منتدى دبلوماسي جديد يضم أوزبكستان وباكستان وأفغانستان والولايات المتحدة لدعم جهود السلام والربط الإقليمي.
ودول آسيا الوسطى حذرة، لأنَّ طالبان "أصبحت وحشاً مختلفاً قليلاً"، حسب تعبير المجلة الأمريكية.
إذ اجتذبت طالبان تاريخياً المجندين من عرقية البشتون الأفغانية في شرق وجنوب البلاد. لكنَّ الحركة المتشددة كثَّفت في السنوات الأخيرة جهودها لجذب أعضاء من المجموعات العرقية الأفغانية الأخرى، وضمن ذلك الطاجيك والتركمان والأوزبك في شمال البلاد، وهو الأمر الذي ربما ساعد في تمهيد الطريق لمكاسبهم الإقليمية المذهلة بالمنطقة في الأشهر الأخيرة، وهي الانتصارات التي تحقق جزء منها في شمال وغرب البلاد بعيداً عن مناطق البشتون أكبر قومية في البلاد والتي تعد معاقل طالبان التقليدية.
وقد أذكى ذلك المخاوفُ من انتشار الأيديولوجيا الإسلاموية المتطرفة، حسب المجلة الأمريكية.
وانضمام أفراد من الأقليات العرقية الأفغانية إلى طالبان التي يغلب عليها البشتون، لا يعني فقط أنها أصبحت أكثر قوة في الداخل الأفغاني، ولكن قد يؤدي إلى تزايد تأثيرها في دول آسيا الوسطى.
كيف تتعامل بلدان آسيا الوسطى مع صعود طالبان؟
وجَّه رئيس طاجيكستان، إمام علي رحمن، وزيرَ الدفاع شير علي ميرزا مؤخراً، باستنفار 20 ألف عسكري لتعزيز حدود البلاد مع أفغانستان، حسبما أفادت الرئاسة الطاجيكية، وسط أنباء عن سيطرة طالبان على أكثر من 70% من خط الحدود الدولية بين البلدين، حسب مصدر بقيادة اللجنة الحكومية للأمن القومي في طاجيكستان.
واللافت أنه رغم أن جميع دول الجوار قلقة من صعود طالبان، وضمنها باكستان حليفتها القديمة، فإن أياً من هذه الدول لم تتخذ مواقف حادة تجاه طالبان في الآونة الأخيرة، بل العكس هدأ الخطاب المعادي للحركة في دول الجوار، التي يبدو أنها تتمنى فعلاً أن تكون طالبان قد تغيرت، وأنها لن تتيح ملاذاً للحركة المتطرفة لاستهداف جوارها.
ففي طاجيكستان على سبيل المثال، لم يعد يتم التحدث في وسائل الإعلام الحكومية بازدراء كامل عن طالبان.
وعندما تنشر تصريحات حول حزب النهضة الإسلامي المعارض المحظور في طاجيكستان، تشير إليه باعتباره جماعة إرهابية ومتطرفة، وتصنف طالبان قانوناً كمنظمة متطرفة، لكن الأمن القومي في طاجيكستان تخلى بهدوء عن هذا الوصف في الحديث عن طالبان، وأحياناً يتم اعتماد المصطلح الأكثر حيادية، وهو "الجماعة المسلحة".
وتمتلك طاجيكستان قوة جوية صغيرةً قوامها 25 طائرة حربية، منها 20 مروحية، وتتكون القوات البرية لجيش طاجيكستان من 253 دبابة و400 مدرعة و80 مدفعاً ميدانياً و125 راجمة صواريخ، وتصل ميزانية جيش طاجيكستان إلى 79 مليون دولار أمريكي.
وطمأنت طالبان، دوشانبي بأنها لا تريد إلحاق أي ضرر بطاجيكستان.
وأرسل وفد من طالبان، في 8 يوليو/تموز 2021، الرسالة نفسها وأكثر إلى روسيا. وقال ممثلو الحركة إنهم يعملون على "تحقيق سلام مستدام"، وإنهم "سيأخذون في الاعتبار المصالح المشتركة للمجموعات الأفغانية كلها، ويحترمون حقوق الإنسان، وضمن ذلك حقوق المرأة، في إطار الأعراف والتقاليد الأفغانية".
ويبدو أن عدم إعلان أغلب دول الجوار عن إغلاق المعابر مؤشر على استعدادها الأوّلي للتعامل مع الحركة.
فرغم القلق الشديد، من قِبل دول الجوار من طالبان، فإن خطاب الحركة يحاول أن يطمئنها، وفي الوقت ذاته تعلم هذه الدول أنها لو دخلت في صراع مع طالبان فإن الأخيرة لديها أدوات لإيلامها، وفي الوقت الذي يتراجع فيه رهان الجميع، وضمن ذلك دول الجوار، على الحكومة التي شوهد جنودها وهم يهربون على الحدود.
قالت سوزان ليفي سانشيز، الأستاذة المساعدة لشؤون الأمن القومي بكلية الحرب البحرية الأمريكية: "بلدان آسيا الوسطى متخوفة من تمدد طالبان إلى حدٍّ ما، لكنَّها أيضاً تخشى من انتقال مواطنيها إلى أفغانستان، لذا فإنَّ المخاوف تسري في اتجاهين".
كانت طالبان، قبل أن يطيح بها التدخل الأمريكي في 2001، تحكم أفغانستان بموجب تفسير صارم للشريعة الإسلامية، وستنظر الحكومات في الشمال، التي لطالما كانت معادية للإسلام الراديكالي والحركي، إلى التقدم الذي تحرزه الحركة بحذر بالغ. في الوقت نفسه، تدرك بلدان آسيا الوسطى أيضاً أنَّها تحتاج إلى العمل مع طالبان وتسعى للحصول على ضمانات بأنَّ الحركة لن تضع أنظارها خارج أفغانستان.
قالت نرجس كازانوفا، مديرة برنامج آسيا الوسطى بمركز ديفيز للدراسات الروسية والأوراسية بجامعة هارفارد: "هناك تفهُّم بأنَّ طالبان تنتصر وهي هناك لتبقى". وأجرت وفود طالبان بالفعل زيارتين لتركمانستان هذا العام، وأفادت تقارير بأنَّ المسؤولين التركمان حصلوا في زيارة في فبراير/شباط الماضي، على ضمانات من الحركة المسلحة بأنَّها لن تستهدف مشروعات البنية التحتية للبلاد في أفغانستان. وقالت كازانوفا إنَّ دول آسيا الوسطى "بإمكانها العمل مع طالبان، لكن كان من الأفضل لو أنَّ الحركة لم تصبح مثالاً (للمجموعات الإسلاموية المحلية)".
هل تؤسس أمريكا قواعد جديدة في المنطقة؟
لطالما كان التعاون الأمني هو موضع التركيز الأساسي للولايات المتحدة في انخراطها بالمنطقة، وسيبقى من نواحٍ عدة هو الهدف الأساسي.
وأنشأت الولايات المتحدة في أواخر 2001، قواعد جوية في أوزبكستان وقرغيزستان؛ لدعم الحرب في أفغانستان، لكنَّ علاقة واشنطن مع روسيا والصين آنذاك كانت مختلفة جذرياً. فقال جورج كرول، وهو سفير أمريكي سابق لدى كازاخستان وأوزباكستان: "كان لديك آنذاك صين ساكنة جداً وروسيا داعمة إلى حدٍّ ما". فعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الإرهابية، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين متحمساً للشراكة مع الولايات المتحدة في جهود مكافحة الإرهاب، ولم يقف في طريق الولايات المتحدة لتأسيس قواعد في آسيا الوسطى، وهي منطقة كان الكرملين- وما زال- يعتبرها فناءً خلفياً له.
وتواجه واشنطن الآن مشهداً جيوسياسياً مختلفاً جذرياً في المنطقة، والخبراء متشككون في أنَّ الولايات المتحدة ستتمكن من تأسيس قاعدة بالمنطقة للتصدي لأي تداعيات تنجم عن نهاية الحرب الأفغانية.
فقال كرول: "لا يمكنني توقُّع أن تُقدِم أيٌّ من هذه البلدان على عمل ذلك، لأنَّها تعي الضغوط التي ستتعرَّض لها من روسيا والصين". والأكثر احتمالاً هو أن يكون الدور الأمريكي في المنطقة مقتصراً على استمرار التعاون الأمني، وصفقات الأسلحة، والمساعدات الإنسانية.
وتحدثت روسيا بصراحة عن موقفها من تأسيس وجود عسكري أمريكي دائم في المنطقة. فقال نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، في مقابلة مع صحيفة روسية، هذا الأسبوع، إنَّ روسيا حذَّرت بقوةٍ الولايات المتحدة وبلدان آسيا الوسطى من تأسيس أي وجود عسكري أمريكي دائم في المنطقة.
وتستضيف طاجيكستان أكبر قاعدة عسكرية روسية بالخارج قرب الحدود الأفغانية، وكانت موسكو تحشد قدراتها العسكرية بالمنطقة في السنوات الأخيرة. وتعهَّد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الأسبوع الماضي، بأنَّ روسيا "ستبذل كل ما بوسعها لمنع أي تحركات عدوانية ضد حلفائنا" في المنطقة، وطلبت طاجيكستان الدعم من التكتل العسكري المعروف باسم "منظمة الأمن الجماعي" والذي تقوده روسيا؛ للرد على أي تحديات أمنية تنبع من أفغانستان.
ولكن ذكرت وسائل إعلام روسية أن الرئيس فلاديمير بوتين عرض على نظيره الأمريكي جو بايدن مساعدة لوجيستية في أثناء مغادرة القوات لأفغانستان.
وقالت صحيفة "كوميرسانت" الروسية، إن الرئيس بوتين عرض على نظيره الأمريكي جو بايدن استخدام القواعد العسكرية الروسية في آسيا الوسطى لجمع المعلومات من أفغانستان في أثناء مغادرة القوات الأمريكية البلاد.
ولدى روسيا مصلحة حقيقية للغاية في ضمان عدم تمدد طالبان والحركات المتطرفة الأخرى بالمنطقة. إذ تملك روسيا نظام سفر بدون تأشيرة مع بلدان آسيا الوسطى، باستثناء تركمانستان، التي تُعَد واحدة من أكثر بلدان العالم انغلاقاً. قال كرول: "لا يريدون رؤية أشياء تخرج من أفغانستان ويمكن أن تعبر إلى آسيا الوسطى، التي هي أساساً الخاصرة الرخوة للاتحاد الروسي".
ما يُعقِّد الوضع أكثر أنَّ الصين أسست أيضاً، بتكتم، قاعدة عسكرية بشرق طاجيكستان، قرب نقطة التقاء الحدود الأفغانية والصينية، في ظل سعي بكين لمنع تسلل عدم الاستقرار إلى إقليم شينجيانغ، حيث يُحتجَز أكثر من مليون مسلم إيغوري تحت ستار حملة لمكافحة الإرهاب.
كانت آسيا الوسطى، بحكم الجغرافيا، ساحة لمنافسات القوى العظمى طوال قرون، ومن أشهرها المنافسة بين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية فيما عُرف باللعبة الكبرى، التي انتهت بفشل البريطانيين في احتلال أفغانستان، وتحوُّلها إلى منطقة عازلة بين النفوذ الروسي في آسيا الوسطى، والبريطاني في الهند.
وفي حين أنَّ آفاق إنشاء قاعدة أمريكية ضئيلة، فإنَّ انخراط واشنطن المتزايد في المنطقة على الأرجح سيكون محل ترحيب، لأنَّ البلدان هناك حريصة على الموازنة بين روسيا والصين.
قال بول سترونسكي، الزميل البارز في برنامج روسيا وأوراسيا بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: "هناك سبب يجعلهم يرغبون في وجود طرف آخر هنا، لكنَّهم لا يعقدون آمالاً كبيرة بأنَّ لنا (أمريكا) طاقة للبقاء طويلاً".