بعد مرور تسعة أشهر على تكليفه، اعتذر رئيس الحكومة اللبنانية المكلف سعد الحريري عن تشكيل الحكومة. هي تسعة أشهر من الانتظار وشبه فراغ حكومي، فحكومة حسان دياب كانت قد استقالت بُعيد انفجار مرفأ بيروت، العام الماضي، وهي لا تقوم بأي شيء إلا ما تعتبر أنه يندرج في إطار تصريف الأعمال، بانتظار ولادة حكومة جديدة.
شهدت هذه الأشهر سجالات تكاد لا تنتهي في لبنان بين الرئيس ميشال عون وفريقه السياسي من ناحية، والحريري وفريقه السياسي من ناحية أخرى حول صلاحية كل منهما في تشكيل الحكومة، كما راجت تحليلات واتهامات حول من يقف وراء التعطيل، ومن يمنع تشكيل الحكومة.
تداعيات قرار الحريري عميقة الجذور على الأزمة الاقتصادية في لبنان
وكان لقرار الحريري تداعيات كبيرة في لبنان، حيث تصاعدت الاحتجاجات في مناطق مختلفة، بسبب الأزمة الاقتصادية المستمرة وانهيار العملة وعدم التوصل إلى استقرار سياسي، ويحذّر مراقبون من أن هذا القرار ستكون له تداعيات عميقة الجذور على الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي ضربت البلاد.
وكان الحريري، رئيس الوزراء الأسبق وأكثر الزعماء السُّنة نفوذاً في البلاد، قد قدَّم تشكيله الوزاري إلى الرئيس ميشال عون -المسيحي الماروني- يوم الأربعاء 15 يوليو/تموز، وخلال حديثه إلى المراسلين بعد لقائه بالرئيس، قال الحريري -الذي جرى ترشيحه للمنصب قبل تسعة أشهر- إن "لحظة الحقيقة قد حانت وسوف نعرف جميعاً". لكن عاد واعتذر ظهر اليوم التالي.
وحول التفاصيل الأخيرة التي سبقت الاعتذار، والتي كشفها "عربي بوست"، فإن الحريري، وبعد أقل من 24 ساعة على تقديم تشكيلته الحكومية فور عودته من القاهرة، بادر إلى الاتصال بالقصر الجمهوري عند الساعة الثانية عشرة من ظهر الخميس، قائلاً لرئيس الجمهورية ميشال عون، إن المهلة التي طلبها لإعطاء جوابه حول التشكيلة قد انتهت.
كان رد عون أنه لا يعطي جواباً عبر الهاتف، و"إذا أردت أن تحضر إلى القصر الجمهوري لنتناقش بالملاحظات التي سجلتها على التشكيلة، فأهلاً وسهلاً"، ليطلب الحريري الموعد ويحضر عند الساعة الرابعة عصراً.
ووفقاً لمصادر مقربة من الحريري لـ"عربي بوست"، فإنَّ عون قال للحريري فور وصوله إنه ليس راضياً بسحب الحريري وزارتي الداخلية والعدل منه، وقال للحريري: "الواضح أننا لن نتفق ولن نتوفق". وحاول الحريري القول لعون إنه جاهز لإعطاء مهلة إضافية لمناقشة التشكيلة، إلا أنَّ عون كان واضحاً أنه لا يعطى مواعيد ولا مهلاً، وهنا انتهى اللقاء بينهما وأعلن الحريري اعتذاره.
لا تحرير للأموال والعقوبات مستمرة
يأتي ذلك في الوقت الذي يضغط فيه المجتمع الدولي -خاصةً القوة الاستعمارية السابقة فرنسا- على الساسة اللبنانيين لتشكيل حكومة سريعاً، والبدء في تنفيذ الإصلاحات التي ستُحرّر أموال المتبرعين وتستأنف المحادثات المعلقة مع صندوق النقد الدولي. كما هددت باريس الساسة بالعقوبات في حال استمرار التأخيرات.
وكان لبنان يُدار بحكومة تصريف أعمال منذ أغسطس/آب، بعد استقالة رئيس الوزراء السابق حسن دياب في أعقاب الانفجار الضخم الذي هزّ مرفأ بيروت، وقتل 200 شخص على الأقل، ودمّر مساحات شاسعة من العاصمة.
بينما عانت الحكومة، التي تخلفت عن سداد 30 مليار دولار من الديون الدولية منذ عام، من أجل تنفيذ الإصلاحات بالنظر إلى محدودية سلطتها ودعمها السياسي.
الجيش اللبناني يحذِّر من فوضى ستعم البلاد
وبعد يوم من اعتذار الحريري، حذَّر قائد الجيش اللبناني، العماد جوزيف عون، الجمعة 16 يوليو/تموز 2021، من أن الوضع في البلاد يزداد سوءاً، وسيتفاقم مع تأجيج التوترات السياسية والاجتماعية بسبب الأزمة المالية، مشدّداً على أن "الأمور آيلة إلى التصعيد، لأننا أمام مصير سياسي واجتماعي مأزوم".
جاء ذلك خلال تفقُّده وحدات الجيش المنتشرة في البقاع (وسط)، غداة اعتذار سعد الحريري عن تشكيل الحكومة الجديدة؛ الأمر الذي أدى إلى تعميق الأزمة في البلاد.
فيما خاطب العماد عون، وفق بيان للجيش نُشر على موقعه الرسمي بـ"تويتر"، العسكريين في منطقة بعلبك بشرق لبنان، قائلاً: "مسؤوليتنا كبيرة في هذه المرحلة، ومطلوب منا المحافظة على أمن الوطن واستقراره ومنع حصول الفوضى، تجربة الأمس كانت مثالاً لذلك. أهنئكم على ضبط أعصابكم وتفويت الفرصة على من أراد إحداث فتنة"، حسب تعبيره.
العماد عون تحدَّث إلى جنوده بالقول: "أعلم حجم المهمات المُلقاة على عاتقكم في هذه الظروف الصعبة والدقيقة في وقت تعيشون هاجس توفير أدنى مقومات الحياة الكريمة لعائلاتكم، بسبب تدني قيمة رواتبكم".
كما دعا العماد عون، المجتمع الدولي إلى "المراهنة على الجيش اللبناني، لأنه العمود الفقري للبنان وعامل استقراره"، مشدداً على أن "الأمن خط أحمر".
في هذا الإطار، أعرب قائد الجيش اللبناني عن أمله بأن يكون ما تعيشه البلاد هذه الأيام "أزمة مرحلية ستجتازها بفضل عناصر الجيش".
إلا أنه استدرك قائلاً: "شعبنا يثق بنا، وكذلك المجتمع الدولي. الجميع يعلم أن المؤسسة العسكرية هي الوحيدة التي لا تزال فاعلة. الجيش هو الرادع للفوضى".
"تنامي السخط" داخل صفوف القوى الأمنية اللبنانية
يشار إلى أن السخط يتنامى في صفوف القوى الأمنية، حيث فقدت العملة اللبنانية 90% من قيمتها مقابل الدولار؛ مما أدى إلى انخفاض قيمة أجور العسكريين. ويقوم كثير منهم بوظائف إضافية، بينما استقال البعض.
أما بعد إعلان الحريري الاعتذار عن محاولة تشكيل الحكومة، فقام محتجون من أنصاره، ليلة الخميس 15 يوليو/تموز، بإغلاق بعض الطرق في المناطق ذات الأغلبية السُّنية في بيروت، وأشعلوا النار بصناديق القمامة وإطارات المركبات.
من أجل مواجهة ذلك، انتشرت قوات الجيش وأطلقت النار في الهواء؛ لتفريق المحتجين الذين رشقوا الجنود بالحجارة ومقذوفات أخرى. وقال مصدر أمني إن جندياً أصيب. وأصيب 15 جندياً، الجمعة، خلال مواجهات مع محتجين بمنطقة جبل محسن في طرابلس بشمالي لبنان، إحدى أكثر المناطق فقرا في لبنان.
ولطالما كان يُنظر إلى الجيش على أنه إحدى المؤسسات القليلة التي يجتمع حولها اللبنانيون. وساهم انقسام الجيش على أسس طائفية في بداية الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1990، في تعزيز حكم الميليشيات المحلية.