بينما تسعى الولايات المتحدة لخلق تحالف ضد الصين يقوم بالأساس على الديمقراطية، فإنها في الواقع تتجاهل الديمقراطيات الفقيرة، بل تُلحق بها الأذى وتدفعها إلى أحضان الصين.
ورسم الرئيس الأمريكي جو بايدن، في خطابٍ ألقاه في فبراير/شباط الماضي، صورةً لعالم منقسم جوهرياً بين الديمقراطية والاستبداد. وقال: "نحن عند نقطة تحول بين أولئك الذين يجادلون بأنَّ الاستبداد هو أفضل السبل للمضي قدماً… بالنظر إلى كل التحديات التي نواجهها وأولئك الذين يدركون ضرورة الديمقراطية لمواجهة تلك التحديات".
لكنَّ هذا التركيز على الصدام بين الاستبداد والديمقراطية يخفي انقساماً أعمق في الجغرافيا السياسية: الصراع بين الأغنياء والفقراء، حسبما ورد في مقال نُشر في مجلة Foreign Affairs الأمريكية، كتبه جاك ويرنر، زميل أبحاث بمركز سياسة التنمية العالمية التابع لجامعة بوسطن الأمريكية.
أمريكا تقف ضد أكبر الديمقراطيات في العالم في معظم القضايا
يقول الكاتب "تدَّعي الولايات المتحد قيادة ديمقراطيات العالم، لكنَّها في الحقيقة تقف ضد معظم الديمقراطيات العالمية في الكثير من أهم القضايا العالمية. فمن جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، وحتى قواعد التجارة العالمية، ومن التغير المناخي إلى التنمية الاقتصادية، تُحبِط الولايات المتحدة عملياً أولويات معظم ديمقراطيات العالم. وتتسبب السياسة الخارجية الأمريكية –باسم الديمقراطية- خلال ذلك بمضاعفة أزمة الديمقراطية العالمية ونزع الشرعية عن القوة الأمريكية.
تشترك الديمقراطيات الغنية والفقيرة في الكثير من المشكلات، إذ وفَّرت أربعون عاماً من التركُّز المتزايد للثروة، وتدهور المنافع العامة، وتقلُّص استقرار العمال، وتفكك الشعور بالانتماء الجمعي المادةَ الخام للقومية والعنصرية والسلطوية في الديمقراطيات ذات المستويات المختلفة من الثروة. وتعي إدارة بايدن هذا، فَقَدَ أوضح بايدن في الخطاب تلو الآخر نقطة جوهرية، وهي أنَّ الناس يفقدون الثقة بالديمقراطية، لأنَّ الديمقراطية لا تُلبِّي احتياجاتهم، ويُقِرُّ بايدن في أجندته الداخلية بأنَّ الاستثمار في المنفعة العامة، وتوفير المزيد من القوة والأمن للعمال، وحشد الناس لمواجهة أزمة المناخ كلها أمور حاسمة لمشروع التصدي للسياسة غير الليبرالية وإحياء الديمقراطية في الولايات المتحدة.
لكنَّ سياسة بايدن الخارجية تعاني من انفصال غريب، حسب مقال مجلة Foreign Affairs.
فبدلاً من اتباع استراتيجية عالمية لإحياء الثقة بالمنفعة العامة، يركز بايدن على التفوق على الصين، كما لو أنَّ الناس خارج الولايات المتحدة يُقدِّرون الديمقراطية، ليس لأنَّها تُمكِّنهم، بل لأنَّها مرادف للقوة الأمريكية. ويجادل بايدن بأنَّه لأجل الديمقراطية، على الأمريكيين "تطوير منتجات وتقنيات المستقبل والهيمنة عليها". قد يساعد هذا المستثمرين الأمريكيين، لكنَّه ليس رؤية لاقتصاد عالمي يمكن فيه لكل الديمقراطيات أن تُلبّي تطلعات شعوبها.
إنَّ تبنّي مقاربة أخرى أمر ممكن، مقاربة قادرة على عكس مسار المد الاستبدادي العالمي من خلال فتح فرص جديدة أمام الشعوب حول العالم. وسيتطلب ذلك إطار عمل أفضل لفهم صراعات اليوم، إطار عمل أكثر رحابة من الثنائية قصيرة النظر التي تضع الديمقراطية الليبرالية في مواجهة الآخر الاستبدادي.
تجاهل الديمقراطيات الفقيرة
قد يبدو الادعاء بأنَّ الولايات المتحدة ليست على خلاف مع معظم الديمقراطيات ادعاءً متنافراً، لكنَّ هذا فقط لأنَّ قادة الولايات المتحدة ووسائل الإعلام الأمريكية كثيراً جداً ما يخلطون بين "ديمقراطيات العالم" والحفنة القليلة من الديمقراطيات الثرية، التي تشمل القوى الاستعمارية السابقة في أوروبا (واليابان)، والدول التي بدأت كمستعمرات للمستوطنين، مثل أستراليا وكندا.
فعلى سبيل المثال، أورد مقال بصحيفة The New York Times الأمريكية عام 2020 نتائج استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث بهذا الشكل: "انعدام الثقة في الصين يقفز إلى مستويات جديدة في البلدان الديمقراطية".
لكنَّ استطلاع الرأي لم يكن عن "البلدان الديمقراطية"، فمعظم ديمقراطيات العالم الكبرى –بلدان مثل البرازيل والهند وإندونيسيا والمكسيك وجنوب إفريقيا- لم تكن مشمولة في الاستطلاع، وكذلك الحال بالنسبة للديمقراطيات الأصغر مثل بتسوانا وبابوا غينيا الجديدة وسريلانكا، بل كان استطلاعاً لآراء الناس في "الاقتصادات المتقدمة" (على حد تعبير مركز بيو نفسه).
ووفقاً لمؤشر الديمقراطية الذي تصدره وحدة المعلومات بمجلة The Economist البريطانية، تُعَد البلدان الديمقراطية النامية موطناً لضعفي عدد سكان الديمقراطيات الثرية، ولثلاثة أضعاف إذا ما احتسبنا "الأنظمة الهجينة" شبه الديمقراطية، مثل تلك الموجودة في بنغلاديش ونيجيريا، مع ذلك تبقى الكثير من الديمقراطيات الفقيرة هامشية إلى حدٍّ كبير في نظرة صانعي القرار الأمريكيين للعالم.
ولا تكون هذه الدول موضوعاً للمحادثات في واشنطن إلا حين تهدد الاستقرار الإقليمي أو تصبح مفيدة في الصراعات الجيوسياسية الأوسع نطاقاً، حسب مقال المجلة الأمريكية.
وهذا الغياب مفهوم، وعلى وجه التحديد لأنَّ ديمقراطيات جنوب العالم فقيرة، فإنَّها تتمتع بنفوذ أقل بكثير على السياسة الدولية والاقتصاد العالمي مقارنةً بنظيراتها الثرية. تضم الديمقراطيات الثرية نحو 15% من سكان العالم، لكنَّها تتمتع بـ43% من الناتج المحلي الإجمالي مُقوَّماً بالقوة الشرائية (و59% من الناتج المحلي الإجمالي مُقوَّماً بالدولار)، وتصل موازاناتها العسكرية إلى قرابة ثلثي الإنفاق الحربي للعالم. كما يتشاطر كثير من الأمريكيين شعوراً بالانتماء الثقافي أو العرقي مع الديمقراطيات الثرية على نحو لا يمتد إلى الديمقراطيات الفقيرة.
يؤدي الخلط بين الديمقراطية والثروة إلى تشوه جذري في التفكير الاستراتيجي بشأن ما يدَّعي قادة الولايات المتحدة كثيراً بأنَّه أولوية قصوى؛ ضمان ازدهار الديمقراطية حول العالم. وتتحرك الديمقراطيات الفقيرة والغنية على حدٍّ سواء في اتجاه غير ليبرالي في السنوات الأخيرة، لكنَّ السياسة الخارجية الرامية لإنعاش ودعم الديمقراطية ستفشل إن اعتمدت حصراً على تفضيلات الدول الغنية. هذا لأنَّ ديمقراطيات جنوب العالم لديها مصالح تختلف جداً عن مصالح الديمقراطيات الثرية، مصالح تتماشى في كثير من الأحيان مع البلدان النامية الأكثر استبداداً.
جائحة كورونا كشفت زيف ادعاءات الديمقراطية الغربية
لربما كانت القضية الأكثر إلحاحاً التي تتباين فيها السياسة الأمريكية عن رغبات معظم الديمقراطيات هي إنهاء جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19). ففي حال كان هناك نظام دولي يستجيب لاحتياجات جنوب العالم، لكان بدأ بإعداد نظام للإنتاج والتوزيع العالمي للقاح، في مايو/أيار 2020، حين ظهر أول لقاح واعد مرشح، لكن رغم مليارات الدولارات من التمويلات العامة التي جعلت تطوير اللقاح ممكناً، تُرِكَ إنتاج اللقاحات (وأرباحها الهائلة) كليةً لشركات الأدوية الخاصة، الأمر الذي أدى إلى حالات نقص مدمرة للقاحات.
أما بالنسبة للتوزيع، فرغم أنَّ مبادرة "كوفاكس" التي قادتها منظمة الصحة العالمية وعدت بحدٍّ أدنى من العدالة العالمية للقاحات، تعرقلت المبادرة حين اشترت الديمقراطيات الثرية معظم المعروض من اللقاحات.
لكنَّ إدارة بايدن، وتحت ضغط كبير من تحالف عابر للحدود الوطنية من جماعات الصحة العامة والتجارة النزيهة والعدالة العالمية، بدأت تتحرك أخيراً. إذ وافقت إدارة بايدن في مايو/أيار الماضي على دعم التنازل عن قيود الملكية الفكرية الخاصة بـ19 من لقاحات كوفيد بمنظمة التجارة العالمية. وأعلنت الديمقراطيات الثرية بمجموعة الدول السبع مؤخراً أنَّها تعتزم التبرع بـ870 مليون جرعة لقاح على مدار العام المقبل. ورغم أنَّ هذه الجهود محل ترحاب فإنَّها أقل بكثير من الثمانية مليارات جرعة المطلوبة للقضاء على الجائحة في البلدان النامية. وحتى مع الوضع في الاعتبار الإجراءات الجديدة، يتوقع بايدن استمرار الجائحة في نصف العالم الجنوبي حتى 2023.
كان يجب دعم تصنيع اللقاحات في العالم الثالث
والتركيز على التبرعات لا هو السبيل الأسرع ولا الأفضل لإخضاع الجائحة للسيطرة، لكنَّ الأمر الأكثر فاعلية بكثير هو توسيع الإنتاج في نصف العالم الجنوبي نفسه، والمساعدة في تأسيس بنية تحتية دائمة للصحة العامة من أجل منع الأزمات المستقبلية.
وأصدرت مجموعة السبع تعهُّداً مبهماً لدعم برنامج كهذا، لكن حتى لو جرى تمرير التنازل عن حقوق الملكية الفكرية (ورغم الوضع الطارئ يُتوقَّع أن تستغرق النقاشات أشهراً، وتواصل ألمانيا عرقلته)، فإنَّ رفض الديمقراطيات الثرية مشاركة التكنولوجيا والمعرفة الفنية مع بقية العالم يلقي بظلال من الشك في نواياهم.
وينذر التأخير الكارثي في صياغة استراتيجية عالمية للجائحة والعيوب العميقة، فيما يبرز الآن منها أيضاً بمستقبل قاتم في ظل تعمُّق أزمة المناخ. وهنا أيضاً توجد الولايات المتحدة على خلاف مع معظم الديمقراطيات، إذ أنتج العدد الضئيل من سكان العالم الذين يعيشون في الديمقراطيات الثرية اليوم أو الدول السابقة عليها نحو نصف كل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري منذ عام 1751، وطالبت البلدان النامية البلدان الثرية بتحمل العبء الأكبر لحل أزمة المناخ، وتقول البلدان الثرية إنَّها ستدعم البلدان الفقيرة في عمليات تحولها إلى الطاقة المستدامة، لكنَّ القليل من الاستثمارات الكبيرة تحقق فعلاً.
بكين تحطم نظرية ارتباط التقدم بالديمقراطية
خلال الحرب الباردة، حافظ الكرملين على منافسة عسكرية ذات مصداقية مع الغرب، لكن الاتحاد السوفييتي لم يكن منافساً اقتصادياً لفترة طويلة للولايات المتحدة.
بدا أن انهيار النموذج السوفييتي يثبت أن الحرية السياسية والازدهار جاءا كحزمة واحدة. لا يمكن أن يكون هناك مشروع بدون أسواق، ولا أسواق بدون قواعد عادلة، ولا قواعد قابلة للتنفيذ بدون ديمقراطية. يبدو أن النموذج الهجين للرأسمالية الاستبدادية للحزب الشيوعي الصيني قد دحض هذه النظرية، حسب وصف صحيفة The Guardian البريطانية.
عندما تم إنشاء مجموعة السبع في السبعينيات، كانت عضويتها مجتمعة -الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان- تمثل بشكل مريح حصة كبيرة من الثروة العالمية. كان هناك ارتباط طبيعي للمؤسسات الديمقراطية الليبرالية والنجاح الاقتصادي. اليوم انخفض الناتج المحلي الإجمالي لتلك الدول السبع مجتمعة إلى 40% من الإجمالي العالمي. لا يزال الغرب ثرياً، لكنه لم يكن القائد الوحيد.
بكين لم تنصَعْ للغرب مثلما فعلت الديمقراطيات الفقيرة
ترتبط النزاعات حول الجائحة والتغير المناخي بمجموعة ثالثة من القضايا التي تُحدث انقساماً بين البلدان الثرية والنامية: السياسة الصناعية وحقوق الملكية الفكرية، ولأنَّ الدولة الفقيرة التي نجحت في تحدى الديمقراطيات الثرية في هاتين القضيتين هي الصين المستبدة، يستغل المحللون في واشنطن بصفة منتظمة إطار "الديمقراطية في مواجهة الاستبداد" لشرعنة شكاياتهم.
فعلى سبيل المثال، يؤكد تقرير لمركز المجلس الأطلسي بعنوان "مواجهة تحدي الصين للعالم الحر" على أنَّ "الصين تشارك في ممارسات اقتصادية جائرة تنتهك المعايير الدولية، بما في ذلك: سرقة الملكية الفكرية، وتقديم الدعم للشركات المملوكة للدولة لأغراض جيوسياسية، وتقييد وصول الشركات الأجنبية إلى السوق (الصينية)".
مثل هذه الممارسات تتحدى بالتأكيد سلطة البلدان الثرية، لكنَّ معظم "العالم الحر" يود كثيراً أن يحاكيها. لقد وُضِعَت القواعد محل النقاش خلال المفاوضات التي أنشأت منظمة التجارة العالمية عام 1995، حين لَوَت البلدان الثرية، بناءً على طلب بعضٍ من أقوى شركات العالم، ذراع البلدان الفقيرة من أجل حظر ممارسات التنمية التي كانت مقبولة على نطاق واسع سابقاً. وكان رفض ديمقراطيات مثل البرازيل والهند تقديم مزيد من التنازلات سبباً محورياً في انهيار جولة مفاوضات الدوحة التالية في 2008، لكنَّ البلدان الثرية دفعت بهذه المبادئ بصورة أكبر عبر الاتفاقيات التجارية والاستثمارية الثنائية.
والواقع أن الدول المتقدمة سرقت تصميمات المنتجات كما تفعل الصين تماماً
حظرت القواعد الجديدة الممارسات التي اتبعتها البلدان الثرية في الماضي، إذ تدين ثروة البلدان الثرية بالكثير لسرقة الملكية الفكرية –فالتصنيع في الولايات المتحدة على سبيل المثال كان سيصبح مستحيلاً لو لم يسرق الأمريكيون أساليب الإنتاج البريطانية المتقدمة- ناهيكم عن صور السرقة الأكثر عنفاً، مثل الاسترقاق الجماعي أو نهب المستعمرات.
وبالنسبة للسياسة الصناعية، جاءت معظم خطة الصين التي يُشهَّر بها كثيراً "صُنِع في الصين 2025" على غِرار استراتيجية "صناعة 4.0″ الألمانية، و"مبادرة الشبكة الوطنية للتصنيع" الأمريكية. وتهدف أجندة بايدن الاقتصادية لاستغلال قوة الدولة لتأمين سيطرة الولايات المتحدة على القطاعات عالية القيمة. ولا يعتمد نجاح الصين في تطعيم شعبها ومواجهة التغير المناخي على عداء بكين للديمقراطية، بل على قدرتها على محاكاة البلدان الثرية من خلال خرق القواعد حين يكون ذلك مناسباً.
لقد عانت ديمقراطيات الجنوب لتطوير اقتصاداتها، وظلت عالقةً بين قيود "إجماع واشنطن" على أساليب التنمية الفعالة وبرنامج الصين الناجح للغاية في تفادي مثل هذه القيود.
وفي هذا الإطار، تبدو دعوة واشنطن للتضامن الأيديولوجي بين ديمقراطيات العالم جوفاء بعض الشيء، حسب وصف المجلة الأمريكية.
الاقتصاد الأمريكي أصبح يعتمد على الريع واستغلال العمالة وليس الإنتاج الحقيقي
تحول العديد من الحواجز بين صانعي السياسة الأمريكيين وتبني أجندة أفضل داعمة للديمقراطية. فأولاً أصبح النمو الاقتصادي الأمريكي معتمداً كثيراً على الأرباح المُركَّزة للشركات العاملة في القطاعات التكنولوجية، والدوائية، والترفيهية، والعلامات التجارية الاستهلاكية، والمالية، وهي نفس مجالات الأعمال التي تمثل أكبر عقبات أمام رفع معايير العمالة العالمية وتحرير قواعد الملكية الفكرية.
وتتدفق الاستثمارات في الولايات المتحدة وحول العالم نحو فرص للحصول على الريع الاقتصادي، وليس خلف فرص العمل وبناء البنية التحتية ورفع الإنتاجية.
والمشكلة فلسفية كذلك، فهل دور الديمقراطية هو مجرد توفير إطار عمل محايد يمكن للأفراد فيه تبادل السلع والأفكار بحرية من خلال تقليص التهديدات للحرية والملكية، أي بتوفير المنافع العامة "السلبية" أي المنافع للنخبة الرأسمالية بالأساس؟ أم ينبغي أن تضمن الديمقراطية أيضاً التوفير الدائم للمنافع العامة "الإيجابية" مثل الرعاية الصحية والتعليم والوظائف عالية الجودة والاستثمارات الرأسمالية؟ لقد عملت السياسة الخارجية الأمريكية بنشاط لصالح المنافع العامة السلبية، ورفضت المنافع الإيجابية. فركَّزت واشنطن على تحرير السوق، وحقوق الأفراد، وسيادة القانون، والدفاع عن أمن الملكية، وحرية الملاحة في مواجهة مجموعة من الأشرار: المجرمون العابرون للحدود الوطنية، و"الدول المارقة"، والإرهابيون، والآن الصين.
لكنَّ المنافع العامة السلبية تفقد الفاعلية والشرعية حين تنفصل عن المنافع العامة الإيجابية. وكثيراً ما تفشل جهود المساعدات الأمريكية لهذا السبب. فانظروا، على سبيل المثال، إلى برنامج موَّلته "وكالة التنمية الدولية" الأمريكية في السنوات الأخيرة بقيمة 31 مليون دولار في غواتيمالا لإنتاج تطبيق للهواتف الذكية من شأنه السماح للسكان بتعقُّب الإنفاق الحكومي المحلي، لكنَّ السكان المحليين، الأكثر اهتماماً بالوظائف من الحكم الرشيد، لم يكونوا قادرين على شراء الهواتف الذكية أساساً.
تُقِرُّ إدارة بايدن في السياسة الداخلية بالحاجة للقطيعة مع العقيدة التقليدية للسوق الحر، لكن كيف يمكن أن تبدو السياسة الخارجية التي تنطوي على هذه الرؤية؟ أعتقد أنَّها ستركز على توفير المنافع العامة الإيجابية عالمياً، وسيتعين على كل بلد تنشيط الاستثمار العام بطريقته، لكن يجب أن تُدعَّم هذه العملية ببرامج عابرة للحدود الوطنية لتوفير الصحة العامة، وسد الفجوة الهائلة في البنية التحتية بين البلدان الثرية والفقيرة، وتحقيق انتقال عادل نحو الابتعاد عن مصادر الطاقة كثيفة الكربون.
ولا تزال الولايات المتحدة هي الأقدر على قيادة تلك الجهود، وهناك بعض المؤشرات على أنَّ إدارة بايدن قد تكون منفتحة على لعب مثل هذا الدور. فعلى سبيل المثال، تدعم مبادرتها "إعادة بناء عالم أفضل"، رغم أنَّها ليست مُعرَّفة تعريفاً مُحكَماً حتى الآن، هدف تنمية البنية التحتية العالمية. لكنَّ انشغال واشنطن بمنافسة القوة العظمى يهدد بإقصاء المساهمات الصينية الضرورية من المشروع، ويستخدم الصقور المتشددون بالفعل هذا الانشغال لتوجيه موارد المواهب الأمريكية الهائلة نحو العسكرة بدلاً من التهديدات الحقيقية للبشر.
وللمفارقة، سيصبح ترويج بكين للسلطوية عبر استغلال المعاناة الناجمة عن الأمراض الوبائية، والخراب المناخي، وغياب العدالة المزعزع للاستقرار أكثر إقناعاً إذا ما حال العداء المناهض للصين في واشنطن دون اتخاذ إجراءات فعالة ضد هذه التهديدات الوجودية.
ويُعَد إيجاد نظام قابل للتطبيق لحقوق العمال عالمياً أحد أوجه المنفعة العامة الأخرى التي لا تقل أهمية، وهو النظام الذي من شأنه المساعدة في خفض المنافسة الشديدة بين العمال، بما يؤدي إلى الكثير جداً من العنصرية والقومية، وتعزيز طلب المستهلكين والدعم الشعبي.
أخيراً، يجب أن تتبنى واشنطن مبدأ التنمية باعتبارها حقاً إنسانياً، وهي الفكرة التي تحظى بدعم قوي في الأمم المتحدة منذ عام 1986، على الرغم من معارضة الولايات المتحدة والبلدان الثرية الأخرى، وإلى جانب تحرير القيود على الملكية الفكرية والسياسة الصناعية، يتطلَّب ذلك زيادة كبيرة في تمويلات التنمية الأمريكية للمناطق التي لطالما عانت من نقص رأس المال. ويُظهِر الاتفاق الذي جرى التوصل إليه مؤخراً بشأن فرض حد أدنى من ضريبة الدخل على الشركات العالمية، وهو الاتفاق الذي تَقرَّر إلى حدٍّ كبير بين الديمقراطيات الثرية، أنَّه بالإمكان أن يُمهِّد التنسيق متعدد الأطراف الطريق أمام اقتصادٍ عالمي أكثر عدالة. لكنَّه مع ذلك يعزز أيضاً الانقسام بين الفقراء والأغنياء، من خلال تجاهل رغبة البلدان النامية في زيادة العائدات. ويمكن أن تكون الخطوة التالية للإصلاح هي زيادة في معدل ضريبة الشركات العالمية من أجل تأسيس مورد مستقر لتمويل التنمية في جنوب العالم. وكانت الاستثمارات الأجنبية الخاصة في البلدان النامية مُجزَّأة ومتقلبة، ما تحتاجه هذه المناطق ليس العائدات السريعة، بل الاستثمارات التحويلية طويلة الأجل لزيادة قدرتها على توليد الثروة، وهو أمر لن يضع فقط حداً للفقر المروع الذي يؤثر على مليارات الناس، بل سيخلق أيضاً فرصاً جديدة هائلة للشركات والعاملين الأمريكيين.
ومن شأن كل إجراء من هذه الإجراءات أن يعزز الإجراءات الأخرى، وهو ما سيُشكِّل هيكلاً جديداً للنمو العالمي يشبه من نواحٍ عدة اقتصاد "الصفقة الجديدة"، الذي أوجد الطبقة الأمريكية الوسطى. ومن شأن هذه الإجراءات أن تروج لرخاء البلدان الثرية والفقيرة على حدٍّ سواء، من خلال إنعاش النمو العالمي وتوزيع منافعها بشكل أوسع نطاقاً، بما يعيد شرعية العولمة والقيادة الأمريكية من خلال إرسائهما على أساس أكثر شمولاً بكثير. ومن شأن هذا تقليص التوترات النجمة عن المعادلة الصفرية الخطيرة للغاية في العلاقة الأمريكية الصينية، لأنَّ النمو الأقوى في الاقتصاد العالمي سيُوجِد مجالاً لنجاح كلا البلدين في نفس الوقت. ولعل النقطة الأهم هي أنَّ النمو الشامل في الاقتصاد العالمي سيهيئ الظروف أمام موجة جديدة من التحول الديمقراطي.