يبدو أن حلم روسيا بالوجود في جنوب ليبيا قد تحول إلى واقع، خصوصاً أن فرنسا قررت الانسحاب من منطقة الساحل، مما يفسح الطريق أمام تمدد النفوذ الروسي في عموم قارة إفريقيا.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أعلن الجمعة 9 يوليو/تموز الجاري أن بلاده ستباشر إغلاق قواعدها في شمال مالي "خلال الأسابيع القادمة"، في إطار خفض عدد القوات الفرنسية في منطقة الساحل، وذلك خلال مؤتمر صحفي في أعقاب محادثات مع قادة بلدان مجموعة دول الساحل، قائلاً إن بلاده ستبدأ بحلول نهاية العام سحب قواتها المنتشرة في أقصى شمال مالي.
ولفت ماكرون إلى أن عملية إغلاق قواعد قوة برخان في شمال مالي ستبدأ في "النصف الثاني من العام 2021″، مضيفاً خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس النيجر الجديد محمد بازوم في قصر الإليزيه، أن المواقع العسكرية في كيدال وتيساليت وتمبكتو ستغلق "بحلول بداية عام 2022".
وشارك أيضاً في القمة رؤساء تشاد ومالي وموريتانيا، الأعضاء في مجموعة دول الساحل الخمس، عبر الفيديو، في أول لقاء بينهم منذ الإعلان في حزيران/يونيو عن التقليص مستقبلاً في عدد القوات الفرنسية (5100 عسكري حالياً) المنتشرة في منطقة الساحل الصحراوي منذ ثمانية أعوام.
لماذا يمثل جنوب ليبيا حلماً روسياً؟
"وجودنا في الجنوب الليبي.. حلم"، بحسب سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، لكن هذا الحلم يصطدم مع مصالح دول كبرى وإقليمية، مما يدعو للتساؤل عن الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة المهمشة، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
وجاء ذكر رواية الحلم الروسي في الجنوب الليبي على لسان المحلل السياسي الليبي محمد بويصير، نقلاً عن وزير الخارجية الليبي السابق محمد الطاهر سيالة، الذي سبق له أن التقى لافروف أكثر من مرة في موسكو، آخرها نهاية ديسمبر/كانون الأول 2020.
وحالياً تتواجد روسيا في إقليم فزان (جنوب غرب) عبر شركة فاغنر الأمنية، التي نشرت عناصرها في قاعدتي براك الشاطئ (700 كلم جنوب طرابلس) وتمنهنت الجويتين (750 كلم جنوب طرابلس)، منذ سبتمبر/أيلول 2020. ولم تكتف فاغنر الروسية بالتمركز بقاعدة تمنهنت (التابعة لمحافظة سبها) وإعادة تأهيل قاعدة براك الشاطئ (كانت خارج الخدمة) بل سبق ذلك دخولها أكبر حقلين نفطيين في فزان.
ففي 25 يونيو/حزيران 2020، وعقب هزيمتها وميليشيات حفتر أمام قوات حكومة الوفاق السابقة وفرارها من جنوبي طرابلس والمنطقة الغربية، توجهت عناصر من فاغنر رفقة مرتزقة أفارقة إلى حقل الشرارة النفطي (أكبر حقل في البلاد) انطلاقاً من قاعدة الجفرة الجوية (وسط) ثم دخلت حقل الفيل النفطي، ومهبطه الجوي.
تمدد روسي وانسحاب فرنسي
وأدت هذه التطورات على الأرض في الجنوب الليبي إلى أن تصبح روسيا القوة الأجنبية الأولى المهيمنة على الجنوب الليبي مزيحة فرنسا المستعمر التاريخي لإقليم فزان (1943- 1951) من المنطقة. وفي أبريل/نيسان 2021، حلق طيران حربي لمرتزقة فاغنر فوق تمنهنت وسرت، أشبه باستعراض قوة، بالتزامن مع تصاعد الصراع مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) في البحر الأسود قرب سواحل شبه جزيرة القرم الأوكرانية التي تحتلها روسيا.
ورغم الضغوط الأمريكية والغربية الشديدة على فاغنر والعقوبات المسلطة عليها للخروج من ليبيا، طبقاً لما نصت عليه مخرجات مؤتمر برلين الأول والثاني، وأيضاً اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في جنيف 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، إلا أنه لا توجد أي مؤشرات عن انسحاب وشيك لفاغنر من ليبيا.
وكانت شبكة CNN الأمريكية قد نشرت تقريراً يظهر المرتزقة الروس وهم يحفرون خندقاً ويقيمون تحصينات لتأمين مواقعهم في سرت والجفرة، في إشارة واضحة إلى أنهم ينوون البقاء في البلاد.
بل على العكس من ذلك، يعزز المرتزقة الروس من مكاسبهم في ليبيا، بدليل أن خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي (نيابي استشاري)، كشف، في 10 يوليو/تموز 2021، أن مرتزقة فاغنر تضاعف عددهم منذ اتفاق وقف إطلاق النار. وفي يونيو/حزيران 2020، قدرت القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) عدد مرتزقة فاغنر بنحو 2000 عنصر.
مفتاح الساحل الإفريقي
لكن فاغنر لا تجند فقط مقاتلين روساً ومن أوروبا الشرقية، بل أيضاً مرتزقة من سوريا موالين لنظام بشار الأسد، وحتى مرتزقة تشاديين وسودانيين. فزعيم المتمردين التشاديين محمد مهدي، الذي قاد هجوماً على شمالي تشاد انطلاقاً من الجنوب الليبي في أبريل/نيسان الماضي، اعترف لصحيفة ميديا بارت الفرنسية بأن ميليشياته تلقت تدريبات على يد مرتزقة فاغنر في قاعدتي براك الشاطئ وتمنهنت ومناطق أخرى في الجنوب الليبي.
وهذا الاعتراف يتقاطع مع اتهامات أمريكية لفاغنر بدعم هجوم المتمردين على شمال تشاد وتوغلهم إلى المناطق الغربية القريبة من العاصمة نجامينا، مما تسبب في مقتل الرئيس إدريس ديبي، واستيلاء مجلس عسكري على السلطة بقيادة نجله محمد ديبي. وهجوم المتمردين على شمال تشاد نبه العالم إلى خطورة تواجد المرتزقة الأجانب في الجنوب الليبي على أمن واستقرار دول الساحل التي تخوض حرباً مصيرية ضد الجماعات المتطرفة.
فاستراتيجية موسكو لا تتمثل فقط في طرد فرنسا من الجنوب الليبي بل من كامل منطقة الساحل الإفريقي، وفزان يمثل نقطة الانطلاق الروسية لتحقيق هذا الهدف.
وتعتبر تشاد الهدف الأول لموسكو لوقوعها بين فكي الكماشة الروسية في جمهورية إفريقيا الوسطى جنوباً وإقليم فزان الليبي شمالاً، خاصة أن نظام ديبي الأب والابن شكل تهديداً على المصالح الروسية في المنطقة باعتباره شرطي فرنسا في الساحل.
مالي هدف سانح أمام روسيا
أما مالي فقد تكون الهدف السهل لموسكو، حيث أطاح انقلاب قاده العقيد آسيمي كويتا، المحسوب على روسيا، بحكم الرئيس المؤقت باه نداو، في مايو/أيار الماضي. وترتفع الأعلام الروسية في المظاهرات التي تخرج في شوارع باماكو العاصمة المالية مطالبة برحيل القوات الفرنسية، التي يلاحقها إرثها الاستعماري للبلاد، مقابل استعادة الماليين لدور الاتحاد السوفييتي في دعم استقلالهم بقيادة الزعيم الاشتراكي موديبو كيتا (1960 -1968).
وكان انقلاب كويتا سبباً مباشراً في إنهاء فرنسا عملية برخان العسكرية في الساحل، وإفساح المجال لأفريكوم لقيادة المنطقة، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ عهد باراك أوباما (2009-2016) تميل إلى تكتيك "القيادة من الخلف"، من خلال تدريب الجيوش المحلية وتسليحها ودعمها لوجستياً بالإضافة إلى الضربات الجوية عبر الطائرات المسيرة للأهداف المعادية.
وأقنعت فرنسا الرئيس السابق دونالد ترامب بعدم الانسحاب من الساحل خاصة في ظل الدور اللوجيستي الهام الذي تقدمه لقوات برخان في مواجهة الجماعات المسلحة. وليس مؤكداً أن باريس بإمكانها إقناع الولايات المتحدة بقيادة الحرب على الإرهاب في الساحل بالتزامن مع إنهاء عملية برخان وانسحاب واشنطن من أفغانستان.
فانكفاء الولايات المتحدة على نفسها بعد 20 سنة من "الحرب على الإرهاب"، وعجز فرنسا عن خوض حرب طويلة الأمد وعدم قدرتها على تحمل خسائر مادية وبشرية تفوق إمكانيات اقتصادها المنهك بفعل وباء كورونا، يفتح المجال أمام موسكو للتمدد أكثر في منطقة الساحل. وإحدى دلالات هذا التمدد، توقيع روسيا وموريتانيا، في 23 يونيو/حزيران الماضي، مذكرة تفاهم عسكري شملت التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، والتعليم والطب العسكريين.
ماذا عن الجزائر إذن؟
تنظر الجزائر بحذر إلى تواجد مرتزقة فاغنر في الجنوب الغربي الليبي المحاذي لحدودها الجنوبية الشرقية، فكما أن فزان بوابة للساحل الإفريقي فهو بوابة أيضاً نحو أراضيها. ووقوف فاغنر إلى جانب حفتر، الذي يتخذ مواقف حادة تجاه الجزائر، يدفع الأخيرة لتنسيق سياساتها في المنطقة مع موسكو لتجنب أي خلاف أو اصطدام للمصالح في الجنوب الليبي.
وتأتي زيارة قائد الأركان الجزائري سعيد شنقريحة إلى موسكو ضمن هذا السياق، حيث أشار خلال زيارته لموسكو ما بين 21 و23 يونيو/حزيران الماضي، إلى أن علاقات بلاده مع روسيا بصدد "التعزيز عبر المزيد من المشاورات والتعاون المثمر بين الطرفين".
وفي كلمته خلال الندوة التاسعة للأمن الدولي بموسكو كان لافتاً تأكيد شنقريحة أن الجزائر "تلعب دوراً مركزياً ليس فقط في البحر المتوسط وشمال إفريقيا، بل في جميع أنحاء القارة".
وكل هذه المؤشرات تعني رغبة جزائرية في توسيع التشاور مع روسيا ليشمل أيضاً منطقة الساحل وكامل القارة الإفريقية، باعتباره القوة الثانية عسكرياً في القارة، والرابعة اقتصادياً، ناهيك عن نفوذها الدبلوماسي ضمن الاتحاد الإفريقي وبالأخص مجلس السلم والأمن بالاتحاد، حيث تعتبر الجزائر من بين خمس دول الأكبر تمويلاً لميزانية المنظمة الإفريقية.
فالفراغ الفرنسي في الساحل قد تملؤه روسيا بالتنسيق مع الجزائر، بينما قد يتم تحجيم دور ميليشيات حفتر في منطقة غات الحدودية مع الجزائر، الخاضعة لسيطرة قوات من الطوارق بقيادة الفريق علي كنة، الموالي لحكومة الوحدة الوطنية.
وعلى عكس ما أعلنته ميليشيات حفتر من سيطرتها على المعبر الحدودي إيسين/ تين الكوم، لم يرصد الجيش الجزائري تواجد هذه الميليشيات على الطرف الآخر من الحدود، بحسب تقارير إعلامية. ما يعني أن مزاعم ميليشيات حفتر مجرد فقاعة إعلامية لجس نبض الجيش الجزائري، الذي يمثل له الجنوب الليبي منطقة حساسة لأمنه القومي.
وسبق للجزائر أن رفضت تدخلاً عسكرياً فرنسياً علنياً في الجنوب الليبي انطلاقاً من تشاد، مما اضطر باريس للتحرك بشكل محدود وسري في المنطقة (ما بين 2014 و2020)، بحسب محللين فرنسيين.
كما أن عدة عناصر إرهابية من أصل جزائري اتخذت من الجنوب الليبي قاعدة خلفية لاستهداف البلاد على غرار زعيم "حركة أبناء الصحراء من أجل العدالة"، عبدالسلام طرمون، الذي قتل في مدينة سبها، مركز إقليم فزان، في ظروف غامضة.
وليست فقط روسيا وفرنسا والجزائر المعنية بالجنوب الليبي بل الولايات المتحدة تمثل لاعباً آخر ولو من بعيد في فزان، حيث شنت طائرات مسيرة أمريكية عدة غارات استهدفت تجمعات لعناصر يشتبه في أنهم يتبعون لتنظيمات إرهابية، خاصة حول مدينتي مرزق وأوباري. فالجنوب الليبي الغني بالنفط والغاز وأيضاً الذهب واليورانيوم والمياه الجوفية، يكاد يتحول إلى منطقة نفوذ خالصة لروسيا، ما يجعل إخراج فاغنر مسألة غاية في التعقيد.